الصحافة السودانية في الوثائق البريطانية

TT

أصدر المجلس القومي للصحافة السودانية سلسلة توثق لتاريخ الصحافة، وآخرها كتاب بعنوان «بين السياسة والصحافة في السودان» الذي اشتمل على مجموعة وثائق للادارة البريطانية غطت الفترة 1920 ـ 1960. وتتناول الوثائق البريطانية نشأة وتطور الصحافة السودانية، التي يرجع تاريخها الى عام 1903.

وهي تكشف وقائع مثيرة دارت عن تلك الحقبة من تاريخ السودان، اذ كانت الادارة البريطانية تتابع بعناية بالغة ما يكتب في الصحافة، وتحرص على معرفة الكتّاب الذين يكتبون مقالات نقدية باسماء مستعارة.

ورغم محدودية الصحف في تلك الفترة المبكرة وقلة المتعلمين الا ان الادارة البريطانية أبدت مخاوف مبكرة تجاهها، كالحاكم العام البريطاني سير جون قال في وثيقة بتاريخ 8 مايو (آيار) 1920 «لقد احدثت الصحافة في البلدان الخاضعة للوصاية اضرارا بلا حدود، وربما يكون من واجبنا ان نتخذ حيالها سياسة صارمة قبل ان يفلت الحصان من الاسطبل». ورغم ان صحافة تلك الفترة اكتفت بنقل اخبار المصالح الحكومية، وربما مارست النقد بحذر شديد، الا ان احد تقارير المخابرات البريطانية في الخرطوم ذكر: «أن واجب الحكومة أن تعاقب أي صحيفة تتعدى حدودها بعلقة ساخنة» ويقصد التعطيل أو التقديم للمحاكمة. وكشفت الوثائق تركيز الادارة البريطانية وخلال مؤتمر عقد برئاسة الحاكم العام في عام 1938، على ان يتشرب السودانيون الثقافة البريطانية، ويبتعدوا عن الثقافة المصرية، على اعتبار انها «ثقافة مشوهة». وحظرت الادارة البريطانية على موظفي الحكومة الكتابة في الصحف إلا عن طريقة رؤساء مصالحهم الحكومية لضمان اتباعهم السياسة المرسومة.

وكشفت الوثائق كذلك ان الجالية اليهودية قدمت شكوى ضد مقال كتبه محمد أحمد محجوب في مجلة «الفجر» عام 1935 بعنوان «بلاد الجحيم»، حيث انتقد سيدة يهودية وصفت طقس السودان بأنه «جحيم»، وتساءل المقال اذا كان طقس السودان هو الجحيم فلماذا عاشت فيه؟ وقالت لجنة الجالية اليهودية في احتجاجها على المقال المذكور ان ما كتبه الكاتب يعكس انتماءه الى الطبقة المعادية للسامية، وان الكاتب ضد اليهود على وجه الخصوص وضد العناصر الاوروبية عموماً.

وقد اهتمت الادارة البريطانية بمذكرة الجالية اليهودية «لأنها كانت في حالة انزعاج، وقد التقى مدير مديرية الخرطوم البريطاني وحاكم الخرطوم، برئيس الجالية ووعده بتوجيه تأنيب صارم وعدم نشر ما يشبه ذلك مستقبلا». وللمفارقة، فإن محمد احمد محجوب كاتب ذلك المقال اصبح عام 1956 وزيرا لخارجية السودان، وكان الناطق باسم الوفود العربية في الأمم المتحدة ابان المداولات بخصوص العدوان الثلاثي على مصر 1956 وقد استخدم القانون الدولي في التنديد بالعدوان الاسرائيلي ـ البريطاني ـ الفرنسي ووصفه «بأنه همجي»، وطالب بالانسحاب ودفع تعويضات كاملة لمصر نتيجة ما الحقه العدوان من خسائر مادية وبشرية. وهو ايضا الذي صاغ لاءات الخرطوم الثلاثة، لا صلح مع اسرائيل ولا اعتراف بها ولا مفاوضات معها الا بعد الاعتراف بحقوق عرب فلسطين في بلدهم وارضهم، وذلك في قمة الخرطوم في اغسطس 1967 وبعد وقوع هزيمة 5 يونيو 1967. وحوت الوثائق البريطانية الفاظا حادة وكلمات نابية، قال عنها مؤلف الكتاب: انها تعكس ان الادارة البريطانية الحاكمة كانت تنظر الى الصحافة الوطنية كأداة هدم وتدمير».

وتضمن الكتاب فصلاً بعنوان «حرب الاغريق» كما اسماها السكرتير المالي والحاكم العام البريطاني آنذاك، اذ كانت الجالية الاغريقية ذات نفوذ اقتصادي واسع النطاق نسبيا في السودان، ومن هذا النفوذ استمدت الجالية نفوذها السياسي في المجتمع السوداني، وكان امبراطور الجالية هو كونت ميخالوس اول رئيس للغرفة التجارية السودانية وعرف عنه اهتمامه بالمساهمة في نشر الصحف اليومية وشراء أو التخلص من الصحف التي تنتقده وهو شخصية مثيرة للجدل، لكنه ظل موضع احترام السودانيين لانحيازه للمشاريع التعليمية والخيرية للسودانيين.

* الكتاب: بين السياسة والصحافة في السودان

* المؤلف: محجوب عبد الملك

* الناشر: المجلس القومي للصحافة السودانية