تغير استراتيجيات الغرب ونظرته للشرق بعد أحداث 11 سبتمبر

يرى المؤلف أن الطريق أصبح الآن ممهدا لبروز وعي جديد بالغرب خاصة بعد انحسار موجة الاستشراق

TT

يبدو لي ان سؤال الشرق والغرب سيظل يطل برأسه في حياتنا، ويفرض نفسه على أشكال الخطاب التي تسود هذه الحياة ثقافيا واجتماعيا وسياسيا، وغيرها.

ومهما تغيرت زوايا الرؤية، ومجريات الامور سيظل هذا السؤال دائم الحضور، وله القدرة على إعادة انتاج ذاته بأقنعة وصيغ مختلفة، فها هو يطرح نفسه بالأمس في ثنائية الشمال والجنوب، ووعي الأنا ووعي الآخر، ثم يتجدد اليوم في العولمة وصراع الحضارات وحوار الأديان وغيرها.

وعلى الرغم من ان صورة الغرب والشرق نضت عنها ثوبها القديم، الروحاني في مقابل المادي، واهتزت هذه الصورة في الكثير من مرجعيات مجتمعات الشرق العربي بفعل عوامل كثيرة ابرزها سياسي، الا ان الحضور المبهر للغرب في الشرق لا يزال يحتل مساحة حساسة ومؤثرة، بخاصة لدى قطاعات كثيرة من المثقفين العرب. وقد يبدو هذا شيئا بديهيا في اطار جدلية التأثير والتأثر، وبحكم عوامل التفوق العلمي والتكنولوجي، لكن الذي لا يبدو طبيعيا هو هذا الولع بالغرب والذي يصل الى حد الهوس لدى هؤلاء المثقفين. حتى اصبح الشرق بالنسبة لهم مجرد هامش ضيق وعابر، مجرد نثار ضحل من الذكريات، والمدهش ان وعي معظم هؤلاء المثقفين ينهض دائما على اعادة ترميم صورة الغرب وتزيينها بشتى السبل، لتظل محتفظة برونقها القديم ـ الجديد، على الاقل في اذهانهم، وبعيدا عن حماقات الغرب التي تحاصرنا كل يوم، وسياساته ومواقفه التي تتجسد امام أعيننا كل يوم في القضية الفلسطينية، وحصار العراق وغيرهما، ناهيك من تقويضه أية مشاريع للتنمية، أو تقليم أظافرها عند حدود معينة، ليظل الغرب وحده بيده أسباب القوة والمنعة.

وعلى ذلك، هل السؤال الذي يجب طرحه في اللحظة الراهنة هو: كيف نعي الغرب، كيف نقدم انفسنا اليه في ضوء المعطيات الجديدة التي تسود العالم الآن؟ ام هو وببساطة شديدة: كيف نعي انفسنا اولا حتى يمكننا تقديم هذه الصورة بلحمها ودمها الحي، وواقعها المر المرير، وحتى يمكن ان ندخل طرفا مؤثرا وفاعلا، أو على الاقل يؤخذ في الاعتبار في تضاريس هذه المعطيات.

أتصور أنه بعد أحداث 11 سبتمبر (ايلول) الأليمة التي أربكت القطب الأوحد وأصابته في مقتل، واكدت ـ في ما اكدت ـ اهتزاز صورة الغرب بشكل واقعي بل مهين، كان لا بد ان تتغير استراتيجيات الغرب ونظرته للشرق، وربما لأول مرة يدرك الغرب ـ وفي ظل فداحة هذه الاحداث ومأساويتها ـ خطأ المقولة البالية: «الشرق شرق والغرب غرب»، فلقد اختلط الحابل بالنابل، ولم تعد نظرة الاستشراق، بمعاولها القديمة، أو بمعاطفها الجديدة، صالحة بطابعها الغائي الانتقائي لتمرير وتبرير ليس فقط نوازع الهيمنة، بل ايضا صكوك العمالة ـ وبمعنى ألطف ـ صكوك الاستئناس.

بعد تلك الاحداث الدامية، ماذا يفعل الغرب لرأب صدع كرامته المجروحة وخرافة القوة التي أهينت، ماذا يفعل الغرب لكي يؤدب الشرق التي خرجت منه هذه الشرذمة المارقة، وما هو الغطاء الملائم والذي لا يتنافى مع رايات الحرية التي يرفعها، وحقوق الانسان واحترام القانون التي يعلقها كالأجراس الصماء في رقاب الاخرين؟ نعم هو يملك القوة والعتاد، وترسانته العسكرية مكتظة بكل اسلحة الدمار والفتك.. وما دام الغرب قد صدر الينا ـ من قبل ـ غسيل الاموال، فما الضير أن يصدر لنا «غسيل الافكار» هذه المرة، كغطاء لحملته التأديبية؟

وبالفعل مرر الغرب سياسة غسيل الافكار بذكاء شديد، وسرت هذه السياسة كالنار في الهشيم، وانطلت على الشرق العربي الاسلامي. وتحت مظلة هذه السياسة نجح الغرب في تحويل جوهر ودفة الصراع من صراع نفوذ سياسي عسكري، ليصبح صراعا في الرؤى والافكار والمصطلحات، والترويج له بما يملكه من ترسانة اعلامية وتقنيات تكنولوجية مهولة، ومن ثم اصبح الصراع صراع حضارات وأديان، وانبرى كثير من فقهائنا ومفكرينا ومثقفينا لتوضيح الفارق اللفظي الدقيق بين حوار الحضارات، وصدام الحضارات، واقامة الندوات والمنتديات، وتأسيس المنابر والهيئات واللجان لسبك هذا التوضيح، بينما تواصل اميركا وحلفاؤها حملتها التأديبية المشرقية، وتقلب آلتها العسكرية الجهنمية افغانستان رأسا على عقب، وتسوي عاليها بواطيها فوق جثث الاف الضحايا، وتهدد ببدء دورة جديدة من حملتها التأديبية ضد عدد من دول الشرق. يحدث هذا ونحن ما زلنا مشغولين بفقه الكلام، وتدبيج الفتاوي السمجة من مثل: تبيان الوضعية الاسلامية للجندي المسلم المجند في الجيش الاميركي، لو لقي مصرعه في هذه الحملة التأديبية، وهل يعد شهيدا أم لا؟ وغيرها من الافكار والرؤى التي تصم آذاننا ليل نهار.

لست أحرض على معاداة الغرب، فليس كله شرا، بل أؤمن بتلاقح الافكار والرؤى والخبرات، وضرورة الاستفادة من منجز الغرب في العلم والتكنولوجيا والفنون والآداب، وغيرها، بما يتوافق مع روحنا نحن، ويدفعنا الى تكوين وتمتين هويتها وخصوصيتها.

وعلى ذلك اتصور ان سؤال الشرق والغرب الآن هو سؤال هوية بالدرجة الاولى، فلم تعد المسألة: كيف أسير؟ بل أصبحت: من أنا والى أين أسير، وما هو الهدف في نهاية المطاف؟

فجر كل هذه الهواجس في داخلي كتاب الباحث المصري احمد الشيخ «من نقد الاستشراق الى نقد الاستغراب ـ المثقفون العرب والغرب»، وفيه يقدم مقاربة حوارية هامة للتعرف على صورة الغرب لدى عشرة من ألمع مفكرينا وباحثينا المهمومين بقضايا التاريخ والفلسفة والاجتماع، منهم: زكي نجيب محمود، وفؤاد زكريا، وسميح فرسون، وانطوان المقدس وغيرهم.

والكتاب يعد تتمة لكتاب قدمه المؤلف من قبل حول الاستشراق، حاور فيه مجموعة من رموزه الفرنسيين المعاصرين بينهم: جاك بيرك، مكسيم ردونسون، ايف لاكسوت، اوليفيه كاريه، وفرنسوا بورجا.

يرى الشيخ في مقدمته لكتابه الجديد ان الطريق اصبح الان ممهدا لبروز وعي جديد بالغرب، خاصة بعد انحسار موجة الاستشراق الغربي، وبروز تيار علماني من المثقفين العرب يركز اكثر على نقد التبعية الثقافية للغرب. وفي هذا السياق يلوم الشيخ المثقفين العرب في المهجر، لنقدهم المقومات الاساسية والثابتة التي تشكل هوية أمتهم، واثارتهم كذلك الشكوك حول جذور الحضارة العربية التي ـ في رأيه ـ تشكل ارضا خصبة لمقاومة السلطات الاستبدادية، وان كان الشيخ قد التمس العذر لهؤلاء المثقفين نظرا لوضعهم الحرج بين ثقافتين وواقعين ولغتين.

وربما اتفق قليلا مع هذه النظرة التي تحتاج الى تعميق ورؤية اكثر صوابا ودقة، لكن الشيخ حين افترض ان الطريق اصبح ممهدا لبروز وعي جديد لفهم الغرب، لم يوضح لنا ماهية هذا الطريق، وعلى اي اسس وركائز ومقومات ثقافية وفكرية وتاريخية ينهض هذا الوعي، وفي اي اطار منهجي وعلمي سوف يسير، ويتشكل.

في حواره مع زكي نجيب محمود يرى الاخير «ان الينبوع الحضاري الموحد مركزه الغرب اليوم لكن قد لا يجرح هويتنا ان نشارك بالأخذ من الينبوع لأن مركزه الغرب». ويقرر زكي نجيب «ان التبعية ليست في العلم، ولكن في الثقافة التي تشكل الهوية التي ينبغي ان يتفرد بها كل شعب». ويخلص زكي نجيب محمود إلى أن مشكلة العلاقة بين العقلية العربية والعقلية الغربية هو سوء فهم متبادل «ممزوج بكثير من الوهم عندنا وعندهم».

ويرفض فؤاد زكريا أيضا الضجة التي تثار حول مصطلح الاستغراب الذي يدشنه المؤلف، ويرى اننا لا نحتاج لاي نوع من الاستغراب لانه موجود في حياتنا وتعليمنا وثقافتنا منذ القرن التاسع عشر، ويؤكد انه الاولى بنا ان ندرس حضارتنا بما فيه الكفاية «نحن درسنا حضارتنا دراسة تشوهها دائما فكرة القداسة».

ويؤكد زكريا أيضا في نهاية الحوار ان حسم قضايا التنوير والنهضة الثقافية سيكون دائما على ارضية السياسة، و«اللعبة ـ بين الشرق والغرب ـ من اولها لآخرها لعبة سياسية، والدعوة الى التراجع دعوة سياسية ربما كان غطاؤها الخارجي دينيا».

وفي سؤال عن الطريقة التي ادركت بها ثقافتنا الغرب منذ عصر النهضة حتى اليوم، وهل كانت صادقة ودقيقة دائما، ام آن الأوان كي تبدأ مرحلة جديدة في ادراك الغرب وثقافته المتنوعة، يتساءل محمد عزيز الحبابي «عن أي نهضة نتحدث، ومتى نهضنا نحن، وما هي مظاهر هذه النهضة؟ كنا متخلفين وما زلنا».

على هذا المنوال تدور حوارات الكتاب. وعلى الرغم من ان احمد الشيخ يتمتع بقدرة معرفية وجرأة في طرح الكثير من الاسئلة الحساسة على محاوريه، الا انه كثيرا ما اختلط لديه الخاص بالعام، وبدا دفاعه عن فكرة الاستغراب، شاحبا وملتبسا وغير مقنع.

واتصور ورغم تقديري للجهد المبذول في هذا الكتاب واهميته، خاصة الندوة التي تناولت آفاق الاستغراب وشارك فيها نخبة من المفكرين والكتاب، المع والضد، اتصور ان مأزق احمد الشيخ يكمن في انه لم يستطع ان يحل ثنائية «الاستشراق / الاستغراب» وقد دافع عن «الاستغراب» وكأنه ظل وقرين الاستشراق نفسه، كما انه لم يكترث بالفروق الدقيقة تاريخيا واجتماعيا وسياسيا والتي ساهمت في بروز كليهما، الاستشراق والاستغراب، سواء في الغرب أو في الشرق، الامر الذي ضيق مساحة الرؤية زمانيا ومكانيا لفكرة الاستغراب، وجعل كثيرا من المتحاورين يتحفظون عليها، فبدت هذه الفكرة وكأنها نتاج أزمة مصطلح وليست أزمة رؤية.

* من نقد الاستشراق الى نقد الاستغراب: المثقفون العرب والغرب

* المؤلف: أحمد الشيخ

* الناشر: مركز الدراسات الغربية، القاهرة