دير ياسين .. وقائع من تاريخ مستمر

خرائط مفصلة تبين بالأرقام جميع منازل وأبنية القرية الفلسطينية المنكوبة وأسماء أصحابها في كتاب لوليد الخالدي

TT

تبدو مقاربة الواقع الفلسطيني الحالي بالعودة الى احداث عام 1948 امراً شبه حتمي لرسم ملامح المعاناة الفلسطينية المتجددة منذ اكثر من خمسين عاماً، وهو ما يفعله المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي من خلال كتابه «دير ياسين» الصادر عن «مؤسسة الدراسات الفلسطينية». لكن لماذا دير ياسين؟ لماذ اكتسبت دير ياسين رمزية خاصة منذ 9 ابريل (نيسان) 1948 رغم ان المجزرة ترافقت مع اعتداء القوات الصهيونية، في التاريخ نفسه، على حوالي 400 قرية فلسطينية تمّ تدميرها وتهجير اهاليها وانشاء المستعمرات اليهودية عليها؟

فالظروف السياسية التي رافقت حصول المجزرة افرزت عوامل عدة ساعدت على كشف الوقائع وعرضها على الرأي العام العربي والعالمي لتغدو دير ياسين ـ على حد قول الخالدي ـ «رمزاً لافلاس بريطانيا العظمى المعنوي في فلسطين ولدموية الصهيونية وبربريتها».

وكان موقع دير ياسين القريب من القدس ودخول ممثل الصليب الاحمر الدولي القرية واطلاعه على ما جرى فيها، بعد يومين من حصول المجزرة، عاملين ساهما في احداث بعض الضجيج الاعلامي في ظل صمت طغى على كل ما عداه من مجازر في القرى الاخرى. وشكلت مواكب النصر التي طاف خلالها المعتدون بحوالي 150 من اسراهم بين شيوخ ونساء واطفال حصدوهم من دير ياسين، ثم رميهم على حدود الاحياء العربية، شكل كل هذا، مصدراً اساسياً لنقل معاناة الناجين بتفاصيلها الدقيقة. كما مكَّن السجال الدائر آنذاك بين قادة المنظمتين الارهابيتين «شتيرن» و«الإرغون» من جهة وقوات «البلماح» التابعة للهاغاناه من جهة اخرى، بشأن دور كل طرف، في المجزرة، من الكشف عن الكثير من الوقائع والحقائق.

ثمة مساران اساسيان يحكمان التسلسل «الروائي» نوعاً ما للمجزرة الذي ارتكز على شهادات حية ومقابلات مطولة اجريت مع بعض السكان الناجين والمقاتلين من دير ياسين، لتكتسب المعاناة وجهها الحقيقي والمأساوي، بعيداً عن محاولة تصوير ما حصل بالمعركة المتوازية والمتوازنة القوة ـ حسب رأيهم ـ بين الاطراف المتنازعة.

يتناول المسار الاول للكتاب مراحل المجزرة بدءاً بتهيئة الارضية المقنعة لحجج وتبريرات الهجوم المحتمل، مروراً بتطور الاحداث بشكل متتابع وصولاً الى حصول المجزرة.

وفي هذا الاطار، يحاول الكاتب ـ وقد نجح ـ ابراز قرية دير ياسين كرمز للمقاومة رغم اختلال موازين القوى المتصادمة وكنموذج «للصدام بين المنظمات الدولية الصهيوني ذات الطاقات المادية والبشرية الضخمة وبين ارباب عائلات قروية متواضعة يدافعون عن عقر الدار وعتبتها وعن الام والزوجة والبنين والبنات والاحفاد».

وفي قراءة نقدية موضوعية بعيدة عن الخطابية المملة والانفعال غير المبرر، يعمد الخالدي في المسار الثاني الى دحض ادعاءات ومبررات الهجوم الصهيوني من خلال تناول القضايا الرئيسية التي يثيرها اليمين الصهيوني حول واقعة دير ياسين.

وضمن هذا السياق، يركز الكاتب على التناقض في عدد ضحايا دير ياسين ودوافع الهجوم عليها، واثر هذه الواقعة في مجرى القتال في فلسطين، وادعاء الحرص على ارواح العزل من النساء والاطفال. كما يقوِّم موقف اليسار العمالي لناحية موافقة الهاغاناه على الهجوم والمداهنة والرياء في استنكار القيادة العمالية ودوافع استنكارها.

وخلال عرض المسار القتالي، يدخل الكاتب في صلب الحدث مباشرة، حين هجمت قوات منظمتي شتيرن والارغون الصهيونيتين على قرية دير ياسين في 9 ابريل (نيسان) من عام 1948، وكان يسكنها حوالي 75 نسمة تقريباً، قتل منهم اكثر من مائة شخص في قتال عنيف دام اكثر من اثنتي عشرة ساعة، ساندتهما فيه قوات البلماح.

في تلك المرحلة، انتهزت المنظمات الصهيونية التحولات الكبرى على الصعيد السياسي للبدء بتنفيذ ما عرف بخطة «دالت» العبرية الهادفة الى احتلال نقاط حيوية استراتيجية واقامة الدولة اليهودية بقوة السلاح.

كان قرار التقسيم الذي اصدرته هيئة الامم المتحدة في 29 نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1947 الذي قضى بانشاء وضع خاص منفصل للقدس وريفها تحت الوصاية الدولية، مثار تحفظ ورفض من قبل الجهات اليمينية الصهيونية المتمثلة بمنظمتي شتيرن والارغون.

وأصبحت مجزرة دير ياسين مجالاً للتنافس في المجال العسكري بين المنظمات الصهيونية لتحقيق المكاسب السياسية ـ وفق التكتيك الصهيوني ـ والحصول على المناصب على خريطة الدولة العبرية التي رأت النور بعد ستة اشهر من صدور قرار التقسيم وشهر واحد من ارتكاب المجزرة ومجازر اخرى لم يكشف النقاب عنها.

ويظهر جلياً الانحياز البريطاني للنهج الصهيوني، الذي يمكن مقارنته بالتواطؤ الاميركي اليوم، حيث يشير المؤرخ الى انه «على الرغم من قرب دير ياسين من القدس، فان الحكومة البريطانية لم تمدها بالكهرباء او الماء خلافاً ـ طبعاً ـ للمستعمرات المجاورة، كما انها لم تحرك ساكناً طوال المعركة».

وانطلقت الاستعدادات للهجوم على دير ياسين من عدة اعتبارات تتوافق مع الروح العنصرية لـ«إيتسل» التابعة لـ«الإرغون» و«ليحي» التابعة لـ«شتيرن»، وبتوقيت جد مناسب لهما في المفهوم الهجومي، ترافق مع تشييع جثمان القائد عبد القادر الحسيني الذي قاد معركة القسطل الشهيرة وسانده فيها عدد من رجال دير ياسين.

يقول ممثل «ايتسل» بن تسيون كوهين في شهادة له بخط يده: «كان ثمة اختلاف في الآراء ولكن الاكثرية كانت تحبذ تصفية جميع الرجال وكل من يقف بجانبهم، أكانوا شيوخاً ام نساء ام اطفالاً». وبعد الحصول على موافقة قائد الهاغاناه في القدس دافيد شلتئيل في رسالة بعث بها الى كل من المنظمتين، تتبدى الدوافع الحقيقية للهجوم من خلال استغلال عنصر المفاجأة مما يتناقض بشكل تام مع اتفاق عدم الاعتداء الموقع بين دير ياسين ومستعمرة غفعت شاؤول. ورغم التواطؤ البريطاني والتضييق الصهيوني وتقصير القيادات الفلسطينية العربية الفادح والفاضح، كما يصفه الكاتب، فقد ابدى السكان مقاومة شرسة اضطرت معها المنظمتان الى استدعاء عديد من قوات البلماح لمساندة إيتسل التي اصطدمت بصعوبات جمة حسبما افاد ضابط الهاغاناه المناوب يونا بيتلسون.

وتتجلى الهمجية الصهيونية في اسلوب المواجهة من قبل العصابات الصهيونية الذي هدف الى «تجميع القوة المهاجمة بأسرها في مجموعة واحدة تتحرك ضد كل منزل على حدة وتطلق النيران على المنزل بكثافة ثم يتقدم حملة المتفجرات تحت ستارها لنسفه». ويقول باعيل المكلف بمراقبة سير المعركة من قبل قيادة الهاغاناه وتقديم تقرير عن اداء «ايتسل» و«ليحي» العسكري: «شاهدتهم (اي رجال المنظمتين) وكأنه جن جنونهم يركضون في ازقة القرية يدخلون المنازل الواحد تلو الآخر يطلقون النار على من فيها والمصور يلتقط هذه المشاهد التي ما زالت حية في ذاكرتي. فهنا زاوية منزل فيها امرأة واطفال وشيخ مذبوحون، وهناك منزل فيه رجل وامرأة واطفال مذبوحون وهنا وهناك يتناثر الجرحى».

وهنا، يمكن وصف الخالدي بالمؤرخ الاكاديمي الموضوعي، إذ اعتمد على مصادر ووثائق صادرة عن اطراف النزاع، وأورد المعلومات، مشيراً في الحواشي الى مصدر كل معلومة او كل اقتباس.

وقد تطلب منه هذا العمل سنوات من البحث المضني أورد فيه خرائط مفصلة تبين بالارقام جميع منازل وأبنية القرية وملحقا للاطلاع على اصحاب اسماء المنازل.

كما يسجل الكتاب المؤلف قصصاً مرعبة تصل الى حد «رمي الفران في الفرن وهو مشتعل» على حد قول احدى النساء. وتروي زينب عطية ان خمسة يهود اقتحموا منزل عائلتها وأمسك احدهم بأخيها موسى، «فتستغيث وتستعطف ألا يقتله وتعرض عليه مبلغ 200 جنيه في مقابل إنقاذه، فيبدي قبولاً ويأخذ المبلغ ويضعه في جيبه ولكنه يدفع بموسى الى الشارع ويوقفه رافعاً يديه امام حائط ويرديه»، وحكايات عن تعرض الاسيرات «لسلب كل ما عليهن من الحلي والاساور والخواتم والنقود وأغطية الرأس المزينة بالعملات الفضية والذهبية التي اشتهرت بها نساء ريف فلسطين».

ولعل التعبير الابرز للبربرية عند تلك العصابات يرد على لسان يعقوب غيل، شاهد عيان وأصبح عضو كنيست لاحقاً وهو يصف «موكب النصر» عند غفعت شاؤول وسط الاحياء اليهودية في القدس. يقول غيل: عندما مرَّت الشاحنات في حي نحالوت الذي كنت أقطن فيه اخذت الجماهير تبصق على الاسرى وتقذفهم بالحجارة وبأقذر الشتائم. وكان مشهد الهستيريا الجماعية هذه والاسرى ملتصقون ببعضهم البعض للحماية منظراً بشعاً مهيناً لا سابقة له».

وفي حين تؤكد الاطراف المعنية بالصراع الدائر ان عدد الضحايا هو بحدود 240 الى 254 شخصاً، يذكر الكاتب ان العدد الحقيقي هو في حدود 100 قتيل معظمهم من الشيوخ والنساء والاطفال نتيجة احصاء وجهاء دير ياسين، واستناداً الى كراس اصدرته جامعة بيرزيت في الضفة الغربية عن دير ياسين. وتبين قائمة قتلى دير ياسين ـ بحسب الخالدي ـ ان نسبة الاناث والاطفال والصغار (دون الخمس عشرة سنة) والكهول والشيوخ من الذكور، تشكل 75% من جميع الاعمار. وكان الهدف من تضخيم عدد الضحايا إلقاء الرعب في نفوس العرب وتعزيز النفس القتالي لدى الاطراف الصهيونية التي كانت تسعى الى الاشتراك في حكومة اسرائيل المرتقبة بأكبر حصة ممكنة

* دير ياسين

* المؤلف: وليد الخالدي

* الناشر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية