أين تذهب حكايات الجدات والأمهات؟

مائة وستة عشر نصاً أصلياً تذهلنا حين نقرأها بعيون جديدة لما فيها من دقة وعبر تنطبق على حيواتنا وتجاربنا الخاصة

TT

ما الأثر الذي تتركه تلك الحكايات الحالمة والخيالية التي تعودت أن ترويها لنا الجدات والأمهات في نفوسنا حتى بعد أن نكبر؟ وهل تذهب تلك الحكايات وتذوي مع السنين، أم أنها تظل هناك في بعض زوايا الذاكرة تطل بين الفينة والفينة لتدهشنا بحضورها في أذهاننا وكأنها حدثت بالأمس فقط. ولهذا الحضور تأثيرات متعددة منها التأثير الكبير لتلك الحكايات على تشكيل ذائقتنا الأدبية بما يتجاوز ما يدركه الكثيرون منا. فتلك الحكايات هي عملياً الصنف الأدبي الأول الذي تعرفنا عليه، وهي القصص التي تعلمنا كيف نتابعها، نحبها، أو نكرهها، والأهم من ذلك كيف ننقدها. وبمعنى ما فإننا نكبر مع تلك القصص وهي تكبر معنا أيضاً. فهي تحيط بنا من كل جانب رغم إدعائنا بأننا كبرنا عنها ولم نعد نرددها أو نهتم بها، ذاك أنها تتسرب في مخيلتنا ووعينا بهدوء وتعيد إنتاج نفسها.

وفي الثقافة الغربية المعاصرة فإن تلك الحكايات أصبح لها روحاً دائمة عن طريق تجسدها في أفلام دزني الكرتونية الواسعة الانتشار والتأثير. بل إن بعض شخصيات دزني أصبحت رموزا عالمية لها تأثير في الأطفال في معظم بلدان العالم، مثل ميكي ماوس (الفأر ميكي) أو سنو وايت (الثلج الأبيض) أو غيرها. وتتبدى عبقرية أفلام دزني في احتوائها على رموز وشخصيات وقصص من ثقافات أخرى، فهذا علاء الدين واللصوص المقتبس من الثقافة العربية الإسلامية نراه في فلم واسع الانتشار والتأثير، وهذا فيلم الملك الأسد ينقل للأطفال صوراً أفريقية، وهناك أفلام أخرى تدور حول حكايات ورموز روسية، أو صينية، أو يابانية، أو هندية وهكذا. والواقع أنه بعد أن نكبر ومن ثم نعود إلى نصوص الحكايات الأولى للإطلاع عليها من جديد بعين جديدة فإننا نذهل لما نلحظه فيها من دقة وعبر تنطبق على حياتنا وتجربتنا الخاصة. وهذا ما يريد أن يقوله لنا البروفسور جاك زايبس، أستاذ اللغة الألمانية في جامعة منيسوتا بالولايات المتحدة، من خلال هذا الكتاب الكبير الحجم والممتع الذي ضمنه النصوص الأصلية لأهم تلك الحكايات والقصص. يتضمن الكتاب مائة وستة عشر نصاً من تلك الحكايات بأقلام عشرين كاتباً، والهدف من جمعها على شكل نصوص مكتوبة هو التأكيد على أنها تشكل «فرعاً» من فروع الأدب المعترف به والمكتوب، وليس الشفاهي أو المحكي فقط. إضافة إلى ذلك فإن زايبس يريد أن يضع تحت الضوء أسماء الكتاب والمؤلفين الذي أنتجوا هذه الأعمال التي شكلت الوعي في مرحلة الطفولة لملايين الناس، خاصة في أوروبا والغرب. وهو يتوقف بتوسع عند كل واحد من أولئك المؤلفين مقدماً نبذة موسعة عن حياته، وكيف أنخرط في صياغة تلك الحكايات والشكل الذي آلت إليه كما يعرفها الأطفال اليوم. ومن هؤلاء مثلاً نقرأ عن تشارلز بيرولت، سكرتير جان بابتست كولبرت، وزير مالية الملك لويس السادس عشر، وهو السكرتير الذي كتب العديد من تلك الحكايات التي تمزج السياسة بالأمور الأخرى بطريقة ذكية وبارعة. كما نقرأ عن المؤلف الغامض «سترابارولا» الذي لا يعرف عنه إلا القليل، لكن الذي يعتبره زايبس كاتباً من مستوى بوكاشيو. وكذا الأمر بالنسبة لماري كاثرين دولنوي، الليدي الفرنسية التي كان صالونها في أواخر القرن السابع عشر مشتهراً بقراءة تلك الحكايات، وحيث كان ضيوفها يأتون إليه وهم يلبسون ملابس أبطال تلك الحكايات. يستعرض زايبس كيف أن الكثير من الحكايات تأخذ أشكالاً عديدة، وأحياناً صيغ مختلفة، وهو يقارنها جنباً إلى جنب متابعاً الفروقات والتطورات التي حدثت على كل حكاية من الحكايات. وحتى للقارئ غير المتخصص وغير المهتم بالنظرية الأدبية التي تقف خلف كتاب زايبس فإن سرد الحكايات ورصد التشابهات والفروقات في ما بينها يتم بطريقة ممتعة ومثيرة حقاً.

وكما يلاحظ زايبس فإن أكثرنا ينظر إلى تلك المرويات والحكايات على أنها قصص لا زمانية، يظل حدوثها يتكرر في كل وقت بغض النظر عن الزمن الذي كتبت فيه، وعن الذي كتبها. فـ«أميرة الثلج الأبيض والأقزام السبعة» تظل هي هي سواء عدنا إلى النص الأصلي الذي صاغه الأخوة «جيرم» أو أفلام دزني. على أن هذه القصص تطورت وأصبحت ترى وكأن كل منها منفصلة ولها وقعها الخاص، ومنطقها الذي لا يخلو أيضاً من مشكلات أي نص أدبي آخر، إن لجهة النظرة للآخر، أو للتضمينات الخفية التي تحتوي عليها، أو الوعي بالذات أو بتعدد المعاني المرافق لكل وصف فيها. فبطلة قصة «بلوبيرد» التي تكتشف بفضولها أن زوجها قاتل محترف يمكن أن ترى كحكاية ببعدين تصف وضع المرأة في القرون الوسطى. ويقارن زايبس الصيغة الأولية لهذه الحكاية كما كتبها الأخوة «جيرم» بالصيغة التي كتبها لاحقاً «بيرولت»، التي تبدو فيها البطلة أكثر استسلاماً، وكذلك يقارنها بحكاية «سارق بردج غروم» التي تبدو فيها البطلة أكثر نشاطاً. وهنا فإننا نشعر بأنه لا مفر لنا من رؤية التنافس بين نماذج مختلفة من الأولويات التي تقف خلف الصيغة التي كتبها الأخوة «جيرم».

والأهم من ذلك هو أن تقديم ومقارنة صيغ مختلفة لنفس الحكاية مكتوبة من قبل مؤلفين متعددين يتيح لنا الإطلاع على «اللغة» المستخدمة في كل تلك الحكايات. ويوظف زايبس خبرته الأكاديمية الطويلة في تقديم تلك الحكايات وترجمتها والتعليق عليها، فإضافة إلى تلك الخبرة التي توحي بها الكتب والدراسات التي أصدرها وتملأ نفس صفحة في مقدمة الكتاب، فإن زايبس الذي يمارس الترجمة من الإيطالية والفرنسية والألمانية إلى الإنجليزية يصوغ لنا نصوصاً مبدعة ويجمع في كتاب واحد ما يحتاج إلى عدة مؤلفين لجمعه. وكما هو معروف فإن ترجمة الحكايات المخصصة للأطفال هي من أصعب أنواع الترجمة لأنها تشترط المحافظة على الروح الخفيفة للنص، والدعابة والتحاكي القريب مع الطفل، وهي أمور في غاية الصعوبة لتحقيقها حتى في النص الأصلي فضلاً عن المترجم. وبكلمة، فإن كتاب «أدب الحكايات الخيالية» يشكل إضافة متميزة حقاً في الحقول الأدبية الراهنة، وربما يأمل المرء أن يرى كتاباً نظيراً له في اللغة العربية يرصد الحكايات والقصص التي أثرت وما زالت تؤثر في أجيال الأطفال العرب. مع أن الكتاب العربي الأكبر الذي يمكن للمرء أن يشير إليه بكثير من الإعتزاز في هذا السياق هو كتاب «كليلة ودمنة» لأبن المقفع الذي يحتوي على حكايات على ألسنة الحيوانات والطيور لكنها طافحة بالرمزية الاجتماعية والسياسية، وفي نفس الوقت تداولها الأطفال والكبار.

* الكتاب: الأدب العظيم لحكايات الأطفال الخيالية

* ترجمة وتحرير: جاك زيبز

* الناشر: نورتون ـ نيويورك

* خدمة «كامبردج بوك ريفيوز»