رحلتي مع الكتاب

سحرتني حكايات الموالد فسرت وراء دروبها

TT

في احتفاليات مولد «السيد البدوي» مسني سحر الحكايات وسهرت اتابعها سائرا خلف ابطالها في رؤى عجيبة ومدهشة، كنت في ذلك الوقت طفلا قرويا ممسوسا بالحكايات التي ينشدها شعراء الربابة على أوتار قلوبهم كل مساء في ليالي المولد.

كانت الازمنة تتداخل في حكايتهم، وتختلط الفصول، وشخصيات الفرسان ترمح على صهوات الجياد حتى التخوم البعيدة للحلم، فيما تشع تلك الحكايات بملامح وجوه اهل الطريق والسكك، وكانت فصول القص تتوهج حتى تأخذني الدهشة، ويسطع في عيني النور، ولم اكن اعرف ان كنت في الحقيقة، أم كنت في المنام.

عشقت من صغري قص القصص، وفي اغلب الاحيان كنت اتوسط اترابي متمثلا ذلك الشاعر المداح، عاملا من عود قش الاذرة ربابة، واصدح بالصوت في ليل قريتي، وسط بقعة من النور يضيؤها «كلوب» دكان «عبد العزيز زايد» البقال.

دفعني صوت الشاعر الى كتاب «ألف ليلة وليلة» الذي قرأته وأنا على مشارف الصبا، فاحتشد وعي الصبي حينئذ، بصور السحر والخيال، ومدن النحاس، والجواري المغنيات، والصور الحرام، والمردة الاشرار، وفك الطلسم، والدروب المغلقة بالسر والخديعة، وكانت فترة تكوين الخيال.

كانت بداية قادتني للتعرف على الحياة في مكان أعيش فيه، والقبض من اللحظة الاولى على اول زيارات الدهشة، والبحث عن السؤال البسيط عن معنى الحياة والموت؟

ادركت منذ البداية، ان هذه المعرفة الأولية سوف تقودني للقرب من أهل الهامس، وتأمل حياتهم بتناقضاتها، وتعبها، ولحظات الفرح والحزن فيها، انهم هؤلاء الذين انتمي لهم، وأعرف حينما كنت صغيرا انهم فاعلون في الحياة الى حد الحزن، وانهم في كل احوالهم يحتفون بطقوس الميلاد والموت، والفرح ومواسم الحصاد، واغوص عبر ذاكرة هؤلاء الذين انتمي لوجودهم في المكان والزمان التي شكلت بنية ما اكتب، وكانت مثل عامود الجامع الكبير في قريتنا، اكتشفت ان معنى التوكل على الله، يفتح الابواب المغلقة، وان الصبر على الشدائد يذهب بالظلم والظالم، وان وضع بذرة في الارض تعني في كل الاحوال ملأ الصوامع بالخزين، وان صرخة طفل وليد، وثغاء غنمة وليدة، وخوار عجل ينزلق للحياة في مخاضه، تعني ديمومة في المكان والزمان وانه لا فرق بين صرخة الطفل، وصوت ولادة الحيوان، وكلها تمثل فرحة بالعيال والحيوان، وتيقنت عبر تجربة العيش بينهم ان رحلة الميت الى مثواه الاخير هي رحلة سوف تنتهي بلقاء من سبقوه عبر لقاء مؤجل، وعرفت ان فك السحر انعكاف ورغبة في الوصول نحو حرية مستحيلة، وان الاحساس بالزمن، والموت، ومرور السنين، يعلم الحكمة، ويقوي القلب، ويشفي الروح ويملأه بالحنين الى ماضي الزمن الذي يحمل البهجة والحزن.

شكل هذا الكتاب ذلك العالم الملتبس الغامض الذي اكتبه، ودفعني للاعتقاد ان قصة جيدة هي في الحقيقة اقتراب من تحقيق نبوءة كامنة في بطن الغيب، وأي نص جيد، لكاتب موهوب اقتراب من تحقيق نبوءة كامنة في بطن الغيب، وهو في كل احواله سعى للحصول على لؤلؤة المستحيل، حلم الفنان في الخلود.

منذ طفولتي، يلتبث عليَّ الامر ويحيرني، وعبر هذه الحيرة اكتسبت خبرتي بالحياة، ومن معرفة قديمة بهؤلاء الناس ـ الفقراء ـ سواء كانوا في قرية، أو في مدينة، سعيت للنبش في تلك المنطقة الغامضة لارواح المصريين تلك المنطقة التي تحتشد بزمن قديم. مقدر على العباد ان يعيشوه بتراتب من العمر، وصفه يوما الراحل الكريم د. شكري عياد في دراسة مهمة عن مجموعتي «سدرة المنتهى»، بأنه الزمن البئر، حيث لا يتميز فيه الماضي عن الحاضر، أو المستقبل وتتقطر فيه تجارب الانسان، والتي لا تختلف في جوهرها بين انسان عاش منذ الآف السنين، وانسان يولد اليوم أو يموت في قرية مصرية فالولادة والموت لا فرق بينهما في زمن يعني فهم الفنان للخلود والروح والحضارة.

هذا كلام كبير.. ومثلي لا يستطيع ان يتحمل ثقله.

دائما ـ برغم الشيب الذي خط الرأس ـ اكتب بروح ذلك الغلام، الذي دائما ما يسترجع وعيه القديم، عبر صوت «كامو» الهائل: «أي طفل لا يكون شيئا بذاته».

اعيش لغتي الخاصة، وهي لغة مزدحمة بالشعر، وتحمل مخاوفي الانسانية، وتحتشد بالاساطير والرموز والاسرار، مقيما فيها، تجذبني ناحية تلك الارض التي أود المكوث بها، ومن ثم الموت في أديمها.

أكتب نفسي، وأهلي، واستعين بالتعبير عن هذا العالم بمعرفة ما يكتبه الآخرون، هؤلاء، الذين اضاءوا امامي الطريق، وسوف اظل، من ذلك الزمن الموغل في القدم، وحتى أوان الرحيل الاخير مثل رجل «بورخيس»، الذي آل على نفسه ان يرسم العالم، وعبر سنوات عمره المديد، رسم الفضاء، والاقاليم، والممالك، والجبال، والخلجان، والسفن، والمنازل، والكواكب، والبشر، وقبل ان يرحل ناحية ابديته بقليل اكتشف ان كل ما رسمه طوال عمره انما كان يرسم وجهه هو.