جهل متبادل

فاضل السلطاني

TT

من ركام خرائب برجي نيويورك، نهضت اسئلة جديدة تجاوزت جغرافية المكان الذي شهد احداث الحادي عشر من سبتمبر، وتحولت هذه الاسئلة، وهي ستظل مطروحة لأمد طويل، الى نوع من المراجعة المنطوية على رغبة بالمعرفة وشعور بالذنب في الوقت نفسه. عند كثير من المثقفين الغربيين، لم يكن الشرق، عموماً، سوى ذلك المكان الساحر العاج بالغرابة والأساطير والشمس ايضاً. موضوع صالح للاستلهام اكثر من كونه ذاتاً لها كينونتها وتاريخها الخاصين واشواقها وتاريخها المعذب المقذوف خارج السياق، السياق الذي حفره وحدد اتجاهاته الآخرون، هناك في الغرب البعيد أو الغرب الضاري. وكل ما يعرفه هؤلاء الآخرون عنا، عرفوه كموضوع تاريخي درسه علم الاستشراق.

كنا، تقريباً، مجرد مادة في هذا العلم في غرف الدرس الضيقة، ماضياً للدراسة الجادة أو الساخرة، وقلما عرف الآخرون شيئاً من حاضرنا الذي نعيش. ولا نعني بالآخرين هنا الاكاديميين والباحثين والمختصين، وانما ذلك التيار العريض من الناس الذين يشكلون الرأي العام.

ولكن يبدو ان كل شيء تغير بعد 11 سبتمبر. ويلاحظ المرء أن هناك رغبة قوية في التعرف على الآخر الذي هو «نحن» الآن، تعرفاً انسانياً حقيقياً خارج الصور التي يرسمها الاعلام، وخارج الاطار الذي حدده قسم من المستشرقين، ولا نريد ان نتفاءل كثيراً بالقول ان مقولة الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا لم تعد نافذة الصلاحية، ولكن هناك شيئا يحدث يمكن ان يحول هذه المقولة البغيضة التي تقسم البشرية الواحدة الدم والوجدان والمطامح، والعذاب ايضاً، الى معسكرين متناحرين الى الأبد.

ولا شك ان هناك متطلبات لكي ننجح في تحويل هذه الرغبة في المعرفة الى مبدأ، فبدون ذلك ستتحول الى رماد مع النار التي ولدتها. والشيء الكثير يعتمد علينا في المجال لأن القضية هي قضيتنا أولاً.

وتأتي في المقدمة نوعية خطابنا الفكري والثقافي الذي ما زال للأسف خطاباً احادي الجانب، بمعنى انه يتوجه الينا، اكثر مما يتوجه للآخر، ويحاول اقناعنا بما نحن مؤمنون به حتى النخاع.

وهو خطاب محكوم بالعمومية ايضاً، وهكذا شاعت فيه مصطلحات لم تميز بين الحاكم والمحكوم، والمناصر والمعادي، والصهيوني واليهودي.. الخ.

فخسرنا بذلك الكثير، وسنخسر اكثر حين نضع الغرب كله في سلة واحدة، كما وضع البعض علم الاستشراق كله في سلة واحدة.

واذا كنا نتهم المثقفين والمفكرين الغربيين بعدم معرفتهم الكافية الضرورية لفهمنا، فإننا، من جانب آخر، لا نعرفهم تماماً، ولا يزال البعض يرى في الدعوة الى انشاء معاهد لما سمي «علم الاستغراب» في جامعاتنا، التي توقفت في تدريس الأدب الانجليزي، مثلا، عند مرحلة الاربعينات والخمسينات، دعوة مستهجنة، وربما استعمارية صهيونية، مكرسين، بوعي أو دون وعي، ما أراده كبلنج وامثاله من أن يبقى الغرب غرباً والشرق شرقاً ولن يلتقيا، متناسين ان البشرية وحدة متكاملة.