صورة أخرى غير تقليدية من أفريقيا

جورج آلاغايا، أحد اعلاميي هيئة الاذاعة البريطانية، يمزج بين سيرته الذاتية والمنطقة التي ينتمي اليها

TT

جورج آلاغايا واحد من أشهر صحافيي واعلاميي الـ«بي. بي. سي» في بريطانيا، ومعروف بتغطياته المميزة في أفريقيا، وخاصة في مناطق الحرب والمجاعات وحيثما يتواجد الخطر أو المأساة التي قليلاً ما يجرؤ صحافيون على تغطيتها. وقد أقام في جنوب أفريقيا بين سنوات 1994 و1998، حيث كان مراسل هيئة الاذاعة البريطانية في القارة السمراء التي ينتمي اليها وفيها ترعرع. وهو هنا يقدم لنا هذا الكتاب الجذاب بأسلوبه ومعلوماته وانحيازه للقارة الفقيرة. والكتاب بشكل أو بآخر هو مزيج بين سيرة ذاتية لهذا الطفل الأفريقي، وقضايا البلد والمنطقة التي ينتمي اليها. على أن هدف آلاغايا من هذا الكتاب هو نقض الصورة النمطية عن أفريقيا التي تعكس قارة معذبة تطحنها الحروب، وتدوسها الكوارث والمجاعات. انه يريد أن يقدم لنا صورة أخرى عن أفريقيا، صورة الأمل والتفاؤل، صورة الناس العاديين الذين تعلو وجوههم الابتسامة رغم كل الضنك الذي يحيط ببلدانهم، صورة السعادة العذراء التي لا ترتبط بالغنى والفقر بقدر ما تربط بطمأنينة وسكينة صارت عزيزة المنال في مدن الغرب الصاخبة. ولد جورج آلاغايا أصلاً في سيري لانكا، وعندما بلغ الخامسة هربت عائلته من هناك من صراعات التاميل والسينهاليين، وتوجهت الى غانا في أفريقيا الوسطى. وفي غانا، البلد الأفريقي الأول الذي استقل عن الاستعمار البريطاني، انخرط جورج في حياته الجديدة، ان في المدرسة، أو في وسط الأصدقاء الجدد، وتمتع بالأمن الذي لم يتوفر له ولعائلته في سري لانكا. لكن، منذ سنوات طفولته رافقه ذلك الحلم الطوباوي الكبير الذي قضى آخرون حياتهم من أجل تحقيقه من دون نتيجة، وفي مقدمتهم نكروما، الزعيم الغاني الأفريقي الأشهر، قائد حركة التحرير في الستينات وصاحب شعار أفريقيا الموحدة. غير أن جورج الذي يستحوذ عليه الحلم الأفريقي الكبير بقارة موحدة، اكتشف بعد مؤتمر منظمة الوحدة الأفريقية عام 1965 أن الاتحاد الأفريقي ليس الا شكلاً من دون مضمون. والواقع كان مختلفاً عما كان يحلم به على الدوام. وكان هذا الواقع، بكل صلفه وعدم رومانسيته، قد أخذ أبعاداً أخرى بعيداً عن الحلم الكبير مع الانقلاب العسكري الذي وقع في غانا عام 1966 وعمق شكوك آلاغايا بالوعد الأفريقي. وخلال مرحلة انتقاله من الطفولة الى البلوغ، كانت غانا تنتقل من حقبة الاستقلال الى الفوضى. ومن هناك أرسله أهله الى انجلترا لمتابعة دروسه الثانوية في مدرسة داخلية، وأكمل تعليمه ونضوجه في بريطانيا الى أن عاد الى غانا بعد خمس وعشرين سنة من الغياب عنها. والجولة التي يصحبنا فيها آلاغايا في هذا الكتاب تتجاوز غانا الى العديد من البلدان الأفريقية التي زارها ومكث فيها وغطى أحداثها كمراسل لهيئة التلفزة البريطانية. وفي الوقت الذي تنقل لنا فيه هذه الجولة صور فظيعة عن الصراعات والمآسي التي ضربت القارة فانها تقدم لنا الوجه الانساني الآخر لقارة وبلدان وشعوب تحن الى السلام فيما بينها وتحلم بمستقبل وديع خال من الحروب والدماء. وفي الجانب المظلم يغطي آلاغايا تفاصيل المجاعة في الصومال، والابادة البشرية في رواندا، والصراعات الدموية التي رافقت سقوط موبوتو في الكونغو (زائير سابقاً). أما في الجانب المشرق فيقدم لنا آلاغايا تجربة يوغندا من خلال مقابلة مطولة مع زعيمها يوري موسيفيني حيث ينظر اليه بتقدير معتبراً اياه القيادي الذي وضع أوغندا على طريق الانتعاش. وفي نفس الجانب من الصورة يتوقف آلاغايا عند حالة التحرر من حكم الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا بقيادة نيلسون مانديلا.

وفي هذه الحالات جميعاً يفصل لنا آلاغايا ما لم تفصله لنا الكاميرا التلفزيونية عندما كان يغطي الأحداث في وقتها. فالأسئلة الكثيرة التي كانت وما تزال تجول بعقول ملايين المشاهدين بعيد متابعتهم لتقرير تلفزيوني ما حول كارثة أو حرب أو وضع انساني محزن هو كيف تستمر الحياة بفظاعاتها في ذلك الجزء من العالم بعد أن ينتهي التقرير وينتقل مذيع الأخبار الى موضوع آخر. هنا، في «ممر الى أفريقيا»، تتاح لنا الفرصة كي ندلف خلف عدسة الكاميرا لنرى ما لم تصوره وما لم تنقله لنا. ففي الصومال يرسم لنا آلاغايا صورة تفصيلية حول «نظام» الرشاوى والأتاوات الذي فرضه أمراء الحرب الأهلية هناك على هيئات الاغاثة الانسانية لقاء السماح لقوافل المعونة بالمرور من أراضيهم للوصول الى مئات الألوف من الجوعى والمحتاجين في المناطق النائية. ويذكر كيف أن ثلث تلك المعونة كان يضيع أو يسرق في الميدان ولا يصل الى المستحقين. ويربط هذا الوضع بالتدخل الأميركي آنذاك، في مطلع التسعينات من القرن الماضي، بغية حماية قوافل الاغاثة وتأمين الطرقات. والواقع أن آلاغايا يظهر قسوة بادية في الحكم على طريقة ادارة الأزمة الصومالية. فهو يرى التدخل الغربي عموماً، والأميركي خصوصاً، قد تأخر كثيراً، ولم يكن له هدف أو سياسة واضحة. والمؤسف في الأمر أن النتيجة المأساوية، وفشل التدخل الأميركي، أورثت عقدة نفسية عند الأميركيين ضد التورط في التدخل الانساني مهما كان الأمر. ولذلك، فعندما اندلعت الحرب الأهلية في رواندا، وقامت حروب ابادة متبادلة فان المجتمع الدولي الفاعل والمؤثر، أي الغرب، وقف يتفرج من دون أي تدخل يذكر الا بعد أن سقط مئات الألوف من الأبرياء.

نتعرف في الكتاب أيضاً على مجموعات من الناس العاديين الذين التقاهم آلاغايا خلال سنوات تجواله في القارة. فهناك سيث الذي تعرف عليه في زائير أثناء بحثه عن مترجم يرافقه الى داخل رواندا. وسيث مثله مثل ملايين آخرين من الهوتو هرب الى زائير عندما استولت الجبهة الوطنية المتحدة، بقيادة التوتسي، على الحكم في رواندا وأنهت عمليات الابادة. ويخبرنا آلاغايا كيف استنتج أن سيث لم يشارك في أية عمليات ابادة وكيف ترافقا وأصبحا صديقين. لكن يتبين لاحقاً أن سيث نفسه كان مشتبهاً في تواطئه في تلك العمليات اذ ألقي القبض عليه وحوكم وسجن. وصاحبنا جورج يعتقد في قرارة نفسه ببراءة صديقه، لكن جورج الشخص لا يتغلب على آلاغايا الصحافي الذي يريد أن يتأكد من كل شيء بالحقائق لا بالعواطف والمشاعر. غير أن الحقائق تبدو وكأنها تؤكد الشبهة التي تؤيدها قرائن تواطوء سيث مع ميليشيات الهوتو في البحث عن أفراد من التوتسي، حتى أن سيث قاد تلك الميليشيات الى زوجته نفسها التي كانت من التوتسي.

* خدمة كمبريدج بوك ريفيوز Alagiah, George, A Passage to Africa

* ممر الى أفريقيا

* لندن: ليتل براون London: Little, Brown, 2001, 286pp