سيرة إنجليزية عن مؤسس دولة الكويت الحديثة تتجنب القضايا الخلافية

TT

ترى ما هو شعورك عندما تقدم إليك سيرة لحاكم خليجي؟ ستعتقد على الفور انها وصلة نفاق على شكل سيرة، خاصة إن السيرة تعتبر غالباً من أنواع الأدب الأقل شأنا. وعلى كل حال فكاتب هذا المقال صاحب تجربة مع السيرة، فحتى الآن «ارتكب» سيرتين وهو مقدر للمهمة الشاقة التي يقوم بها كتاب السيرة وهي مسألة ليست سهلة بالمرة فكيف يمكنك أن تجعل شخصا يعيش حياة شخص آخر، وفي نفس الوقت أن يستطيع الانسان تذكر كل ما مر به من تاريخ حتى تظهر السيرة الذاتية للنور. والحقيقة، إنه من الصعب تقييم السيرة التي كتبها روبرت جارمن عن الشيخ صباح السالم الصباح أمير الكويت خلال الفترة من 1955 حتى عام .1977 فهي تمتلك كثيراً من الصفات التي امتازت بها السير المدفوعة الأجر. فالهدف الواضح منها هو اظهار أمير كويتي راحل بصورة طيبة كلما أمكن، متفادية الحديث عن القضايا الخلافية والنتيجة انها من النوع الذي يمكن أن تزين به موائد القهوة في الكويت وتقدم كهدايا للأصدقاء الناطقين بالانجليزية. ولكن في الوقت نفسه، لا يقدم جارمن اطراء رخيصا في قراءته الجيدة، فصباح السالم الصباح واحد من مجموعة صغيرة من الشخصيات التاريخية التي وصلت للقمة برغم كل التوقعات. وكان ظهوره الأول كرئيس للشرطة في الكويت عام 1939 عندما انتبهت بريطانيا لعمله الجيد والمنظم والمقتصد. وبعد عقدين، عين كولي العهد الا أن أحداً لم يكن يتوقعه أن يصبح أميراً للبلاد يوما ما. فهناك نوعان من السياسيين في التاريخ، النوع الأول يطارد المناصب والنوع الثاني تطارده المناصب والشيخ الصباح ينتمي للنوع الثاني. فبدلاً من الدخول في الصراعات، اكتفى بتحويل نفسه الى اختيار ثان دائماً بالنسبة لأي شخص، وبينما كان المتنافسون على المناصب يحاولون القضاء على المطروحين كاختيار أول كانوا في الوقت نفسه يضعفون قوة بعضهم البعض ويمهدون البساط تحت أقدام سالم الصباح. والحقيقة أن الأساليب التي يتم فيها انتقال السلطة داخل العائلة الحاكمة ليست عنيفة، كما كان يحدث لرجال الدين في فلورنسا في القرن الخامس عشر، لكنها تؤكد في الوقت نفسه، حقيقة أن السلطة، حتى في دولة صغيرة، هي غنيمة مشتهاة من قبل الكثير، لكن الفوز بها لن يكون سوى بالصبر والمهارة وليس بالعجلة والمكائد. وللأسف لم يركز جارمن على هذه القضايا، تاركاً القارئ بدون اشباع. وأنا أعتقد أن هذه هي مشكلة السير الذاتية «المأذونة» عن الحكام. والأمر المخيب الآخر، إنه لا يقدم تفصيلات عن السياق التي نمت فيه الشخصية حتى وصلت للسلطة العليا. فقد عرض للقليل جداً عن الكويت وشعبها وعن بنيتها الاجتماعية والاقتصادية. وكل ماذكره انها كانت امارة وتحولت لدولة مع سرد قليل جداً للأحداث التي وقعت. وربما يرجع سبب فشل جارمن في ذلك إلى اعتماده الكامل على الأرشيف البريطاني، وبشكل أقل على الأرشيف الأميركي، ولكن على الرغم من نقاط الضعف السابقة، تمكن جارمن من تقديم الخطوط العريضة لشخصية صباح السالم الصباح بشكل سليم. فالأمير الراحل كان، في الحقيقة، قوي الشخصية، بالرغم من أن مظهره يوحي بعكس ذلك، وكانت تلك ميزة مهمة للتعامل مع الأعداء في الداخل والخارج عبر أربعة قرون كاملة. وهذه الصفات خدمته في عدد من المناسبات منها عندما بدأ مفاوضات سرية مع العراقيين في الفترة من 1962، عندما قامت بغداد بالمحاولة الأولى لضم آبار بترول الدولة الصغيرة الغنية. وحتى يحافظ على حرية تلك المفاوضات ويضمن عدم تأثرها بأية اعتبارات أخرى كان يقوم بمفاوضات علنية من خلال القنوات الرسمية. وأدت المفاوضات السرية في النهاية الى اعتراف العراق باستقلال الكويت وهو الاعتراف الذي احترمته بغداد طوال السنين الى أن قام صدام حسين بمغامرته عام .1990 وكان صبره وتحمله أيضاً عوامل مهمة للتغلب على الأزمة الدستورية التي تحدته فيها لأول مرة الهيئة التشريعية، مما حال دون الدخول في دوامة الصراع العسكري. غير أن جارمن لم يركز على ماحققه الصباح في الداخل واكتفى بانجازاته على صعيد السياسة الخارجية وهذا أمر فيه اجحاف بحق سالم الصباح. فالعديد من المؤسسات الكويتية الحالية بما فيها أول جامعة انشئت في الكويت وأول هيئة منظمة للصحة ظهر تجميعها خلال حكم سالم الصباح. واليه يعود الفضل في ارساء الأساس المالي المتين للمستقبل وهو ما أنقذ الكويت من صدمة 1990 ـ .1991 لكن سياسات الشيخ صباح السالم الصباح الخارجية كانت بالفعل مثيرة للجدل. ففي السبعينات كان للكويت دور غامض في العلاقة مع القوتين العظميين روسيا وأميركا، وحاولت أن تبدو بمظهر القوة الثالثة باصرارها على أن يكون لها رأي في كل القضايا الاقليمية والعالمية المطروحة. وهذه السياسة التي يطلق عليها الفرنسيون «اعلان العظمة» وضعت الكويت في موقف غامض في أوقات الأزمات، أما الدول العربية الفقيرة فقد كانت تتملق الكويت لتحصل منها على الأموال وكانت الكويت توقع الشيكات وتوزعها على الجميع لتقنع نفسها أنها في قلب الأحداث ( يذكر جارمن أن منظمة فتح بزعامة ياسر عرفات تشكلت في الكويت بشيك وقعه أمير الكويت). كذلك فإن محاولات الصباح لتوحيد الدويلات العربية الصغيرة في الخليج تحت زعامة الكويت أو ما عرف بـ«الامبريالية الكويتية»، استفز دولا مثل البحرين وقطر والامارات السبع التي شكلت الامارات العربية المتحدة، لكن الكويت حققت نصراً صغيراً عندما لعبت دور الوسيط بين السعودية ومصر لانهاء حرب اليمن. عبر السنين اعتادت بعض الدول العربية النظر للكويت على انها بنك للادخار والتسليف، وكل منها كان يطمع في حصته. وأغلب لقاءات القمة العربية كانت تنتهي دائماً بقرارات تدفع فيها الكويت مبلغاً من المال لجهة ما. وكلما كانت الكويت تدفع أكثر كلما أصبحت الطلبات أكثر. ويقول المؤلف ان أحد المفاتيح الأساسية لسياسة الكويت في تهدئة الأوضاع مع العراق كانت الرشوة. وكان القادة العراقيون الكبار في حزب البعث بمن فيهم حردان التكريتي، الذين كانوا تحت قيادة اللواء أحمد حسن البكر متبجحين جداً ويطلبون الأموال بمنتهى التبجح والوقاحة. وقد يتساءل المرء كيف يحدث ذلك والعراق دولة غنية بمواردها البترولية. لكن كان الزعماء العراقيون كلما رأوا أنفسهم مفلسين كانوا يتوجهون للكويت لحل مشكلاتهم المالية. وكانت الكويت تلعب دور الجار الغني الذي يرشي الجيران الفقراء حتى يضمن ألا يسرقوه أو يقتلوه.

وعلى أية حال، لم يشكل ذلك بديلاً عن رسم استراتيجية جديدة بعيدة المدى لتقوية خطوط الدفاع الكويتية الداخلية من خلال تقوية الشعور بهوية محددة، وتوسيع التحالف، في الوقت نفسه، من خلال ترتيبات أمنية مجدية. وارادت الكويت أن تظهر نفسها كدولة غير منحازة، وحتى ضد أميركا قليلاً لتفوت الفرصة على الناصريين والقوميين العرب الذين لم يعترفوا بقوة الكويت أن تكون دولة بذاتها. وجارمن يدعي أن سالم الصباح هو الذي هندس للتحول من سياسة الاعتماد الكامل تقريباً على الدعم العسكري والدبلوماسي البريطاني إلى استراتيجية أكثر مرونة أصبحت فيها الولايات المتحدة الحليف الرئيسي للإمارة. وللأسف فهناك جوانب مفقودة أخرى في تلك السيرة منها الجانب الانساني الخاص فالمؤلف ذكر أن الصباح كان شاعراً لكنه لم يقدم لنا شيئاً من هذا الجانب. وذكر ان الصباح كان يقضي أجازاته الصيفية في مقره ببيروت لكنه لم يقل لنا ماذا كان يفعل هناك. وقال أيضاً ان قرية «بيكونسفيلد» الانجليزية كانت هي المكان المفضل لاجازات الأمير خلال العامين الآخرين من عمره وفي تلك القرية كان الأمير يرتدي الملابس الأوروبية، وكان الجميع ينادونه بلقب «مستر صباح». ورغم ذلك فالطريقة التي تعرض لها جارمن لإجازات شيخ الكويت، كإنسان، لم تكن كافية أو شيقة. ويستعرض المؤلف جوانب عديدة من شخصية الأمير تظهره في صورة الأمير المعتز بنفسه فقد كان يصر على أن يعامل باحترام بالغ من قبل رؤساء الدول الكبرى، فالكويت قد تكون بلداً صغيراً، لكنها تعتزم التصرف كأمة كبيرة. هذه هي الرسالة التي يريد توصيلها للجميع. فمثلاً حاول البريطانيون اقناع الأمير بأن يسدوا له صنيعاً بترتيب زيارة له لبريطانيا، ذاكرين له ان الدعوة الملكية شيء نادر، وأن الملكة لا تستقبل أكثر من ضيفين أجنبيين في العام. وضربوا مثالاً على ذلك بملك أفغانستان الذي انتظر 33 عاماً ليحصل على دعوة منها. وقد استمع الصباح لكل ذلك جيداً، وأوحى لهم بأنه راغب بتلك الدعوة بشدة. وفعلاً وجهت الملكة دعوة شخصية إلى الشيخ الصباح خلال زيارة خاصة له للندن. ولكن ما أدهش الملكة هو أن الشيخ، بعد شكرها على الدعوة، قال لها انه لن يتمكن من القيام بالزيارة في الموعد المحدد فهو مشغول جداً ثم أنه سيذهب الى لبنان لقضاء أجازته. ودهشت الملكة وعلقت قائلة لوزير الخارجية : «يبدو أن الحاكم الكويتي لم يدرك قيمة ما قدمناه له» واضطرب وزير الخارجية فقد كانت المرة الأولى التي يرد فيها حاكم أجنبي على الملكة وتم استخدام كل الوسائل الدبلوماسية المعروفة وكل كلمة في كتاب الدبلوماسية لاقناع الشيخ بتغيير رأيه وزيارة لندن في الموعد الذي حددته الملكة، لكن ذلك كله لم يجعله يغير رأيه فقد كانت رسالته واضحة: يمكنني أن آتي في موعد يناسبني أنا أيضاً وليس أنتم فقط. ولا بد أن يعترف ذلك المعلق الذي ذكر تلك القصة في كتاب جارمن أنه أعجب كثيراً بالشيخ صباح لكن ذلك لم يكن كل شيء. فقد قرر الشيخ صباح أيضاً أن يعامل رئيس الوزراء العمالي هارولد ويلسون، وهو سياسي من الدرجة الثانية، ومغرور متضخم الذات بنفس الطريقة. ففي خلال زيارة خاصة له لبريطانيا، سأل أحد أفرد الحاشية فيما إذا بالإمكان أن يقابل الشيخ ويلسون في زيارة مجاملة. وعلى عادتهم، قال البريطانيون «آه» و «اوه»، وأصروا أن رئيس الوزراء لا يقابل أحداً من المسؤولين الأجانب في زياراتهم الخاصة، وان رئيس الوزراء، ببساطة، مشغول جداً. إنه مجبول من ساق زيوس، كما يقال. وبعد عدة مداولات، اقترحوا على الشيخ أن يذهب الى 10 دوانج ستريت ويقدم احتراماته لرئيس الوزراء. لكن اجابة الشيخ كانت : أشكركم، لا شكراً لكم. وانزعج البريطانيون ثم اقترحوا ان يتم اللقاء في الفندق الذي ينزل به الشيخ صباح أو بالسفارة الكويتية، ولكن المشكلة كانت في تقديم ويلسون.

وأخيراً تم الاتفاق على أن يتصل ويلسون تليفونياً بالشيخ، ثم كانت المفاجأة وهي أن الشيخ لا يرغب في المقابلة والأفضل أن يستغل ويلسون الوقت في مص ابهامه. ولجعل الأمر يسوء أكثر فقد رتب الزائر الكويتي مقابلة مع ادوارد هيث زعيم حزب المحافظين المعارض والذي سيصبح رئيساً للوزراء بعد شهور قليلة. لكن وزارة الخارجية لم تعلق على المقابلة ولا على ما تمت مناقشته خلالها. ولتقليل الضرر أرسلت وزارة الخارجية جروني روبرتس وزير الدولة للتباحث مع الشيخ حول بعض المسائل وهناك أكد لهما الشيخ مفاجآت جديدة فما أن وصل روبرتس حتى بدأ الشيخ في الحديث عن فلسطين وحقوق الفلسطينيين حتى انتهى الوقت. كتاب جارمن ممتع القراءة، لكنه ليس أكثر من سيرة ذاتية جزئية لحاكم كويتي راحل. والكاتب ارتكب عدة أخطاء مدهشة فقد قدم وزير الخارجية الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح تحت اسمين مختلفين مما سبب الارتباك كما أنه أخطأ في تاريخ الانقلاب البعثي في العراق وهو يقول ان اتفاقية الجرف القاري بين الكويت وايران تم توقيعها وأجيزت، رغم أن ذلك غير صحيح لكن نقطة الضعف الأكبر في الكتاب هي ضعف التحليل، فالقارئ لا يريد أن يعرف ما حدث فقط بل يريد أن يعرف أيضاً لماذا حدث.

* صباح السالم الصباح

* أمير الكويت 1955 ـ 1977

* المؤلف : روبرت جارمن

* تقديم: عبد الله بشارة

* الناشر: المركز العربي للدراسات العربية