اختفاء شاعر إسباني في مراكش

«أسابيع الحديقة» قفزة حقيقية عند صعيد الخلق الروائي عند غويتيسولو

TT

يجد الشاعر في كافة الرواة الذين يتفحصون سيرته قراء محتملين لحياته ومؤولين لها حسب طبائع تكوينهم التي تضيع بهم طرائق قددا. هكذا، يغدو الرجل، وسط خطاباتهم، كائنا أعزل خاصة أنه بدون اسم عائلي، والمعروف عنه لا يعدو أن يكون أضغاث أحاديث يصعب الحامها في سرد متماسك. على هذا النحو يتحول الحكي الى تخمينات اختارت لها وجهات شتى كانت تتوغل، تدريجيا، في متاهة الضباب الكثيف الذي أحاط بمصير ذلك الكائن الزئبقي الذي سرعان ما أخذ في التلاشي ضمن رتابة ايقاع حياته اليومية المتسمة بالعنف، كذا ايقاع التحولات المعمارية والتاريخية التي عرفتها مراكش، يمكن القول إن الاصولية السردية، مثلها مثل الطهارة العرقية، لا تؤدي في الواقع الا الى ظهور تشوهات بنائية ناتجة عن التقوقع والانغلاق: فالحواجز التي توضع في وجه انسياب السرد، وتلاحقه واختلاطه وانشطاره، تعمل توا على بروز أسانة وركود حكائيين لامناص منهما إلا بالتنقيب عن كل ما هو ملتبس، متعدد، أو حمال أوجه. إن هذه الخلاصة، ربما، هي ما يفسر بنية رواية «أسابيع الحديقة» لخوان غويتيصولو واعتماد الكتابة فيها على تجاوز فصول غير متجانسة، مستقلة ومتضامنة في آن، يرويها ساردون اجتمعوا في احدى الحدائق لتأمل مصائر شاعر اسباني قضى نحبه في مراكش مخلفا حقيبة بها قصائد تبعث تناقضاتها على الشك في هويته.

يتعلق الأمر برواة، وأحيانا «محققين»، ينتمون الى آفاق تكوين متباينة: ففيهم عالم الاجتماع، والانثروبولوجي، والمستعرب، وهاوي السينما، واليساري المتشدد، واليميني المتطرف، والنسوانية، والمعادي للمرأة، وعاشق الأدب، وتلميذ مدارس الكتابة الابداعية، وبسبب ذلك، اكتست خطاباتهم تنوعا لافتا، الامر الذي يؤدي الى تفاوت المقاربات السردية، كما يؤدي الى تعقد مهمة القارئ في الامساك بهوية الشاعر الذي يدعى (إيوسيبيو) تارة و(إيوخينيو) تارة اخرى، قبل ان يفقد اسمه في نهاية المطاف، ان ازدواجية التسمية وامحاءها يحيل على شخص غامض عاش مصيرين اثنين، أو على شخصين أو أكثر تقاطعت حيواتهم في مرحلة بالغة الاضطراب والعنف من تاريخ اسبانيا والمغرب، هي مرحلة الحرب الاهلية الاسبانية (1936 ـ 1939) وما واكبها من جنوح منهجي حاد الى الطهرانية الآيديولوجية والخلقية، ونبذ للتسامح والغيرية وقيمهما.

تجري أحداث الرواية، تباعا، في مليلية واشبيلية وطنجة والدار البيضاء ومراكش، ويأخذ محكيها في التبلور عقب فرار الشاعر من مصحة الامراض النفسية بمليلية (حيث كان يعالج من انفصام الشخصية والانحرافات الآيديولوجية والجنسية) رفقة فتى من أصل ريفي مجند ضمن الجيش الاسباني، وذلك اثر الغاء حكم باعدامه صادر عن السلطات المتمردة. وينبغي أن نشير هنا الى أن فترة العزل والعلاج بالصدمات الكهربائية التي عاشها الشاعر، وهو في المصحة، تتشكل في مخيلته على هيئة ما لقيه المتهمون بارتكاب البدع الدينية من عنت وعنف على يد قضاة التفتيش في القرون الوسطى. هكذا يبدو الحاضر وكأنه يعكس سيولة ماض يتكرر دون انقطاع.

هناك منحى سردي آخر: فلكي يعود الشاعر الى حياته «الطبيعية»، يكون على (إيوسيبيو) أن ينشأ من جديد تحت اسم (إيوخينيو)، فيغير مبادئه الكوسموبوليتية «المنحلة» بمبادئ الحركة الفلانخية ويضرب صفحا عن ماضيه وميولاته الأدبية المتحررة وصداقاته الجنسية. بيد أن الأمور لا تسير على هوى هذا النهج، وصيرورة التحول (أو الازدواج والتكاثر) لا تتوقف عند حد، لذا يغدو مآل الشاعر، ذو القطائع المتناقضة، محاصرا بالتباس بالغ الاحكام، يتعلق الامر هنا بانزلاق تدريجي صوب أسطورة كائن متعدد المسوخ. هكذا، وبعد انخراطه كمخبر للسلطات العسكرية في مناخ طنجة المحموم بالولاءات المتضاربة عقب احتلال المدينة من طرف اسبانيا (1940)، ثم تحوله الى عميل تجاري نهم للقوات الاميركية لدى نزولها في الدار البيضاء (1943)، نكتشف مراكش ومروياتها، وقبور أوليائها المبثوثة في منطقة الحوز، وأصداء من محكيات الجالية الفرنسية بها إبان الحماية وبعدها، قبل أن نلتقي شخصية (ألفونس ـ ان واردن)، الثري الغامض والشاعر المنتحل، الذي يعيش حياة تهتك وانحطاط واحتقار للأهالي، والذي سيقتل في النهاية على يد متسول مختل العقل، وإن كان يمكن الظن أنه قتل في الواقع على يد قرينه: فهل الثري الغامض هو الصورة المتدهورة للشاعر؟ وهل القاتل هو الذات تنتقم من مسوخها؟

يجد الشاعر في كافة الرواة الذين يتفحصون سيرته قراء محتملين لحياته ومؤولين لها حسب طبائع تكوينهم التي تضيع بهم طرائق قددا. هكذا، يغدو الرجل، وسط خطاباتهم، كائنا أعزل خاصة أنه بدون اسم عائلي، والمعروف عنه لا يعدو أن يكون أضغاث أحاديث يصعب الحامها في سرد متماسك. على هذا النحو يتحول الحكي الى تخمينات اختارت لها وجهات شتى كانت تتوغل، تدريجيا، في متاهة الضباب الكثيف الذي أحاط بمصير ذلك الكائن الزئبقي الذي سرعان ما أخذ في التلاشي ضمن رتابة ايقاع حياته اليومية المتسمة بالعنف، كذا ايقاع التحولات المعمارية والتاريخية التي عرفتها مراكش، الى أن غدا يمر صحبة رفيقه الريفي، بائع الفحم، دون أن يشعر بوجوده أحد، ثم يتحول اختفاؤه الى خرافة غابرة تلوكها الالسن في نوادي ومطاعم ومقاهي المدينة الحمراء: خرافة المسيحي الذي أسلم وانقطع عن ماضيه، أو المتصوف الملامتي، أو المتسول الذي يتجلى على هيئات متباينة، هنا وهناك، والذي قضى نحبه قبل رفيقه، أو قضى رفيقه نحبه قبله، ثم دفن بمفرده في مكان ما بـ(تساوت)، أو دفن صحبة رفيقه في قبور متعددة، كما هو شأن بعض الاولياء النكرات.

يعكس مفهوم الحديقة في «أسابيع الحديقة» بابلية العالم وثراء لغاته، ويستعرض سياقه الرمزي كافة المعارف كما انعكست عبر التاريخ في أصولها الشعبية والعالمة، بدءا بسير المتصوفة، ومرورا بالمقاربة الاستقصائية للواقع، ثم السرد الغنوصي الساخر.

ويذكر رواة الرواية القارئ بذلك الصنف المهووس من الاكاديميين الذين يلتقطون الافكار المثارة فيمحصونها دون جدوى: انهم رواة وأشباه رواة وقعوا في أفخاخ خطاباتهم. أما النسق السردي فيعمل على بروز صيغ جدالية للمروي الواحد، بحيث تتعارض تلك الصيغ أحيانا أو تتكامل أحيانا أخرى مشكلة ذاكرة ما يشبه «جامع الحكايات»، الذي هو القارئ في النهاية.

حديقة أدب غناء، متشعبة على نحو ما هي عليه حديقة (بورخيس) ذائعة الصيت، لكن «أسابيع الحديقة» هي أيضا قفزة حقيقية على صعيد الخلق الروائي لدى خوان غويتيسولو، تبرز انتماءه الى مجرة الكتاب المغامرين الذين خاضوا تجارب خلق استثنائية. قفزة تؤكد، مرة أخرى، أنه قادر على تجاوز ذاته باستمرار، وقادر، في نفس الوقت، على بنينة شجرته الأدبية متنوعة الاصول والمصادر التي تضرب بجذورها عميقا في تربة السرد الانساني.

* الكتاب : أسابيع الحديقة

* المؤلف : غوان غويتيسولو