عبد الله سالم الحميد: كنا نتنقل في قراءاتنا مثل الطير

TT

القراءةُ هي فاتحة الوعي، وبوّابــة الثقافة والتفكير والارتقاء، تُشرع القـراءة نوافذ النبوغ، وتفتح بوّابـات السفر إلى كل المرافئ وشتـّى الآفاق، وتمنحك أشتاتاً من الثقة والتـّوازن والسـّعادة والابتهـاج. وكم كانت فرحتـي غامـرةً عندما احتصنتُ كتاب «جواهـر الأدب» عند بدايـة تفتـّحي على القراءة الحـرّة عبر مسارب الثقافة والأدب، وكانت مادّة هذا الكتاب التي وُفـّق فيها مؤلّفـه الأستاذ السيد أحمد الهاشمي لاستقطاب رغبات الناشئة إلى القراءة المتنوعـة والتنـّزه في حديقة الفكر عبر نماذج من ألوان التعبيـر الفنّي والإنشائي والأدبي، والشعريّ، فكنت ورفقتي من عشـّاق الأدب في البداية نتنقـّل ـ مثل الطّيـر ـ من زهرة إلى زهرة، ومن شجرة إلى شجرة ومن غصن إلى غصن، ونستمتع أيّما متعة بقراءة تلك المختارات التي جُمعت في هذا الكتاب الذي كان بالنسبة للقارئ المبتدي، فتحاً رائعاً أخذنا من الفراغ الذي كنّـا نعاني منه لا سيما في الإجازة الصيفيـّة، هذا الكتاب الذي أذكره في البـداية، وإلاّ فهنالك كتب أخرى يغريني بها والدي للإفادة منها ـ على سبيل المثال: كتاب «زاد المعاد» لابن القيـّم وغيره من الكتب الاختصاصية في الثقافة الدينية التي كان والدي ـ رحمه الله ـ يجمع شتاتها في مجلّد واحد ليتيسـّر قراءتها، وتستقطب القارئ للتنقـّل من القراءة في الحديث إلى الفقـه إلى الثقافة. إلى الشعـر أو النظم الفقهـي التقليـدي في الزّهـد والمحبّة في الله، والمقامات، والخُطب والحكم والأمثـال التي لا يمكن أن تنسى تجلّيـاتها لأنّهـا غرس البداية التي تمتزج فيها المتعة بالجدوى والذكرى، وفي ابتهالات البهجة وتأثيراتها. كنت وأخي «محمد» وأصدقـائي نقرأ في تلك الكتب الأثيـرة ونتبادل اقتناءها، ثمّ أدركت في ما بعد أهميتهـا وكونهـا ثروةً ذات بعد وذكرى فآثرت تجليد عدد منها، ومنها كتب والدي رحمه الله، وما زالت مكتبتي تحتفي بهذه الكتب القيّمـة الأثيرة.

وكثيرةٌ هي الكتب التي أثّرت في حياتي، وحين ما كنت طالباً في المعهد العلمي بالرياض كان هنالك تشجيع للطلبة على القراءة، وكان هنالك ناد أدبي يتنافس فيه الطّـلاب على المناظرات الأدبية والمساجلات الشعـريّـة وكنت وزميلي عبد الله السعيّـد ـ المستشار حالياً بإمارة منطقة الرياض ـ من فرسان تلك المناظرات، وكانت الجوائز أو المكافآت كتباً مختارة للقراءة، وكان زميلنا الأستاذ الدكتور إبراهيم الجوير ممن يشجعنـا على اقتناء الكتب القيمـة، وما إن صدر كتاب «في ظلال القرآن» للمفكر الاسلامي سيّد قطب حتى بادرنا إلى احتضانه وكان من أهمّ الكتب التي أثّرت في نسيج حياتي الوجدانيـة والفكرية لما ينطوي عليه من فكر وثقافة وروحانيـةً وأسلوب أدبي رفيع، ذلك ما حرّضنا ـ بعد استشهاد سيّد قطب ـ رحمه الله ـ إلى احتضان كتبـه، التي يأتي في مقدّمتها «في ظلال القرآن» كتابه القيّـم «معالم في الطريق» وللأسف فإنّه بعد صدور هذين الكتابين بثلث قرن يأتي من يكتب انتقاداً لهما ولكاتبهما الشيخ الفاضل سيّـد قطب الذي ضحّى بنفسه في سبيل دينه وقيمه ومبدئه. وكان لذلك الانتقاد أثره على بعض وزارات الإعلام العربية، ومن الكتب المهمة الأثيرة لديّ أيضـاً التي صدرت قـبل أكثـر من ربـع قـرن كتـاب المفكـّر محمـد قطب الصـادر بعـنوان «جاهلية القرن العشرين» وليس هو للمفكر سيّـد قطب كما أشار علي الصوينـع في لقائه المنشور بجريدة «الشرق الأوسط» بتاريخ 2/4/.2002 وفي زمن بداية التلقّـي القرائي في المرحلة الإعدادية والثانوية قبل ثلث قرن من الزمان لم تكن هنالك مكتبات تغري وتستقطب النّاس إلى القراءة ولكن عشّاق القراءة والأدب يبحثون في مرافئ القراءة ومنتجعاتها في أي موقع، وقد كانت المكتبة الأثيرة إلى نفسي القريبة من المعهد العلمي «المكتبة السعودية» الواقعة في «حي دخنه» التي ننتهـز فرص الفسح الدراسيـة بين المحاضرات للاطلاع على الكتب وارتياد آفاق القراءة فيها، وكنّا نذهب إليها حتى في أيّـام الامتحانات لاختيار الكتب التي يمكن أن نقرأها في إجازة الصّيف.

في أوقات الفراغ الأخرى كنّا نرتاد «المكتبة الوطنية» الواقعة على شارع الملك فيصل تلك المكتبة التي تتوفّـر فيها الكتب والمصادر والمراجع التي لا تتوفّـر في «المكتبة السعودية» وللأسف فلا أدري لماذا لا تجـدّد المكتبة الأولى التي لا أعلم ما هو مصيرها الآن؟ أما «المكتبة الوطنية» فوضعهـا الرّاهن وضع بائس يقتضي اللفتـة والنهوض والتجـديد وتكثيف الاهتمام بدعمها بالكتب المعاصرة والحديثة لاستقطاب القراء والتشجيـع على البحث والقراءة وتنمية الوعي الاجتمـاعي الذي يعبّـر عن الدّور المهم لهذه المرافئ الثقافيـة المهمة في نسيج المجتمع.

واتجهّت إلى تكثيف القراءة والاطلاع في المراجع الأدبيـة والنقدية والشعريّة لترشيحي من قبل إذاعة الرياض لإعداد عدد من البرامج الأدبية والثقافية منها «شاعر من أرض الجزيرة» وبرنامج «رجال في الذاكرة وأخيراً برنامج «أوراق خليجية» الذي يتناول نماذج من الأدباء والروّاد والمفكرين.فقراءاتي في كتب الأدب والتراث، والشعر، وكتب التاريخ والتراجم وفي كتب السيرة، ولكنني ارتاد بين الحين والآخر منتجعات الشعر والرواية لاستروح في ظلالها وأفيائها متعة التجلّيات الرائعة وأنسجم مع آفاقها وأحداثها المعاصرة والأثيرة للنفس والوجدان، ولن أتردّد في أن أكرّر وأوكد على أن القراءة متعة ومفتاح للوعي والتفكير والارتقاء.

* قاص وكاتب إذاعي سعودي