الأبناء يروون مآسي الآباء الضائعين في الحروب

الصحافي البريطاني بين ماسنتير يتناول بعداً مختلفاً من الحرب الكونية الأولى

TT

تتحدد الصورة المتكونة في أذهاننا عن الحرب العالمية الأولى غالبا بمشهد جيشين متقابلين وجها لوجه في خنادقهما الطويلة، ومن وقت الى آخر تقع نوبات قتال قصيرة الأمد، وأثناء عمليات التقدم أو الانسحاب لمسافة لا تتجاوز الألف ياردة، قتل مئات الألوف من الجنود.

مع ذلك، عرفت الحرب في أشهرها الأولى موجات مهولة من القصف العنيف، وكأنها تمهيد أولي لعمليات القصف الجوي الذي عاشته مدن اوروبية كثيرة بعد 26 سنة. وخلال تلك الأشهر تمكنت القوات الألمانية من اجتياح بلجيكا وهولندا وشمال غرب فرنسا، ملحقة خسائر فادحة بالفرنسيين والبريطانيين الذين لم يكونوا بعد على استعداد للمواجهة، لكن تعزيز جبهات القتال بدماء جديدة وحفر خنادق اخرى ساعد على ايقاف تقدم الجيش الألماني. وقبل نهاية الحرب بأشهر قليلة كان هناك شريط يتراوح عرضه بين ميل واحد ومائة ميل، ويمتد من بحر الشمال حتى سويسرا، تحت الاحتلال العسكري الألماني.

تدور أحداث رواية «ابنة الانجليزي» حول سبعة جنود بريطانيين انفصلوا عن وحداتهم بعد التوغل الألماني الأول، وهذا ما جعلهم يختبئون في احدى القرى الفرنسية المحتلة معظم فترة الحرب. ينتمي هذا العمل الأدبي الى صنفي روايتي «التشرد» picarisque والمغامرة العاطفية (مثلما يكشف عنوان الرواية). مع ذلك فان الجزء الممتع في هذه الرواية يكمن في مكان آخر.

نحن قرأنا وشاهدنا الكثير من القصص حول فرنسا المحتلة في فترة الأربعينات. لكن ماسنتير يمنحنا تمهيدا آخر لتلك الفترة: العلاقات بين المحتلين والواقعين تحت وطأة الاحتلال في الشريط الفرنسي الذي اجتاحه الجيش الألماني أثناء الحرب العالمية الأولى. هذه العلاقات تختلف في بعض الجوانب المهمة عما آلت اليه مع الأجيال اللاحقة.

قضى بين ماسنتير عدة أشهر متحدثا مع أفراد في سن الثمانين، ومع أحفادهم الذين هم الآن في سن الخمسين. ويعيش هؤلاء في قرية بيكاردي، وهم ساهموا بشكل ما في ايواء الجنود البريطانيين ابتداء من خريف 1914 وحتى مايو (أيار) 1916، حينما قام بعض الممتعضين من تورط أبناء القرية في عملية الاخفاء بفضح السر للمحتلين الألمان، ونتيجة لذلك تم القبض على الجنود البريطانيين الأربعة واعدامهم. من بين الذين زودوا ماسنتير بالمعلومات كانت هيلين كورناي، وهي في الثمانين من عمرها. وفي أول لقائها بماسنتير قالت هيلين انها ابنة روبرت دجبي، أحد الجنود المعدومين.

بعكس الشخصيات الأخرى، تمكن باستين من اجتياز ثمانية خطوط من حاملي البنادق الرشاشة الألمان، ليؤول به المطاف الى غابة حيث يشارك مجموعة من الهاربين البريطانيين في أكل لحم أرنب نيء.

وهناك ارتدوا ملابس فلاحين وأطالوا شواربهم وظلوا يغيرون مواقع وجودهم حسب حركة القوات المحتلة ومزودين باوراق مزورة وبالقليل من اللهجة المحلية التي تكفي لاستغفال الجنود الألمان. وأمضى الهاربون البريطانيون وقتهم في المساعدة بحراثة الأرض والتحرك بحذر داخل القرية.

كان دجبي هو الأكثر انشدادا لسكان القرية، ساعده في ذلك معرفته السابقة لفرنسا وحيويته، وهذا ما جعله يرتبط بحياة القرية بشكل حميمي، خصوصا مع الجميلة كلير ديسين. لكن حملها سبب وقوع خلاف داخل عائلتها على الرغم من تفاني دجبي لحبيبته ولاحقا لابنته هيلين التي ولدت عام 1915. هذا الخلاف انتقل الى القرية أيضا ولم ينته.

وسبق للصحافي البريطاني ماسنتير أن عالج في كتبه السابقة مواضيع تاريخية مشابهة لعمله الجديد «ابنة الانجليزي». (أشهر كتبه كان سردا تفصيليا عن المستعمرة الألمانية التي أنشأتها اخت نيتشه في الباراغواي). فباستخدامه للمقابلات والمعلومات الارشيفية الكثيرة والمذكرات تمكن ماسنتير من رسم صورة غنية لاجواء التنافس والتوتر داخل مجموعة قروية صغيرة.

فلفترة قصيرة، ساعدت الجهود المبذولة لايواء الجنود البريطانيين على جمع ابناء القرية معا، لكن هذا المجهود المشترك عمّق في الأخير الخلافات القائمة بينهم في الأصل. وحسب ما قالته هيلين لماسنتير فأن دجبي «جعل نفسه جزءا من القرية.. وبذلك اصبح معرضا لحقدها وسخائها في آن واحد». (بعد وصف مؤثر لعملية اعدام دجبي وثلاثة آخرين، وهروب الثلاثة الباقين ليستسلموا في مكان آخر، يشرع المؤلف بخلق الشكوك حول الشخص الذي كان وراء الوشاية، واذ يقترح شخصا ما فانه يترك المسالة غير محسومة تماما).

خدمة «نيويورك تايمز»خاص بـ « الشرق الأوسط»