الملك عبد العزيز.. مواقف في حياة قائد تاريخي

وظـّف السلطة بهدف جمْع الكلمة واعتبر أن ثروة الإنسان القائد هي في سلوكه وفي عدله.. ووضع الدول الكبرى أمام مسؤولياتها إزاء فلسطين

TT

في مناسبة اليوم الوطني للمملكة العربية السعودية تنشر «الشرق الأوسط» اليوم الفصل ـ التمهيد من كتاب جديد قيد الاستكمال للكاتب الزميل فؤاد مطر عنوانه «خادم الحرمين.. حارس الأمتين»

* في الوقت الذي يكاد القلب ينفطر حزنا من الذي يجري في ساحات إسلامية كثيرة وساحات عربية أكثر ونخص بالذكر الساحة الفلسطينية والساحة العراقية والساحة اللبنانية والساحة السودانية، ويبلغ الغيظ ذروته من تدليسات المجتمع الدولي، وجدتُ نفسي وأنا أتأمل في المشهد العربي ـ الإسلامي والقلق السعودي المتواصل إزاء ما يفعله المجتمع الدولي ومعه إسرائيل بالأمتين، أستحضر كتمهيد لهذا الكتاب ملاحظات ووقائع عن عصر الملك عبد العزيز دوَّنتها في مناسبات عدة من خلال قراءات أو خواطر تاريخية سمعتُها في مجلس الأمير سلمان بن عبد العزيز صاحب الذاكرة المتقدة لأنه خاتم المصحف الشريف ومَن يختم كتاب الله يخصه سبحانه وتعالى بذاكرة تميزه عن آخرين وتجعله، وهو القارئ الممتلئة مكتبته بمئات المؤلفات على أنواع موضوعاتها، حافظا ما قاله والده في ديوان الحكم وفي مجالسه الخاصة والعامة وكذلك ما ثبّته مؤرخون من أقوال للملك عبد العزيز ولوقائع حدثت في حياته في كتب، فضلا عن أنه وهو القارئ بشغف المثقف للمعرفة ما جاء في تلك الكتب وغيرها من مدونات قام بحفظ الكثير من وصايا الوالد وأدبياته ووقائع صولاته وجولاته.

وإلى ما سمعْتُه من الأمير سلمان وما قرأْتُه كانت لي إصغاءات كثيرة وأنا في مجالس بعض كرام القوم في المملكة وخارجها من بينهم الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري والشيخ ناصر المنقور رحمة الله عليهما والشيخ جميل الحجيلان والدكتور عبد العزيز خوجة أطال الله في عمريهما ليُثريا، كلٌّ مما في أوراقه، المكتبة العربية بمذكرات ما أحوج جيل الأبناء والأحفاد إلى معرفة مضامينها. ومما استحضرتْه أيضا بصفة خاصة تقييم البانديت جواهر لال نهرو للملك عبد العزيز كما أورده في كتابه المعنون «لمحات من تاريخ العالم» ومؤلفات ودراسات لخير الدين الزركلي ويوسف ياسين وعبد المنعم الغلامي وأمين الريحاني وحافظ وهبة وعبد الحميد الخطيب، فضلا عن استعادة كتابات ونصوص خُطب نشرَتْها صحف، وسطور في وثائق. وهذه مواقف وإضاءات وآراء الملك عبد العزيز، الذي عاش بطلا ورحل قدوة حاملا في جسده إلى مثواه الأخير 43 ندبة وأثر جُرح ناشئة عن مائة معركة خاضها من أجل التوحيد ومسجِّلا في التاريخ المخضرَم للأمة أنه آخر قادتها التاريخيين الذي قاتل بشرف وعفا عند المقدرة وأثبت إمكانية التوحيد وعامَلَ الرعية من منطلق توظيف السلطة بهدف جمْع الكلمة واعتبر أن ثروة الإنسان القائد هي في سلوكه وفي عدله وليست في تكديس المال، بدليل أن بعض جلساء ديوانه يروون أنه عندما لقي وجه ربه كان يملك ثلاثمائة جنيه ذهبا وأنه لم يورَّث أحد من الأبناء والزوجات شيئا وأن ملابسه بيعت في السوق وأُدخلت بيت مال المسلمين. كما أن الرواة يقولون عنه إنه كثير العطاء قليل الاقتصاد وينسبون إليه قوله «إن الله عوّدني عادة أن يتفضل علي وعوَّدتُ عباده عادة أن أُوسِّع عليهم، فأخاف أن أقطع عادتي فيقطع الله عادته عني، وأنا لن أبني قصرا ولن أشتري مزرعة. كل ما يرِد أُنفقه على المسلمين وهذا حق لهم...».

ولطالما استوقفني وأنا أُقلّب في وثائق عصر الملك عبد العزيز والمتيسر من وثائق ذلك العصر وصاياه إلى الجيل القيادي الخلَف وتوضيحه لتطبيق مبدأ «وأمرهم شورى بينهم». فهو بعدما استجاب للقرار الذي اتخذه خلال اجتماع في الطائف يوم 10/8/1932م بعض كبار القوم ويتضمن الرغبة في تحويل اسم «المملكة الحجازية النجدية وملحقاتها» إلى اسم «المملكة العربية السعودية» ووضْع نظام خاص بالحكم وتوارُث العرش صدر «نظام توحيد المملكة» بالتسمية المشار إليها بعد تسعة أيام من ذلك الاجتماع ثم انعقد مجلس الوكلاء والشورى يوم 11/5/1933م وأبرما قراره بمبايعة كبير الأبناء الأمير سعود وليا للعهد. وهنا نأتي إلى وصاياه إلى الخلَف الأول له والتي سار عليها الآخرون الملوك فيصل وخالد وفهد ويعمل الملك عبد الله في هديها. ولقد تضمنت الوصية التي جاءت في صيغة برقية الآتي «تفهّم أننا نحن والناس جميعا، ما نُعِزّ أحدا ولا نُذِلّ أحدا، وإنما المُعِز والمُذِل هو الله سبحانه وتعالى، من التجأ إليه نجا، ومن اغتر بغيره (عياذ الله) وقع وهلك. موقفك اليوم غير موقفك بالأمس، ينبغي أن تعقد نيتك على ثلاثة أمور: «أولا ـ نية صالحة وعزْم على أن تكون حياتك وأن يكون ديدنك إعلاء كلمة التوحيد ونصْر دين الله. وينبغي أن تتخذ لنفسك أوقاتا خاصة لعبادة الله والتضرع بين يديه في أوقات فراغك. فعُد إلى الله في الرخاء تجده في الشدة. وعليك بالحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يكون ذلك كله على برهان وبصيرة في الأمر وصِدْق في العزيمة ولا يصح مع الله سبحانه وتعالى إلا الصدق وإلا العمل الخفي الذي بين المرء وربه. ثانيا ـ عليك أن تجدَّ وتجتهد في النظر في شؤون الذين سيوليك الله أمرهم بالنصح سرا وعلانية والعدل في المحِب والمبغِض وتحكيم الشريعة في الدقيق والجليل، والقيام بخدمتها باطنا وظاهرا. وينبغي ألا تأخذك في الله لومة لائم. ثالثا ـ عليك أن تنظر في أمر المسلمين عامة وفي أمر أسرتك خاصة. اجعل كبيرهم والدا ومتوسَِّطهم أخا وصغيرهم ولدا، وهِنْ نفسك لرضاهم وامحُ ذلهم وأقِل عثرتهم وانْصح لهم واقضِ لوازمهم بقدر إمكانك. فإذا فهمتَ وصيتي هذه ولازمتَ الصدق والإخلاص في العمل فأبشر بالخير. أُوصيك بعلماء المسلمين خيرا. احرص على توقيرهم ومجالستهم، وأخْذ نصيحتهم. واحرص على تعليم العِلْم ومعرفة هذه العقيدة. احفظ الله يحفظك. هذه مقدمة نصيحتي إليك والباقي يصلك إن شاء الله في غير هذا...».

أما بالنسبة إلى مفهوم الشورى عند الملك عبد العزيز فنلحظه في مطالعته التي ألقاها أمام جمْع من العلماء والأعيان بعد دخوله مكة عام 1924 م، والتي جاء فيها قوله «أريد منكم أن تعيِّنوا وقتا تجتمع فيه نخبة من العلماء والأعيان والتجار وينتخب كل صنف من هؤلاء عددا معيّنا كما ترتضون وتقررون، وذلك بأوراق تُمضونها من المجتمعين بأنهم ارتضوا أولئك النفر لإدارة مصالحهم العامة والنظر في شؤونهم. ثم يستلم هؤلاء الأشخاص زمام الأمر فيعيِّنون لأنفسهم أوقاتا يجتمعون فيها ويقررون ما فيه المصلحة للبلد. وجميع شكايات الناس ومطالبهم يجب أن يكون مرجِعُها هؤلاء النخبة من الناس، ويكونون أيضا الواسطة بين الأهلين وبيني فهم عيون لي وآذان للناس يسمعون شكاواهم وينظرون فيها ثم يراجعونني. إنني أريد ممن سيجتمعون لانتخاب الأشخاص المطلوبين أن يتحروا المصلحة العامة ويقدِّموها على كل شيء فينتخبوا أهل الجدارة واللياقة الذين يغارون على المصالح العامة ولا يقدِّمون عليها مصالحهم الخاصة ـ ويكونون من أهل الغيرة والحميَّة والتقوى. تجدون بعض الحكومات تجعل لها مجالس للاستشارة، ولكن كثيرا من تلك المجالس وهمية أكثر منها حقيقية، تشكَّل ليقال إن هنالك مجالس وهيئات ويكون العمل في يد شخص واحد ويُنسب العمل إلى العموم. أما أنا فلا أريد في هذا المجلس الذي أدعوكم لانتخابه أشكالا وأوهاما، وإنما أريد شكلا حقيقيا يجتمع فيه رجال حقيقيون يعملون جهدهم في تحري المصلحة العامة. لا أريد أوهاما وإنما أريد حقائق. أريد رجالا يعملون، فإذا اجتمع أولئك المنتخَبون وأُشكل عليّ أمر من الأمور رجعتُ إليهم في حله وعملتُ بمشورتهم وتكون ذمتي سالمة من المسؤوليات. وأريد منهم أن يعملوا بما يجدون فيه المصلحة. وليس لأحد من الذين هم أطرافي سلطة عليهم ولا على غيرهم. أريد الصراحة في القول لأن ثلاثة أكرههم ولا أقبَلُهم: رجل كذَّاب يكذب عليّ عن عمْد. ورجل ذو هوى. ورجل متملق. فهؤلاء أبغض الناس عندي...».

وبالنسبة إلى مفهومه لطبيعة علاقة المسلمين مع بعضهم يستوقفنا قوله: «المسلمون ينقصهم معرفة الزعماء والأشخاص ونفسياتهم لأن هناك أشخاصا من المسلمين يتظاهرون بالغيرة والتضحية وهم في حقيقة الأمر على عكس ذلك. يتظاهرون بالغيرة ويسعون في الخفاء لتنفيذ مآربهم الشخصية والتجسس على حال إخوانهم، وهذا أمر يؤسَف له لأن الأضرار التي لحقت بالمسلمين والعرب جاءت من هذه الطريقة...».

وبالنسبة إلى نظرة الملك عبد العزيز إلى الإنجليز ونوع الصداقة التي يراها معهم فإننا نلحظها في مخاطبته السير ريدر بولارد الذي جاء إلى الشميسة (غرب مكة) مساء يوم السبت 15 يناير (كانون الثاني) 1938م بصحبة المعتمَد البريطاني في الكويت أيام الحرب العظمى الكولونيل هاملتون والذي بات عضوا في مجلس اللوردات تحت اسم «اللورد بلهافين». وفي هذه المقابلة قال الملك مخاطبا زائره البريطاني: «إنني مؤمن بوجوب صداقة العرب للبريطانيين، ولكن من يستطيع استمرار هذه الصداقة مع بقاء هذا الجرح الدامي». ويضيف «إن مشروع التقسيم يجب أن يُصرف النظر عنه بتاتا وأن يُسار على خطة أخرى على أساس حِفظ حقوق اليهود الموجودين بفلسطين وضمان مصالح بريطانيا والاعتراف بحقوق العرب...».

وما أوردناه هنا ليس كل ما في انشغال بال الملك عبد العزيز بالمسألة الفلسطينية. وفي وثائق وأدبيات عصره الكثير من التحذيرات والنصائح تتضمنها مذكرات ورسائل بعث بها إلى الحكومتين البريطانية والأميركية مع ملاحظة أن أميركا في تلك المرحلة وفي ظل رئاسة فرانكلين روزفلت كانت على قدْر كبير من التفهم لمشاعر القلق لدى الملك عبد العزيز إزاء المسألة الفلسطينية. وتدليلا على تفهُّم الرئيس روزفلت لرؤية الملك عبد العزيز يستوقفنا في رد على رسالة بعث بها الملك إليه تحمل تاريخ 30 أبريل (نيسان) 1943م أمران. الأول أن روزفلت يبدأ رسالته بعبارة «أيها الصديق العظيم» ويختمها بـ «صديقكم المخلص» وكان خَتَم رسالة سابقة بعبارة «صديقكم الحميم». أما الأمر الثاني فهو أن الرئيس روزفلت وافق على رأي أبداه الملك وجاءت الموافقة في العبارات الآتية: «وكما ذكرتَ (أي الملك) يَظهر لي من المرغوب فيه للغاية أن العرب واليهود ممن تهمهم المسألة يتفاهمون تفاهما وديا في ما يتعلق بفلسطين. ويسرني أن تتاح لي الفرصة لأكرر أن رأي حكومة الولايات المتحدة أنه في كل حال يجب أن لا يُتخذ أي قرار يغيِّر وضعية فلسطين الأساسية من دون التشاور الكامل مع كلا العرب واليهود...». أما رسالة الملك عبد العزيز فإنها تشكِّل نموذجا للرقي في التخاطب المستند إلى الحزم، من المفيد للقيادات العربية والإسلامية ومعهم أهل الفكر والرموز الدينية التأمل فيها وكيف أن الملك عبد العزيز سبَقَ كل الثوريين وكل الأطياف الحزبية ومعها أطياف المقاومات العربية والإسلامية في وضع كبريات دول العالم أمام مسؤولياتها التاريخية. وفي رسالته إلى الرئيس روزفلت المؤرخة 30 أبريل 1943 يقول الملك عبد العزيز: «في هذا المعترك العالمي الذي قامت فيه الأمم تهدر دماءها وتبذل ثرواتها دفاعا عن حرياتها واستقلالها راعني وراع المسلمين والعرب ما شاع من انتهاز فئة من اليهود الصهيونيين، هذه الأزمة الخانقة وقيامهم بدعاية واسعة النطاق أرادوا بها السعي لتضليل الرأي العام الأميركي، من جهة، والضغط على دول الحلفاء في موقفهم الحَرِج من جهة ثانية، ليحملوا بذلك دول الحلفاء على الخروج على مبادئ الحق والعدل والإنصاف التي أعلنوها وقاتلوا من أجلها وهي حريات الشعوب واستقلالها. يريدون بعملهم هذا أن يحملوا الحلفاء على مساعدتهم في القضاء على الشعب العربي الآمن المطمئن، في فلسطين. يريدون إخراج هذا الشعب الكريم من موطنه، وأن يحل اليهود المشردون من كل الآفاق، في هذا الموطن الإسلامي العربي المقدس. وأي ظلم فادح فاضح، لا قدّر الله، أن يكون من نتائج هذا الصراع العالمي أن يأتي الحلفاء في آخره ليكللوا ظَفَرَهم المقبل، بهذا الجوْر، من إخراج الشعب العربي من موطنه». ويمضي قائلا «إننا لا نريد محو اليهود، ولا نطالب بذلك، ولكننا نطالب بألاَّ يُمحى العرب من أرض فلسطين من أجل إسكان اليهود فيها». وبدل أن تأخذ الدولتان الكبريان المسؤولتان في الدرجة الأولى عن زرْع إسرائيل في أرض فلسطين هذه الرؤية العاقلة والموضوعية في الاعتبار فإنهما حجبتاها عن الرأي العام في البلدين وذلك بإبقاء التقارير في هذا الشأن طي الإضبارات ولم يتم الإفراج عنها وتحديدا التقرير الأميركي إلا يوم 18 مايو (أيار) 1969م أي بعدما كانت حدثت الكارثة العربية الثانية المتمثلة بهزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967م والتي وضعت إسرائيل بموجبها اليد على كل فلسطين بما في ذلك القدس. ويا ليت الدولتين الكبريين أخذتا برؤية الملك عبد العزيز.

ونقول وبصيغة التساؤل: أليست الرؤية التي جدَّد الابن الملك عبد الله بن عبد العزيز طرْحها كعلاج للاستقرار الدولي وليس فقط كمجرد حل سياسي، هي الحل الذي لا حل أفضل منه من أجل أن تستقيم العلاقات بين المجتمع الدولي والأمتين العربية والإسلامية وتتراجع موجبات العنف الذي يأخذ أحيانا صيغة المقاومة ويجنح في أحيان أخرى نحو الإرهاب. وهنا نقول يا ليت الإدارة الأميركية والحكومة البريطانية ومعهما الرئاسة الفرنسية تتأمل جيدا اليوم واستنادا إلى ما يشهده الحاضر ويخبئه المستقبل من مفاجآت غير سارة للجميع في رؤية الابن الملك عبد الله التي غدت في القمة الدورية الثانية في بيروت أواخر مارس (آذار) 2002م مبادرة عربية أعطاها ولي العهد الأمير سلطان بن عبد العزيز يوم الأربعاء 13 سبتمبر (أيلول) 2008م أصدق توصيف عندما قال خلال افتتاحه في قصر المؤتمرات في جدة الدورة السابعة للمؤتمر الإسلامي لوزراء الإعلام «إن مبادرة الملك عبد الله هي المنارة الصحيحة لقضية فلسطين». ويبقى بعد الذي استحضرناه عن رؤية الملك عبد العزيز للعلاقات مع المجتمع الدولي الذي تبدَّلت معالمه كثيرا عما كانت عليه الحال من قبل وكيف استبق واقع حال الصراع العربي ـ الإسرائيلي، أن نُوضِح لأجيال الأحفاد العرب والمسلمين بعض خصال هذا الرجل الذي اقتبس من حياة زمن النبوة والخلافة ومن التراثيين عموما طريقة عيْش وأسلوب تعامُل. ومما تتضمنه الوثائق والأدبيات وأحاديث الرواة المدوّنة وغير المدوّنة عن الملك عبد العزيز أنه كان كثير الدقة في ترتيب مواعيده، يعطي العمل حقه والنزهة حقها. أما يومه فإنه على النحو الآتي: يستيقظ قبل الفجر بنحو ساعة. يقرأ سُوَرا من القرآن الكريم ويتعبد ويتهجد ويستمر إلى أن يُؤذن الفجر فيصلي الصبح جماعة ويسبِّح ويقرأ وِرْد الصباح ويدخل فيضطجع إلى أن تُشرق الشمس وينهض فيغتسل ويلبس ثيابه ويفطر. ثم يخرج إلى المجلس الخاص فتُعرض عليه مهام الحكومة في فترة غير طويلة يأذن بعدها بالمقابلات الخاصة لكبار الزوار، ثم ينتقل إلى المجلس العام حيث يدخل كل من يريد مقابلته، ويمكث نحو ساعة، فإذا اقترب وقت الظهر نهض للغداء ومنه إلى القصر فيستريح قليلا ثم يصلي الظهر جماعة ويعود إلى مجلسه الخاص فيُعرَض عليه ما استجدَّ من الشؤون العامة ثم إلى صلاة العصر فالجلوس بعدها لإخوانه وأولاده وأقاربه وكبار الموظفين ثم يخرج بسيارته إلى ظاهر المدينة للتريض ويعود بعد صلاة المغرب. وبعد العشاء يجلس في مجلس شبه عام وهناك يحضر «القارئ» الذي يتلو فصولا من كُتب مختلفة. وبعد قليل يدخل قارئ ليتلو ما التقط من محطات الإذاعة من أخبار بالعربية ثم باللغات الأجنبية بعد أن تتم ترجمتها. بعدها ينفضُّ المجلس للجميع بتحية: «السلام عليكم».

وبالنسبة إلى مائدة الملك عبد العزيز فإنها دائما مع العشرات سواء للغداء أو العشاء. وإذا كان عنده ضيف جعله أقربهم إليه على يمينه. ويجلس الأمراء مصطفِّين بحسب أعمارهم على يساره يقابلهم إلى يمينه وزراؤه ومستشاروه وكبار الدولة. ثم يجلس مَن يليهم على الجانبين من دون ترتيب. ولا تقييد في دخول الآخرين فقد يجيء أحد الكتبة أو صغار الموظفين العسكريين أو المدنيين أو بعض رؤساء البدو في منتصف الطعام أو أواخره فيجلس حيث ينتهي به المجلس ولا يتخلى أحد لآخر عن مكانه خلال الطعام. ويُروى عنه شغفه بالسيوف على أنواعها ويفضل الفارسي الصنع منها على الهندي. أما الذين عايشوا معاركه فيُجمعون على رباطة جأشه واحتماله الإصابات. هل هذا كل شيء؟

الجواب: إنها بعض الملامح، ذلك أن الملك عبد العزيز هو عصر وليس مجرد حالة حكم عابرة. أما كيف ترك الملك عبد العزيز البلاد التي وحَّدها وبذلك اطمأنت نفسه، فإن في شهادات بعض المؤرخين ورموز النخبة الفكرية والدينية والسياسية العرب الذين عايشوه في مرحلة من مراحل حياته وجهاده أو كانوا قريبين منه، ما يعطي فكرة عما أنجزه ثم ترَكَه مثل شجرة في حديقة على صحراء مترامية الأطراف تحتاج إلى من يضيف المزيد من الحدائق (بمعنى العمران والتطوير والتنمية) يغرس فيها المزيد من الأشجار ويهتم بها لكي تتفيأ الأجيال بظلالها جيلا بعد جيل. وهذا ما حققه الأبناء الملوك الأربعة الذين رحلوا ويواصله الابن الملك الخامس عبد الله بن عبد العزيز آخذا في الاعتبار عامل الوقت واقتحام العولمة لحياة الناس، ووفق رؤية تقوم على أن ما فات لا بد من تعويضه وما سيعوض لا بد من ترسيخه وتطويره.

ومن شهادات الشهود العدول حول شخصية الملك عبد العزيز وأسلوب حكمه وما أنجزه، شهادة شيخ علماء الجزائر محمد البشير الإبراهيمي الذي كتب يقول إن الملك عبد العزيز «أسس في قلب جزيرة العرب وعلى أطرافها أعظم دولة عربية منذ عهد الخلفاء الراشدين ووطَّد أركان هذه الدولة الفتية على أسس متينة من العدل الإسلامي والحكم القرآني والأريحية العربية، وجعل العربي من الخليج إلى البحر ومن بادية الشام إلى ربوع حضرموت يشعر بالوحدة العربية ويحس بانتسابه إلى دولة قوية تحرسه وترعاه». وشهادة الكاتب المصري المرموق عباس محمود العقاد الذي كتب يقول «إن الملك عبد العزيز من أولئك الزعماء الذين يراهم المتفرسون المتوسمون فلا يحارون في أسباب زعامتهم ولا يجدون أنفسهم مضطرين لأن يسألوا: لماذا كان هؤلاء زعماء؟ لأن الإيمان باستحقاق هؤلاء لمنزلة الزعامة في أقوالهم أسهل كثيرا من الشك في ذلك الاستحقاق» وشهادة شكيب أرسلان (الأمير الدرزي اللبناني) الذي كتب يقول إنه كان يقرأ كثيرا من الأجوبة التي يردُّ بها الملك عبد العزيز على أسئلة صحافيين عرب أو أجانب «فلم أجد هذا الملك تهوَّر مرة واحدة في حديث أو تكلَّم بكلام يؤاخذ عليه»، وشهادة الشيخ محمد رضا الذي كتب يقول عن عبد العزيز «صار ملكه ممتدا من البحر الأحمر إلى الخليج ولم يزده هذا كله إلا خشيته لله تعالى وتواضعا للناس». إلى هذه الشهادة نضيف شهادتي رجلي علم وفكر وأدب كانا قريبيْن من الملك عبد العزيز وأنصفا بما كتباه عنه أو قالاه بعيدا عن مجلسه سواء في لبنان أو في مصر عن تجربة هذا الرمز التوحيدي الأول في العالم العربي. وهذان الشاهدان هما اللبناني أمين الريحاني الذي خص تجربة الملك عبد العزيز بصفحات من كتب ألَّفها وعبد الرحمن عزَّام باشا الذي شارك في بداية انتقال المملكة من مرحلة التوحيد إلى مرحلة تنظيم الدولة وقوننتها وبناء المؤسسات، قبل أن يختاره الملك فاروق كأول أمين عام للجامعة العربية التي استولدتها قمة استضافها العاهل المصري الذي قضت على حكمه ثورة 23 يوليو 1952م بقيادة جمال عبد الناصر. فالريحاني كتب يقول: «مهما قيل في الملك عبد العزيز فإنه رجل قبل كل شيء. رجل كبير القلب والوجدان والنفس، عربي تجسدت فيه فضائل العرب، خلو من الادعاء والتصلف، خلو من التظاهر الكاذب». وعبد الرحمن عزام باشا لخَّص شخصية الملك عبد العزيز على النحو الآتي: «رأيتُ فيه مثلا للعروبة في حالتها الفطرية تتجلى فيه المعاني السامية البارزة في حياة العرب في جاهليتهم وإسلامهم، وأول هذه المعاني العزة والثقة بالنفس، وما ينطوي على ذلك من اعتقاد في سمو القوم الذين ينتسب إليهم، فكل شيء في نظره هو دون المستوى الذي ترسمه العروبة في خاطره وهو يعتقد أن العزة لله ثم له. فمعنى مُركب النقص لا يخطر له على بال. وحين التقيتُ به لأول مرة سنة 1928م أدركتُ أن معنى الديمقراطية أصيل في نفس العربي، فليست المساواة أمرا مصطنعا يحافظ عليه بالآداب العامة أو بالقانون، ولكنه معنى طبيعي ناشئ من احترام الإنسان لإنسانيته واعتبار أن الناس من آدم، وآدم من تراب. إنه رجل تمر الحقب ولا يرى الناس مثله».

وأما الأمير سلمان، الابن الحافظ أدبيات والده، فإنه ينقل عن الوالد المؤسس قوله حول الإسلام وأحوال المسلمين في زمنه، ويكاد القول ينطبق عليهم حاليا، الآتي: «إن المدنية الصحيحة هي التقدم والرقي، والتقدم لا يكون إلا بالعلم والعمل. إن حالة المسلمين اليوم لا تَسُر، وإن الحالة التي هم عليها لا يقرها الإسلام.. ويقول كثير من المسلمين: يجب أن نتقدم في مضمار المدنية والحضارة، وإن تأخُّرنا ناشئ عن عدم سيرنا في هذا الطريق. وهذا ادعاء باطل، فالإسلام أمَرَنا بأخذ ما يفيدنا ويقوِّينا على شرط ألاَّ يفسد عليا ديننا وشيمنا، ويقولون: الحرية، ويدَّعي بعضهم أنها من أوضاع الأوروبيين، والحقيقة أن القرآن الكريم قد جاء بالحرية التامة الكافلة لحقوق الناس جميعا، وجاء بالإخاء والمساواة التي لم تحلم بها كل أمة من الأمم، فآخى بين الصغير والكبير، والقوي والضعيف، والغني والفقير، وساوى بينهم». ويضيف الأمير سلمان من عنده (ما قرأناه في كتاب «سلمان بن عبد العزيز الجانب الآخر لمؤلفه المفكر الإسلامي زين العابدين الركابي) بعد مرور أكثر من نصف قرن على وفاة المؤسس: «إن كتاب الله يشتمل على كل القيم التي تكفل جميع متطلبات الناس والتي تسعى البشرية لبلوغها من سعادة وتَراحُم وحقوق إنسان وشورى ورفْع مستوى المعيشة. فالقرآن نبع حياة، ومن يزعم أن كتاب الله وسُنة رسوله صلَّى الله عليه وسلم عائق أمام التطور والتقدم في عصرنا الحالي فهو لم يقرأ القرآن، أو لم يفهمه. وإذا كان هناك تقصير فهو منا كمسلمين وكبشر».

وعلى الصعيد الدولي فإن شهادة الزعيم الهندي التاريخي جواهر لال نهرو في الملك عبد العزيز وعلى نحو ما جاءت في كتابه «لمحات من تاريخ العالم» هي الأكثر تميُّزا من خارج الأمتين العربية والإسلامية لأنها تأتي من شخصية سياسية وفكرية محايدة وموضِع تقدير العالم لها. وجاءت شهادة البانديت نهرو (والد الابنة الشهيدة رئيسة الحكومة أنديرا والحفيد الشهيد رئيس الحكومة راجيف غاندي) على النحو الآتي: «بعد أن نجح ابن سعود كجندي ومحارب، كرَّس كل جهوده لبناء بلاده على أسس عصرية حديثة. لقد أراد القفز بها من حياة القبيلة إلى حياة العصر الحديث. ويظهر أن ابن سعود قد نجح إلى حد كبير في هذا المضمار، وأثبت بذلك أنه رجل سياسي قدير بعيد النظر. كان أول عمل ناجح قام به هو إقرار الأمن داخل البلاد، فأصبحت في وقت قصير قوافل الحجاج تسير بطمأنينة كبيرة، وكان هذا انتصارا عظيما سُرّ له الناس كثيرا، لأن الحجاج كانوا في السابق معرَّضين للنهب والسلب في أثناء أسفارهم. أما ثاني نجاح أحرزه فهو توطين البدو الرحل، وقد بدأ هذا العمل قبل دخول الحجاز، وبذلك أرسى دولة حديثة. ولم يكن هذا العمل سهلا قط مع بدو عاشوا حياتهم يحبون التنقل. ومع ذلك فقد نجح ابن سعود في ذلك. ويضاف إلى ذلك أنه أصلح الجهاز الإداري، وأدخل تقنيات العصر ووسائله».

وأختم بتسجيل بعض أقوال الملك عبد العزيز التي طالما لاحظْنا كيف أن الابن عبد الله يستحضر روحيتها في مجالسه الرسمية والشعبية وبتمنيات متصلة بهذه الأقوال. من هذه الأقوال: «كل أمة تريد أن تنهض لا بد لكل فرد منها من أن يقوم بواجبات ثلاثة: أولها واجباته نحو الله والدين. وثانيها واجباته في حفظ أمجاد أجداده وبلاده. وثالثها واجباته نحو شرفه الشخصي...» و«الإنسان يقوم على ثلاث فضائل: الدين والمروءة والشرف. وإذا ذهبت واحدة من هذه سلبَتْه معنى الإنسانية...» و«أنا وأسرتي وشعبي جند من جنود الله نسعى لخير المسلمين...» و«أنا ترعرعتُ في البادية فلا أعرف آداب الكلام وتزويقه ولكني أعرف الحقيقة خالية من كل تزويق...» و«لست من المحبين للحرب وشرورها، وليس أحب إليّ من السلم والتفرغ للإصلاح. إنني قوي بالله تعالى ثم بشعبي، وشعبي كلهم كتاب الله في رقابهم وسيوفهم بأيديهم يناضلون ويكافحون في سبيل الله، ولست أدعي أنهم أقوياء بعَددهم أو عُددهم ولكنهم أقوياء إن شاء الله بإيمانهم...» و«لا يُسأل أحد عن مذهبه أو عقيدته، لكن لا يصح أن يتظاهر أحد بما يخالف إجماع المسلمين أو يثير الفتنة...» و«اثنتان أحمُدُ الله على واحدة منهما وأشكره على الأخرى، أحمُدُ الله على أني أكره أهل الضلال وعلى كراهة أهل الضلال لي. وأشكره على محبة أهل الخير لي ومحبتي لهم...» و«التباعد بين الراعي والرعية يدع مجالا للنفعيين فيجعلون الحق باطلا ويصوِّرون الباطل حقا...».

أما التمنيات فهي أن تكون سيرة هذا القائد التاريخي الاستثنائي وأقواله ورؤيته أمثولة لمن يتأمل فيها. وفي الزمن العربي ـ الإسلامي الراهن ما أحوج الكثيرين إلى هذا التأمل... وإلى سلوك الصراط المستقيم. وهذا في أي حال لسان خادم الحرميْن الشريفيْن الملك عبد الله بن عبد العزيز كما سيتبين لقارئ هذا الكتاب الذي أحاول فيه الإضاءة على تجربة أبو متعب والتي يريدها أمثولة للذين يواصلون حمْل الأمانة.