كتبي.. مقتنياتي

ليانة بدر

TT

لا أذكر أنني تعلقت في سنواتي الأولى بالألعاب الاعتيادية التي يلهو بها الأطفال. وحدها «ميمي» كانت الدمية الوحيدة التي حملتها يوما لأنها تشبه طفلة حقيقية بحجمها غير الاعتيادي، وسيارة ألعاب زرقاء كنت أحب أن أقودها في ممرات حديقة بيتنا الصغير في «كتف الواد» بـ«أريحا»، وذلك القرد الذي يصعد وينزل على أنبوب يشبه مضخة ري بعدما أملأه ببعض الماء. تلك هي الألعاب الوحيدة التي أذكرها في الطفولة من بين كثير منها مما كان يملأ صندوقا خشبيا ضخما يفرشه بقية الأطفال بينهم ليلعبوا ويكسروا ما به على هواهم من دون أي احتجاج مني، بينما أمي تصرخ وتتحسر لأنها أنفقت جزءا كبيرا من معاشها كمديرة، في سبيل إهدائي ألعابا مميزة.

لكن طفولتي الأولى، ومنذ الثالثة، كانت مليئة بذكريات الكتب وملمس كل منها، بل ورائحة أوراقها الصفراء والبيضاء والرمادية، سواء ذلك الكتاب فسيح المساحات الذي رسمت عليه قصة النملة التي تكنز مؤونة الغد، والصرصور المنشغل بغنائه، وكنت أحبه دوما ويعجبني «تبطله» في أيام الصيف حتى لو خسر الكثير، أو ذلك الكتاب الذي تبدو فيه صورة منطاد وديناصور حاملا الذكرى الطيبة لأبي وهو يعطيني نظارات ورقية ملونة تجعلني أرى بأبعاد ثلاثة.

كان كتاب «الأم» لمكسيم غوركي بحجمه الضخم هو الوحيد من كتب الكبار الذي سمح لي أبواي بالنظر إليه قبل أن أصل إلى الخامسة؛ أنا التي أجدت التهجي وقراءة الكلمات منذ سن الرابعة، بسبب اصطحاب أمي لي أيام دوامها المدرسي. يومها سئما من تذمراتي وضجري بالضيوف خلال اجتماع سياسي أثناء جلسة حزبية في صالون البيت، فقدما لي «الأم» عن طيب خاطر. وما زلت أذكر عدم فهمي كلمات كثيرة واردة مثل «عامل» و«محطة قطار»، وعدم استيعابي الأحداث على الرغم من مطالعتي صفحات كثيرة منه. براحة وشوق أتذكر سلسلة كتب «كامل كيلاني»، وكيف كنت أحصل عليها واحدا واحدا كجوائز شهرية لتشجيعي على مساهمتي في مهمات منزلية تخص مساعدة أمي وأخواتي الصغيرات.

في سن 11 عاما، قرأت النسخة الكاملة المترجمة لـ«ذهب مع الريح»، وكانت نحو ألف صفحة. طار لُبي بـ«سكارلت أوهارا» و«ريت بتلر»، وخلقت في أحداث الرواية وسط الحرب الأهلية شغفا لا ينتهي لمتابعة الخلفية التاريخية للروايات. ومن بعدها توالت قراءاتي للأدب الأميركي بسبب وجود مكتبة عامة غنية به قرب مدرستي في القدس. وهكذا اندمجت في قراءة سلاسل طويلة لـ«نساء صغيرات» وأخرى تخص «لورا» لا يمكنني تذكر اسمها الآن، لكنها تدور حول الحياة في البراري، وقصص وروايات كثيرة لهيمنغواي وشتاينبك وفيتزجرالد، وكتب علمية مترجمة توافرت صدفة هناك.

دائما كانت هنالك كتب أبتلعها بِنهمٍ يعيق اندماجي في الحياة الاجتماعية للعائلة، فتتكدر أمي المثقفة ويصيبها الغم لأنني «دودة كتب». كانت تسعد بمتابعاتي لتوفيق الحكيم وعباس العقاد وطه حسين، واندفاعي لقراءة كل ما يصل إلى يدي من كتب الأدب العربي، ومن ثم بناء مكتبة صغيرة خاصة بي صارت أمي تفاخر بها جميع من تعرفهم بعدما فاقت محتوياتها المائة كتاب.

عندما فقدنا بيتنا في فلسطين عام 1967 حزنت على كتبي ومكتبتي، فلقد كانت المقتنيات الوحيدة التي اعتبرتها إنجازا. وفيما بعد صاغت حياتي الكتابات والأفكار الثورية، مثل: تشي جيفارا، وأشعار محمود درويش، وشعراء الأرض المحتلة، وغسان كنفاني، وكل من نعرفهم في تلك المرحلة. ومن ثم انفتحت حياتي على عالم ثقافي غني ومتنوع أتاح لي أن أبني مكتبتي الثانية في بيروت، وضمت كتبا مهمة وفريدة، إلا أنها، وكالعادة، فُقدت عندما أُصيب بيتي قرب الملعب البلدي بقذيفة كبيرة في غرفة الجلوس خلال الاجتياح الإسرائيلي لبيروت.

لن أنسى ذلك اليوم الذي لم أقدر فيه على التحرك من المنزل والذهاب إلى العمل، بل بقيت فيه بثياب النوم من دون مغادرة الفراش. ظللت 24 ساعة وأنا أقرأ «بيت الأرواح» بنسختها الإنجليزية لإيزابيل الليندي حتى أنهيتها ودموعي تغسل وجهي الذي لم يكن قد غُسل أصلا في ذلك اليوم بسبب استحواذ الرواية عليّ، خصوصا حين تصف مأساة الانقلاب على سلفادور الليندي وما جرى بعده من تعذيب وإبادة واضطهاد للوطنيين في تشيلي.

حين انتقلنا للعيش في تونس عام 1987 كنت أحس بتعاسة بالغة لأنني صرت أبعد وأبعد مكانيا عن فلسطين. وعلى الرغم من إحساسي بمأساة غربة وجودية متعددة في المنافي، فإنني مررت بلحظة ربما كانت هي التي تعبر عن حياتي باستمرار. كنت حزينة ومبتئسة ومضطربة بسبب غربة جديدة، لكنني كنت أعيش في الوقت ذاته مع بطلة رواية «الباب المفتوح» للطيفة الزيات. أنسى كل ما حولي من مشكلات حياتية جديدة عليّ أن أحلها، وأنشغل بالرواية كأنها حياتي ذاتها. أليس هذا ما تفعله بنا جميع الروايات الجيدة؟

* روائية وقاصة وسينمائية فلسطينية.. من أعمالها الروائية: «بوصلة من أجل عباد الشمس»، و«عين المرآة»، و« نجوم أريحا»، و«شرفة على الفاكهاني».. ومن مجموعاتها القصصية: «قصص الحب والمطاردة»، «أنا أريد النهار». ومن قصصها للأطفال «فراس يصنع بحرا» و«رحلة في الألوان». ومن أفلامها «فدوى شاعرة من فلسطين» و«زيتونات» و«حصار».