هيتشنز.. كاتب كان يتقد بالحياة وهو على بعد خطوات من الموت

الكتاب الأخير للصحافي المثير للجدل

غلاف الكتاب الأخير
TT

كان الكاتب والصحافي الشهير الراحل كريستوفر هيتشنز برفقة مجموعة من أصدقائه في أحد المطاعم الفاخرة التي تكتظ بها العاصمة الأميركية واشنطن. بينما كان منهمكا في أكل «الستيك» الشهي، لمعت في خياله فكرة ساخرة وملحة لم يستطع مقاومتها. في الوقت الذي كان يعد نفسه ليترجمها لكلمات مسموعة، تدخل الجرسون، الواقف قريبا، بطريقة مرتبكة وقام بتقطيع اللحم في طبق هيتشنز إلى أجزاء صغيرة، وتبرع بعدها بتوزيع بعض من هذه القطع على الآخرين. هيتشنز، كما كتب، صدم من تصرف الجرسون ونسي فكرته المثيرة التي كان ينوي إمتاع الحاضرين بها، خصوصا النساء. تنتظر الآن بلهفة تكملة القصة، لتتفاجأ بأن الكاتب يتوقف ليعلن أن الجرسون لم يقم بذلك على أرض الواقع، ولكن فقط في خياله الذي صار قطعة اللحم. كل حركات وسكنات وكلمات ذلك الجرسون، تبعث برسائل وقحة للزبائن بأن عليهم إما المغادرة بسرعة أو طلب المزيد من الطعام أو الشراب، لأن هناك من ينتظر ليدفع أكثر. الترجمة المجازية لسلوك هذا الجرسون المتململ غير بعيدة عن المشاهد التي ارتسمت في خيال الكاتب، كأنه يقوم بتقطيع قطعة اللحم ومن ثم يوزع بعضها وربما يأكل جزءا منها. هذا المدخل المثير استخدمه هيتشنز ليحبس أنفاس القارئ بهدف إغرائه، وقد نجح في ذلك، لقراءة بقية المقال الساخر الطويل الذي يعزي فيه هيتشنز انهيار التقاليد العريقة في المطاعم الكلاسيكية.

الكثير من القصص الساخرة الشبيهة بهذه القصة، يجدها القارئ لكتاب الصحافي الإنجليزي الأميركي المعنون بـ«Arguably» أو «قابل للجدل». الكتاب يضم عددا كبيرا من المقالات الطويلة والقصيرة التي نشرها في الأعوام الأخيرة في عدد متنوع من الصحف والمجلات. صدر لهيتشنز بعد رحيله، بسبب مرض سرطان المريء، كتاب صغير الحجم بعنوان «Mortality» (وكتاب إلكتروني آخر - أو مقال مطول - كتبه بعد مقتل زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن). لكن هذا الكتاب الذي قام بإهدائه لمحمد بوعزيزي، كان الكتاب الأخير بالنسبة لهيتشنز، الذي سارع بتحضيره بعد أن أكد له الأطباء أن عاما واحدا فقط هو كل ما تبقى له في الحياة. أجمل ما في هذا الكتاب أنه يعيد الثقة للكتابة الصحافية الذكية والأنيقة التي تاهت في السنوات الأخيرة بين وسائل التواصل الاجتماعية المختصرة والطرح الأكاديمي الطويل والجاف. ليس هذا فقط، بل إن هذا الكاتب المثير للجدل، والمعروف بدخوله في نقاشات صاخبة حول قضايا عميقة في السياسة والتاريخ والثقافة والأدب، لم يتردد في أن يكتب قصصا ساخرة وغريبة من هذا النوع الذي يخاف الصحافيون الجادون مثله من التطرق إليها. فهيتشنز، وقلة غيره، لديهم القدرة على رؤية الأفكار الصحافية المثيرة في أماكن لا تخطر على بال؛ في مطعم أو محطة مترو أو في مكتبة أو رصيف يزدحم بالمارة أو في تصرفات جرسون مغفل. هناك دائما شيء متوار، ولكنه بحاجة إلى عقل صحافي لامع وحذق، يعرف كيف يلتقط الفكرة المندسة ويربطها بحدث أكبر منها.

الكتاب يحفل بالكثير من المقالات الساخرة ذات الأفكار الغريبة التي يبرع فيها هيتشنز. في مقال آخر بعنوان «لماذا النساء غير ظريفات؟»، يطرح الكاتب قضية مستفزة أثارت سخط النساء عليه. يبدأ المقال بالإشارة إلى أنه من النادر أن يصف الرجل المرأة التي يحبها بالظرف. قد يقول إنها جميلة ولطيفة، ولكن لن يقول عنها ظريفة. هذا على العكس من النساء اللاتي يرين حتى في الرجال الثقلاء ظرفا وخفة ظل. ثم يطرح هذا السؤال: «لماذا المرأة التي يقع كل عالم الرجل تحت رحمتها غير ظريفة؟!». يجيب بعدها عن سؤاله بالقول إن «المرأة لم يكن لها دافع قوي لكي تكون خفيفة ظل من أجل أن تجذب الرجل لها. الرجل، على العكس، ومنذ آلاف السنوات، يشعر بانجذاب شديد نحو جمال المرأة. لكن الرجل الذي لا يملك الكثير من المزايا ليجذب المرأة إليه لم يكن أمامه إلا أن يطور حس الدعابة لديه حتى تقع المرأة في حبه». هيتشنز لا يكتفي بهذا السبب، بل يضيف سببا آخر. يكتب: «حس الظرف من علامات الذكاء، والكثير من النساء يعتقدن، أو هكذا علمتهن أمهاتهن، أنهن يصبحن مهددات للرجل إذا كن حاذقات جدا. ربما الرجال لا يريدون من النساء أن يكن ذكيات. إنهم يفضلونهن كجمهور لا كمنافسات». من المحتمل أن يغضب هذا الكلام المتهور المرأة، ولكنه يعود مرة أخرى ليتملقها ويرشوها بمديح لا يمكنها رفضه. يقول: «إن سببا آخر لتميز الرجل عن المرأة بحس الظرف، هو أن الرجل، منذ الأزل، لم يتمتع بالكثير من المزايا الجمالية، والطبيعة كانت قاسية عليه، لذا استخدم حس الطرفة كعزاء يواسيه ودرع تحميه بذات الوقت».

لكن الكتاب يتطرق أيضا على الكثير من القضايا الجادة ويغوص أحيانا في التاريخ. في مقال بعنوان «لينكولن: الطفل البائس» يتحدث هيتشنز عن حياة الرئيس الأميركي التي كانت عبارة عن معاناة قاسية منذ الطفولة، إلى فترة رئاسته التي كانت كلها حربا باستثناء ستة أسابيع حتى نهايته مقتولا، ولكن بعد أن قام بتحرير السود. كان أبوه يستخدمه كأجير يقوم بالأعمال اليدوية الشاقة له ولجيرانه البخلاء. لينكولن الذي كان أشبه بالمملوك كما تملك الماشية، قال مرة: «لقد رأيت قدرا كبيرا من الجانب الخلفي في هذا العالم». ربما هذا ما زرع في روح لينكولن المدمرة في الطفولة كراهية العبودية، الأمر الذي جعله يطلق كلمته المشهورة عام 1858 «لا أريد أن أكون عبدا، ولا أريد أن أكون سيدا».

في مقال آخر، يحكي هيتشنز بطريقة شفافة ورقيقة عن لقائه الزعيمة الباكستانية المغتالة بنازير بوتو. تشعر في بداية المقال بغضب الكاتب من بوتو بسبب مراوغتها السياسية، ولكن المقال يتحول بذلك، بطريقة ناعمة، إلى نوع من الإعجاب بشخصها لأنها صححت خطواتها، ومن ثم ينعطف مسار الكلمات لتشعر بروحها الشجاعة التي لم تمنعها التهديدات والمخاطر من قيادة سيارتها المكشوفة (وهو كان بصحبتها في إحدى المرات). بعد أن تختلط بداخلك مشاعر الغضب والفهم والإعجاب، تعرف أن المقال انحفر في صميمك. لكن هيتشنز لا يكتفي بذلك ويضيف إلى هذا المزيج المعقد من العواطف إحساس الحزن الشفاف، الراثي رحيلها الصادم. الغريب أنه لم يستخدم أبدا لغة عاطفية أو نبرة بكائية، ومع ذلك، الكلمات التي نثرها تجعل مشاعرك تتصاعد مع كل قطعة في المقال.

كشف هيتشنز في الكتاب، بطريقة غير مباشرة، عن أسباب تألقه. الرجل ملتزم ومحب لعمله، وقد قال مرة إنه ولد لكي يكون كاتبا، ولا يعرف أي شيء آخر يفعله في الحياة غير ذلك. يكتب في كل يوم ما لا يقل عن 2000 كلمة، ولم يتأخر يوما عن موعد النشر، رغم أنه ينشر في أكثر من مكان؛ في مجلة «فانتي فير» أو «The Nation» أو «أتلاتنك»، أو غيرها من المطبوعات. يقول هيتنشز أيضا إنه تعلم أن يكتب كما يتكلم، أي يترجم الصوت الذي داخل عقله لكلمات مطبوعة. قد تبدو هذه مسألة سهلة للقارئ، ولكنها شاقة لمن لا يملك مثل موهبته. المحير أكثر أن هيتشنز كان مشهورا بسهراته الصاخبة وعلاقاته الواسعة وسفراته المتواصلة وحضوره التلفزيوني المكثف، فكيف إذن يجد الوقت للكتابة الأنيقة؟ هيتشنز يختار أيضا أن يذهب في كل عام أو اثنين إلى بلدان غير آمنة ليكتب عنها، لأن المكوث في الأماكن المستقرة لفترة طويلة تضعف، كما يقول، الحس الصحافي.

دفع هيتشنز بكتابه هذا وهو يعلم أنه الأخير، بسبب مرضه القاتل الذي لم يكتشفه إلا بعد أن تغلغل في جسده وأصبح القضاء عليه مستحيلا. في أيامه الأخيرة، بدا صوته مختنقا وفقد الكثير من وزنه، وارتسمت على وجهه ملامح الموت. عقله كان ينهار تدريجيا وينزلق في الظلام، لكن لم يمنعه ذلك عن منح هذا الكتاب الممتع المتفجر بأكثر الأشياء جمالا في الحياة. الأفكار الخلاقة والنقاشات العميقة - التي يمكن الاختلاف مع الكثير منها - والنكت الساخرة، كلها مكتوبة بأسلوب رفيع وسلس. تعمد هيتشنز، وهو في طريقه لبوابة النهاية، أن يهدي كتابه هذا للحياة وللناس الباقين فيها، ولم ينس أن يكتب لهم نصيحته المقتبسة: «عش بكل ما تستطيع، من الخطأ ألا تفعل ذلك».