دليل تربوي للآباء

TT

من المؤكد أننا لا نوظف ميكانيكيا أو سباكا أو كهربائيا أو طبيبا إلا إذا كان مؤهلا لهذه الوظيفة، ومع ذلك فإن معظمنا يحظى بوظيفة أب أو أم من دون تدريب. ونحن ندرس ست عشرة سنة أو أكثر من أجل الحصول على شهادة جامعية نخوض الحياة بها، ولكننا نصبح آباء أو أمهات بطرفة عين، وفي سن مبكرة قد تصل إلى سن المراهقة، دون دراسة سابقة أو إعداد سابق لهذه المسؤولية الضخمة التي نجد أنفسنا فجأة وراء مكتبها.

عن هذا الواقع الغريب، ولكن الصادق والحقيقي، يتحدث كتاب «دليل التربية الوالدية» لمؤلفيه الدكتور هشام الطالب والدكتور عبد الحميد أبو سليمان والدكتور عمر الطالب، الذي سيصدر عن «المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن باللغة الإنجليزية»، كما تصدر في وقت مقارب ترجماته إلى اللغة العربية وعدد آخر من اللغات.

ورغم عظم دور الأبوة والأمومة وتأثيرهما في الأولاد فإن الناس ينظرون إلى هذا الأمر، للأسف، على أنه أمر غريزي وبدهي لا يحتاج إلى إضاعة الوقت والجهد بالتفكير فيه.

ويؤكد «دليل التربية الوالدية» أنه ليس من قبيل المصادفة أن يرى المرء أسرة سعيدة تعيش في تناغم وانسجام، وينعم أفرادها ببيئة منزلية آمنة ومريحة يتحلى فيها الأولاد بالأدب والمعرفة والسلوك السليم؛ إذ لا بد أن تكون مثل هذه الأسرة نتاج عمل شاق ودؤوب من الوالدين لتأسيس علاقة متينة وسليمة تربطهما بأولادهما، ومن أجل تعميق التواصل والتقارب بين الآباء والأبناء من جهة، وبينهم وبين المجتمع والعالم من حولهم، من جهة أخرى. فالتربية الوالدية هي استثمار طويل الأمد، وهي أساس النجاح في بناء أسرة صحية تقوم على تنشئة الأولاد العاطفية والنفسية والجسدية، وتسهم في توفير بيئة دافئة ومتحابة، ينمو فيها الأولاد ويتطورون.

ويهدف الكتاب إلى الإسهام في تقديم العون للآباء والأمهات، من خلال معالجة المشاكل التي يواجهونها، والتقليل من الأخطاء التي ينزلقون إليها في ميدان العناية بالأولاد، أو التخلص منها كليا، فهو بهذا بمثابة «دستور» للأسرة، أو «بوليصة تأمين» للوقاية من معظم الأخطاء الشائعة التي يرتكبها الآباء والأمهات.

ويذهب الكتاب إلى أن التربية الوالدية هي من أبرز الإشكاليات التي تواجه العالم العربي والإسلامي في وقتنا الحاضر، ويعود سبب ذلك إلى أن معظم الآباء لا يتلقون، قبل الزواج أو بعده، أي تعليم في مجال التربية الوالدية، فيجدون أنفسهم فجأة جنودا في معركة لا يملكون فيها سلاح المعرفة والخبرة والمهارة والتدريب. إنهم يعتمدون غالبا في تربية أبنائهم وبناتهم على الفطرة، وعلى المنطق العام المبني على الموروث الثقافي من الآباء أو الأجداد، وهؤلاء، على الأغلب، إما غير متعلمين، وإما يحملون مفهوما ثقافيا مختلفا لزمن مر وانتهى، ولا يستوعب تطورات العصر السريعة والمتلاحقة.

ومن المؤسف أن كثيرا منهم ممن تلقى تعليما في هذا النطاق اعتمد في تعليمه غالبا على مصادر أولئك الذين كتبوا لمجتمعات غير مجتمعاتنا، وأسسوا لبيئة غير بيئتنا، ووضعوا نظرياتهم من خلال تجارب غير تجاربنا، وأسس ثقافية وفكرية، وربما دينية، غير الأسس التي يمكن أن تؤسس لنا أسرة سليمة تستجيب للواقع وللزمن وللثقافة وللبيئة التي نعيشها نحن، لا تلك التي يعيشها غيرنا.

ويخاطب الكتاب، فيمن يخاطب، أولئك الآباء الذين يحاولون أن يعوضوا من خلال أبنائهم ما لم تسعفهم الحياة لتحقيقه لأنفسهم، كما يخاطب أولئك الذين فضلوا أن يتخلوا عن واجباتهم الأبوية، آباء كانوا أو أمهات، فأوكلوها إلى غيرهم، بسبب عدم وجود الوعي الكافي بخطورة هذه المسؤولية، أو بسبب عدم توافر الوقت اللازم، وهم يعيشون تحت وطأة الأوضاع المادية أو الاجتماعية في بلادهم، أو ربما بسبب ازدهار هذه الأوضاع عند بعضهم، فيتنازلون عن واجبهم الأساسي للمربيات، أو المعلمين، أو الأقارب، أو التلفزيون، أو ألعاب الحاسوب أو الإنترنت.. إلخ.

ورغم عدم وجود نموذج شامل يمكننا استخدامه في موضوع العناية بالأولاد وتربيتهم، فإن هناك إجراءات إذا تم تطبيقها يمكن أن تساعدنا في تحقيق هدفنا. ولا بد أن ندرك، ونحن نسعى لإيجاد هذا النموذج الشامل، وفي ظل شعورنا بالتراجع الأسري المرير في عالمنا العربي والإسلامي، أن الطريق إلى التربية الوالدية السليمة والصحيحة أصبحت سالكة، ولم تعد الآن ضربا من المغامرة والسير على غير هدى، وأن المؤسسات الفكرية والتربوية قد بدأت تعي حجم المشكلة، وانطلقت للتخطيط التربوي السليم من أجل إيجاد حلول لها، ويشكل هذا الكتاب أحد المنطلقات الجادة في هذا المجال.