ماذا يقرأ الصينيون؟

يحاولون فهم العلاقة المعقدة بين الحرية الفردية والنظام السياسي

كتاب ماوتس تونغ الأحمر لم يعد مقروءا اليوم في الصين
TT

ظل المتخصصون في الشؤون الصينية يتساءلون ما إذا كان بمقدور الصين بناء اقتصاد رأسمالي من دون تبني الثقافة السياسية التي تتماشى معه. ولا تزال الإجابة عن هذا السؤال معلقة. مع ذلك قد يزودنا استطلاع عن الكتب السياسية التي تقرأها النخبة الصينية ببعض المؤشرات التي توضح لنا الوضع الحالي. منذ 40 عاما، عندما زرت جمهورية الصين الشعبية، كان الكتاب الوحيد الذي يوجد دليل على أنه مقروء هو «الكتاب الأحمر» الصغير الشهير لماو تسي تونغ. لم تكن تخلو أي غرفة في فندق من هذا الكتاب مثلما تجد الإنجيل في فنادق الدول الغربية. ولم يكن هناك متاجر لبيع الكتب، لكن كان لدى كل الصينيين الذين تواصلت معهم نسخة منه. وكنت أكّن شعورا خاصا تجاه هذا الكتاب الصغير، فعندما كنت طالبا عام 1962 قضيت عطلة نهاية الأسبوع في سوربيتون على نهر التيمس لترجمته إلى الفارسية، إلى جانب قصائد تشانغشا للعظيم هلمسمان. الشهر الماضي لم يكن للكتاب اللطيف، الذي يذكرني بالأقوال الحكيمة لخالتي، أي أثر. ولم تثمر جولتي بين عدة متاجر لبيع الكتب هذه الأيام، التي باتت مزدهرة في كل أنحاء الصين، عن أي شيء. وحتى في متجر «بوك سيتي» ذي السبعة طوابق في قلب شنغهاي، لم يكن بوسع العامل سوى أن يعدني باحتمال وصول نسخ، دون أن يحدد متى.

ما الذي يقرأونه الآن إذن؟ الإجابة هي أعمال فلاسفة غربيين قدامى ومحدثين، كذلك وجدت أعمالا كلاسيكية، مثل أعمال أفلاطون وأرسطو قاعدة بين القراء، مثلما كان الحال مع فلاسفة «برجوازيين» مثل هيغل وفيورباخ. الأمر الأكثر إثارة للدهشة والعجب هو الشعبية التي يحظى بها محافظون ومحافظون جدد، مثل هوبز وإدموند بيرك ونيتشه وهيدجر ناهيك عن حنة أردنت وثيودور أدورنو وكارل شميت وليو شتراوس. لماذا يهتم الصينيون بهؤلاء؟

ربما يكون أحد الأسباب هو محاولتهم فهم العلاقة المعقدة بين الحرية الفردية والنظام السياسي. أسوأ كابوس بالنسبة إلى كثير من الصينيين هو انهيار الدولة وبداية الفوضى؛ فأسوأ نظام ديكتاتوري بالنسبة لهم أفضل من الفوضى. مع ذلك لا يمكن للديكتاتورية إلا أن تكون استثناء، وبالتالي فهي زائلة وعابرة. الصعوبة تكمن في الانتقال من الديكتاتورية إلى الحرية من دون المرور بالتطهير أو الفوضى أو بـ«أوقات اضطرابات» مثلما يقول الصينيون. وقد يكون هناك سبب آخر، هو أن كل هؤلاء الكتّاب يرون، كل بطريقته، الإنسان ككائن سياسي أكثر من كونه كائنا اجتماعيا. ويرى كل من هوبز وشميت ذلك من خلال الإشارة إلى قدرة الإنسان على التمييز بين العدو والصديق، في الوقت الذي يؤكد فيه شتراوس قدرة الإنسان على الاختيار بين الصواب والخطأ. ويحظى شميت باهتمام لسبب آخر، فقد كان في بداية الخمسينات واحدا من الفلاسفة الغربيين الذين تنبأوا بالعولمة. وعلى عكس أكثر أقرانه، كان يعتقد أنها ستزيد الصراع حول العالم، ولن تحد منه. ويتساءل الصينيون عما إذا كانت العولمة ستنتهي بالزج بالصين في حروب، نظرا لإيمان كثير من الصينيين بأن الدول الديمقراطية الغربية قد عثرت على الصيغة السياسية السحرية، وهم يبحثون عنها في الكتب التي يؤلفها كتاب غربيون. لهذا السعي بعض السمات المتميزة. بالنسبة للقراء الغربيين، ربما لا يكون كتاب هنري كيسنجر «On China» (عن الصين) سوى حشد وتجميع لأحاديث سخيفة، في حين يقبل الصينيون عليه بحثا عن رؤى متبصرة مشفرة عن شؤونهم. ووجد كل من كتابي السيرة الذاتية اللذين ألفهما باراك أوباما وكتاب «Decision Time» (وقت القرار) لجورج بوش الابن ومذكرات ديك تشيني سوقا رائجة في الصين. لماذا يهتم الصينيون بقراءة مذكرات ميت رومني؟ لا يعني الاهتمام بالكتب السياسية إهمال الأدب، حيث تكشف جولة في متاجر بيع الكتب في شنغهاي وبكين تنامي تذوق الأعمال الكلاسيكية الغربية، خاصة التي تم ترجمتها من اللاتينية واليونانية والفرنسية والإنجليزية. الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو وجود كتب للتعليم الذاتي للذين يريدون تعلم اللغات الغربية. لسبب ما يبدو أن هناك إقبالا على تعلم اللغتين اللاتينية والألمانية في الصين.

وجدت الكتب الغربية الأكثر مبيعا، مثل سلسلة «هاري بوتر» لرولينغ جمهورا لها، في الوقت الذي تخصص فيه أكبر متجر لبيع الكتب في بكين في بيع الأعمال المترجمة عن الإدارة وإدارة الأعمال والتسويق وما شابه. وسيصاب محبو الشعر بخيبة الأمل لعدم عرض كثير من دواوين الشعر، على الرغم من نشر كثير من الشعراء المحليين لأعمالهم على الإنترنت. يقدّر عدد الصينيين الذين يمتلكون قارئا إلكترونيا «كيندل»، أو وسيلة مشابهة لقراءة الكتب على الهواتف الجوالة، التي تناسب قراءة القصص القصيرة والأشعار، بـ25 مليونا. وكشخص يحب قراءة قصص الإثارة والألغاز، فاجأني غياب هذا النوع في متاجر بيع الكتب في الصين. ربما يكون من أسباب ذلك عدم قدرة كثير من الصينيين على الربط بين القصص البوليسية وتجربتهم في الشرطة.

هل توجد رقابة على الكتب المترجمة؟ يؤكد بعض الناشرين وجود رقابة محدودة هذه الأيام فقط لأن الحكومة لا تعرف ما الذي عليها منعه بالضبط. وعلى الرغم من أن 80 في المائة من الكتب التي تُنشر في الصين مقررات دراسية، تتجاوز الكتب النطاق الأكاديمي سريعا. سيتم طبع 30 ألف عنوان لكتب خلال العام الحالي، ويمثل هذا خمس ما ينشر في بريطانيا. مع ذلك ينشر 10 آلاف مؤلف على الأقل أعمالهم على الإنترنت مجانا. وعلى الرغم من تزايد التعطش للكتب بخطى سريعة، لا يزال الصينيون متأخرين عن جيرانهم فيما يتعلق بالقراءة، فاليابان تشغل المركز التاسع وكوريا الجنوبية المركز الـ12. ومثل الاقتصاد الرأسمالي، تبدو قبضة القراءة في الصين متشعبة وعشوائية. القارئ الصيني مثل الرجل الجائع الذي يجد نفسه فجأة أمام مأدبة عامرة بكل صنوف الطعام لا يعلم عنها أي شيء. وبسبب جوعه وفضوله، يبدأ في ازدراد كل ما تقع عليه يداه، وتكون النتيجة عسر هضم فكريا. مع ذلك يمكن تجاوز هذا مع الوقت؛ فالمهم هو أن تقرأ حتى لو كان ما تقرأ هو دليل هواتف باريس كبداية. النبأ السار حقا هو أن الصينيين يقرأون، ومسموح لهم بقراءة ما يحبون، ولم يعودوا يقرأون «الكتاب الأحمر» الصغير.