«آزاتسي».. سيرة روائية تفكك ذهنية «الأخ العقيد»

مجاهد البوسيفي يقدم نصا خاليا من الادعاءات والبطولات الزائفة

غلاف الرواية
TT

صدرت عن دار «ضفاف» ببيروت رواية «آزاتسي» للإعلامي والكاتب الليبي مجاهد البوسيفي. وهي تسلط الضوء على حقبتين: الحقبة الزمنية الممتدة منذ عام 1988 وحتى 1998، أي حقبة «البيروسترويكا الليبية» في دعوتها إلى إعادة البناء والقيام ببعض الإصلاحات الترقيعية التي لم ترتقِ إلى طموحات المواطن الليبي الذي يتطلع إلى الحرية، والعدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص. والحقبة الثانية هي الفترة الزمنية الممتدة بين أكتوبر (تشرين الأول) 1996 حتى نوفمبر (تشرين الثاني) 1997، وهي المدة الحرجة التي قضاها بطل الرواية «سالم ناجي سالم» في معسكر اللجوء في هولندا قبل أن يحصل على اللجوء السياسي والإقامة الدائمة التي تمهد للحصول على الجنسية الهولندية.

تفيد هذه الرواية كثيرا من السيرة الذاتية لبطلها الذي تقنع وراء اسم مستعار إلى الدرجة التي يمكن أن نسميها «سيرة روائية» طالما أن المؤلف نفسه يعترف بذلك، ولا يجد حرجا في الكشف عن خصائصه الشخصية والثقافية والفكرية التي سوف يبني عليها نصه السيري - الروائي الذي يعالج فيه ثيمة البداوة والتمدن من جهة، ويختبر محمولاته الثقافية، ومقولاته الفكرية من جهة أخرى؛ فالبطل في هذه الرواية لا ينظر إلى أصدقائه وأحبته والناس المحيطين به فقط، وإنما يفحص قناعاته وقيمه وآراءه الشخصية قبل أن يفكك جانبا من شخصية الديكتاتور معمر القذافي، ويشرح سلوكية الشخصيات المهيمنة في نظامه و«لجانه الثورية».

* الشخصية المركبة

* تعتمد النصوص السيرية - الروائية على شخصيات معقدة غالبا، أو مركبة في أقل تقدير، وذلك لإثراء البنية السردية التي تحتاج، في الأعم الأغلب، إلى ثيمات عميقة متشابكة تستغور الواقع المرصود، وتغوص فيه، وتستنطقه بطريقة ممنهجة تتفادى التضخيم والتهويل والمغالاة.

وقد نجح مجاهد البوسيفي في أن يقدم نصا خاليا من الادعاءات والبطولات الزائفة؛ فحينما يقرأ المتلقي هذا النص لا يجد في بطله شخصية دعية نفاجة تحمل نفسها أكثر من طاقتها، وإنما يرى فيها شخصية بسيطة، لكنها عميقة ومثقفة ومحايدة و«لا تخشى في الحق لومة لائم». من هنا فإن الكشوفات التي يقدمها بطل الرواية واقعية جدا ولا مجال فيها للمبالغة أو استدرار الدموع، وهذا ما نلمسه حينما يتحدث عن العقيد سنوسي التهامي الذي كان يحقق مع التجار والمقاولين الليبيين، أو العقيد سنوسي عايد الذي ارتكب مجزرة سجن «بوسليم»، أو العقيد خميس المعروف بترويعه للمواطنين، أو شخصية العقيد القذافي الذي حكم البلاد على مدى أربعة عقود بالحديد والنار.

لقد أفاد البوسيفي من هذه القراءة المحايدة للكشف عن ديكتاتورية صدام حسين التي لا تخلف كثيرا عن ديكتاتورية القذافي في شيء، بل الغريب في الأمر أنها تبدو متطابقة في الكثير من التفاصيل؛ فكلاهما شرد الأحزاب المعارضة، وكلاهما هجر الأدباء والمثقفين والفنانين مالئا بهم بلدان الشتات. من هنا فإن العراق في عهد صدام حسين يأخذ مساحة واسعة في رواية «آزاتسي»، حيث نتعرف على مثقفين يساريين، وضباط منشقين، وكرد هائمين على وجوههم يبحثون عن ملاذ آمن في هولندا، نذكر منهم «أبو هدى» و«أبو آثار» و«أبو جواد» و«آزاد» و«إياد» وغيرهم من الشخصيات التي تصادف وجودها في «كامب» لايدن أو في معسكر هوخ هالن. كل هذه الشخصيات العراقية وسواها من الشخصيات الأفغانية والإيرانية والباكستانية والسودانية الجنوبية والإثيوبية والسريلانكية والأميركية الجنوبية كانت تمر عبر مصفاة البطل «سالم» الذي أحب بعضا منهم، وتقاطع مع البعض الآخر؛ لأنهم استفزوه وأثاروا حفيظته، كما وقع في حب «رحاب»، وتعلق حد الوله بـ«عالية» الإثيوبية التي منحت الرواية نكهة خاصة ليس لآيروسيتها حسب، وإنما لصدقها وسحرها الصادم الذي يمكن أن يحدث في بلد متفتح مثل هولندا.

* الترغيب والترهيب

* لم يدع «سالم» أنه معارض كبير وقف بوجه التوجهات القذافية المجنونة، لكنه قال بالفم الملآن إنه صحافي ليبي أوشك أن يفقد هويته الإنسانية بسبب القمع والتهميش والمصادرة التي كان يمارسها النظام الليبي السابق و«لجانه الثورية» المبثوثة هنا وهناك في ربوع البلاد؛ فلقد غيب هذا النظام القمعي الناس وأخفى المدن بذريعة الخوف من اجتياح الكوماندوز الإسرائيلي، وشوه الحياة الاجتماعية برمتها عبر اتباعه سياسة الترغيب والترهيب المعروفة في كل الأنظمة الشمولية.

وحري بنا أن نشير إلى بعض الإجراءات التعسفية التي قامت بها حكومة القذافي وأجهزته الأمنية، حيث ألغوا تدريس اللغة الإنجليزية في المدارس والجامعات، ومنعوا الصحون اللاقطة، وصادروا الأشرطة الأجنبية من سيارات المواطنين، وحطموا الأجهزة الموسيقية وأحرقوها في الميادين والساحات العامة؛ لأنها تمثل من وجهة نظرهم غزوا ثقافيا وتساهم في تغريب الجماهير، وتشويه سلوكهم. ومثلما روع صدام حسين البغداديين بأسطورة «أبو طبر»؛ فقد زرع القذافي الرعب في نفوس الطرابلسيين حينما بث عصابة «القط الأسود» التي تخطف الفتيات اليافعات من المدارس، وأشاع حكايات فنتازية ما أنزل الله بها سلطان. وإذا كان عدي صدام حسين يحلق رؤوس اللاعبين إثر خسارتهم في مباراة ما، فإن المعجم الثوري الليبي كان يسمي كرة القدم «لعبة تتسع لآلاف المغفلين!»، أما عضو مجلس قيادة الثورة الليبي ووزير الداخلية فلا يجد حرجا في القول: «لو توجد طريقة لجر المدينة الرياضية ورميها في البحر لما ترددنا في ذلك» ص201؛ لأنهم يخشون من سطوع هذا النجم، سواء في الرياضة أو في الثقافة والفنون.

لقد مسخ القذافي العديد من المثقفين الليبيين، وجعلهم يمجدون الديكتاتور وكتابه الأخضر، وقد وصل بهم التملق حد اعتبار هذا الكتاب «نظرية عالمية ثالثة» بينما هو يخلو في واقع الحال من أي فكرة منطقية معقولة.

إن محاكمة التجار والمقاولين ومصادرة أملاكهم وثرواتهم هي لعبة تكررت في العراق وليبيا، وألحقت الضرر بالعديد من المواطنين، كما هو الحال مع أبي فاطمة الذي صودر مجمعه السكني فأصيب بجلطة فارق إثرها الحياة، تاركا ابنته الوحيدة التي تزوجت من مرزوق دهيمش، أحد أعوان النظام الذي تزوج غير مرة فأصيب بـالإيدز، هذا «المرض الإمبريالي» الذي فتك بفاطمة في خاتمة المطاف.

تندرج قصص ظهور وغياب المذيعات الحسناوات في إطار الترغيب والترهيب، فالمذيعة «ساسية حديد» التي سطع نجمها في نشرة التاسعة والنصف بالتلفزيون الليبي كانت عشيقة لأحد ضباط الثورة الذي يلتقي بها في حي السراج، لكنها ما إن تجاوزت الخط الأحمر حتى وجدت نفسها خارج التلفزيون، ولم يتم إعادتها إلى الإذاعة إلا بعد أن قدمت العديد من التنازلات على حساب جمالها الكلاسيكي، أما الضابط الثوري فقد غاب في ظرف غامض وأصبح أثرا بعد عين. وهي القصة ذاتها التي تكررت غير مرة في العراق وراح ضحيتها النساء الجميلات وبعض المسؤولين الكبار في الدولة.

أما محاولات قلب النظام فهي تهمة جاهزة ضد الساسة والضباط المناوئين والمعارضين للأنظمة الديكتاتورية، لكن نظام القذافي الذي حاكم نخبة من الكتاب الليبيين في منتصف السبعينات بتهمة محاولة قلب النظام قد استنسخ هذه التهمة من قرينه العراقي الذي سبق له أن أعدم الروائي حسن مطلك وسجن القاص محمود جنداري بسبب التهمة ذاتها، فكلا النظامين كانا يعولان زرع الخوف في قلوب الناس وترويعهم بشكل متواصل.

لا تقتصر الرواية على هذه الثيمات الفرعية، فلقد حاول البوسيفي أن يدرس بنية المجتمع الليبي المكونة من عرقين، وهما العرب والأمازيغ، لكنهم ينقسمون إلى بدو وريفيين ومدنيين، و«عائدين» كنية للناس الذين تركوا ليبيا خلال حقبة الاحتلال ثم عادوا إليها بعد الاستقلال، كما حاول أن يفهم الشخصية الليبية من خلال «المكرونة المبكبكة وطريقة شربهم للكحول»، وربما يذهب أبعد من ذلك حينما رصد السائق الليبي الذي يمتلك روحا غامضة، ويكاد يتحول إلى كائن مختلف عندما يجلس خلق عجلة القيادة، كما في التقرير الذي أعدته الشركة اليابانية، في إشارة واضحة إلى الضغوط النفسية الكبيرة التي تدفع المواطنين الليبيين إلى نوع غامض من الانتحار.

بقي أن نقول إن الرواية تتوفر على نفس سردي واضح يدلل على تمكن الروائي من أدواته الفنية التي صنعت هذا النص السردي السلس.