القراءة.. أفضل عادة سيئة تفتق عنها ذهن الإنسان

د. ماهر شفيق فريد

TT

بدأت القراءة على نحو منهجي منتظم منذ سن العاشرة. ولم تزايلني هذه العادة الذميمة (التي لا أتمنى الشفاء منها) حتى هذه اللحظة، وقد أشرفت على الـ70.. 60 عاما من إنفاق الوقت والجهد والمال ونور البصر فيما لا يجدي. أم أنه في النهاية يجدي؟

كانت البداية كتابين مترجمين عن الإنجليزية: أحدهما سيرة للرئيس الأميركي إبراهام لنكولن محرر العبيد، والآخر عنوانه «العلم يدعو إلى الإيمان»، وهو محاولة للتوفيق بين الدين والعلم. تزامن هذا مع اكتشاف أدب الطفل والشاب الذي أبدعه كامل كيلاني؛ قصص فكاهية، وقصص من ألف ليلة وليلة، وقصص هندية، وشكسبيريات مبسطة، وأساطير، وقصص علمية، وقصص من التراث العربي. وكانت مجلة «سندباد» متعة أسبوعية تتجاور فيها رسوم حسين بيكار مع أقلام سعيد العريان وعادل الغضبان وفريد أبو حديد. ثم جاءت سلسلة «أولادنا» التي قدمت «بينوكيو» و«آلة الزمان» و«أوليفر تويست».

في مرحلة لاحقة كانت سلسلة «كتابي» لحلمي مراد تقدم ملخصات لروائع الفكر العالمي، مع لوحات ملونة على ورق صقيل. وروايات الهلال تترجم «الفرسان الثلاثة» لألكسندر دوماس الأب، و«حذار من الشفقة» لستيفيان زفايج وغيرها.

مع الدخول في مرحلة المراهقة، بتحولاتها البدنية والعقلية والروحية، وعذاباتها العاطفية، وتساؤلاتها الدينية، اتخذت الأمور منحى أكثر جدية شكّل باقي حياتي. تبلورت اهتماماتي في ستة ميادين؛ الأدب ثم الفلسفة ثم علم النفس ثم التاريخ ثم الدين ثم الفيزياء الكونية وعلم الفلك، بهذا الترتيب من حيث الأهمية. لم أتمكن قط من أن أهتم جديا بالسياسة أو القانون أو الاقتصاد أو الرياضيات أو الرياضة البدنية أو الحاسوب، وكلها ثغرات واضحة (بل فاضحة) في تكويني.

في الأدب، حين التحقت بكلية الآداب بجامعة القاهرة وقعت في حب ت.س. إليوت بفضل أستاذي رشاد رشدي، وفي حب سارتر بفضل ترجمات سهيل إدريس ودار الآداب البيروتية و«لا منتمى» كولن ولسون. تزامن هذا مع تلمذتي على يد أمين الخولي، الذي فتح لي بكتابه «مناهج تجديد في اللغة والنحو والتفسير والأدب» طاقة على التراث العربي الكلاسيكي. كانت علامات الطريق فيما بعد هي مجموعة إدوار الخراط القصصية «حيطان عالية» (والخراط عندي أعظم أدباء العربية قاطبة في القرن العشرين)، شعر أدونيس (وهو عندي أعظم شاعر عربي منذ وفاة المعري)، نجيب محفوظ،، شفيق مقار صاحب «السحر الأسود»، لويس عوض صاحب «العنقاء»، صلاح عبد الصبور. وفي الآداب الأجنبية شكسبير (خاصة عطيل)، راسين، الشعراء الرمزيون الفرنسيون في القرن التاسع عشر، أونيل، سترندبرج، التعبيرية، السيريالية، مسرح العبث.

في الفلسفة تحدد قدري بقراءة كتاب عبد الرحمن بدوي «دراسات في الفلسفة الوجودية»، ثم كتابات زكي نجيب محمود وفؤاد زكريا، وثلاثية يوسف كرم عن الفلسفة اليونانية وفلسفة العصور الوسطى والفلسفة الحديثة، وكتاب ستيوارت ميل «حول الحرية»، الذي جعل منة ليبراليا.

في علم النفس، قرأت فرويد وآمنت به. فقدت الطفولة وصلات القرابة براءتها في عيني، وأصبح الكون مليئا بالرموز الجنسية، ورغبات العدوان والموت والارتداد إلى الرحم وصدمات الميلاد والمشهد الأولي.

في التاريخ همت بكتاب الدكتور توفيق الطويل «قصة الكفاح بين روما وقرطاجنة»، وتمنيت أن أكتب رواية عن بطلي هانيبال، وكتاب «جنكيز خان» للين يوتانج من ترجمة صوفي عبد الله.

كان أهم ثلاثة مفكرين مصريين عندي هم: طه حسين («قادة الفكر» قادني إلى التاريخ والفكر اليوناني) والعقاد («ابن الرومي» وجهني إلى أهمية الدراسات النفسية) وسلامة موسى («تربية سلامة موسى» جعلني أومن بالعلم وحرية المرأة والتطور الدارويني).

لكن القراءة وحدها لم تكن تكفى، كان هناك اهتمامي بالفن التشكيلي (خاصة في عصر النهضة الإيطالي وجويا والانطباعيين الفرنسيين وسريالية دالي وتشويهات فرنسيس بيكون وتعبيرية إدوارد مونش). والموسيقى الكلاسيكية (خاصة مندلسون وسترافنسكي) والسينما (بدءا من أفلام رعاة البقر في الغرب الأميركي إلى انجمار برجمان مرورا بشارلي شابلن ولوريل وهاردي وأبوت وكوستلو وهتشكوك).

هل أنصح الشباب بشيء؟ كلا، فلست أومن بجدوى النصائح، ولم أكن في شبابي أستمع إلى نصيحة أحد. فقط أقول لهم: اقرءوا. اقرءوا كل ما يقع تحت أيديكم ولو كان قصاصة جريدة ملقاة في الشارع. القراءة (كما يقول العقاد) تجعل الساعة من العمر ساعات وتزيد من ثروات النفس والبيان. إنها الإدمان الوحيد الذي لا يعارضه الأطباء والقانون والمربون، وأفضل عادة سيئة تفتق عنها ذهن هذا الحيوان الراقي الذي ندعوه الإنسان.