الكاتب البوسني ألكسندر هيمون يسرد سيرته

وصل إلى أميركا لاجئا لا يعرف الإنجليزية وسرعان ما أصبح أحد أبرز كتابها

الكسندر هايمون.. وفي الإطار غلاف الكتاب
TT

أعلن يوما أن أسوأ لحظات غربته علمه بوجود معسكرات للقتل الجماعي أقامها الصرب لتعذيب المسلمين، وفي إشارة إليها صرح بأنها دمرته حتى إنه رغب في استشارة طبيب نفسي، لكنه بدلا من الاستشارة أجمع على أن يبتر لغته الأم من كيانه وألا يعود إلى الكتابة بها.. «فلغتي هي لغة البوسنة قبل الحرب وتلك قد انتهت». إنه الكاتب الأميركي ألكسندر هيمون، المولود عام (1964) في سراييفو، غير أنه لا يشعر بانتماء إلى القومية الصربية، ويعرّف نفسه بأنه أوكراني نسبة إلى جذور والده. أكثر ما يضجر هيمون هو السؤال عن هويته على الخريطة الممزقة ليوغوسلافيا سابقا، ففي روايته «رجل لا وجود له» (2002) - كتاب أغرى النقاد بمقارنته بالروائي البولندي المولد الإنجليزي المستقَر جوزيف كونراد - يسأل أحد الأميركيين البطل إن كان صربيا أم مسلما فيجيب «إنني مركب.. لك أن تعتبرني بوسنيا». وكما هو حال البطل يصر هيمون في ما يشبه الحدة «لستُ صربيا.. إنني بوسني».

كان قد انتهى المقام بهيمون بعد اندلاع الحرب ببلده لاجئا معدما لا يتحدث سوى إنجليزية السياح في شيكاغو، لكنه أتقن الإنجليزية وأنشأ يؤلف قصصا بها، بل إنه قام بنحت عدة كلمات إنجليزية بنفسه! وأثنى النقاد على استخدامه المبتكَر للغة وقدرته على التعبير عما يشاء بشغف ودقة على حد سواء، إلا أنه لا يمكن اعتبار «مَن لا يصور إلا شرق أوروبا ومواطنيها» كاتبا أميركيا. الحق أنه يقف موقف العداء أمام العديد مما يفخر به الأميركيون. ففي قصته «غرفة سمورا» (2004) يحاول أميركي أن يدمج أحد مواطني البوسنة في المجتمع، فيلقي عليه دروسا مرتجلة في التاريخ الأميركي، ويجعله يتطلع بإعجاب إلى خُصى كبيرة زينت أرابي الآباء المؤسسين؛ ويقص عليه الملحمة العظيمة لإنقاذ العالم من خطر كارهي الحرية «قصها في عدة حلقات (فيتنام، غرينادا، الخليج)؛ وشجعه على التفرج على التلفزيون كي يُقدّر ثراء الثقافة الأميركية حق قدره؛ ورسم للرأسمالية لوحة زيتية رحبة بعدة ضربات بسيطة من فرشاته – السوق الحرة، المشاريع الحرة، فلوس في البنك».

لقد منحت أميركا هيمون جائزة مؤسسة «بين دبليو جي سيبولد» ومنحة جوجنهايم ومنحة «العبقرية» من مؤسسة ماك آرثر، بيد أنها كثيرا ما خذلته إنسانيا، وهو لا يتوانى عن تسديد عينين ساخرتين إلى عنصريتها «حادثتُ أناسا حسبوا يوغوسلافيا - وكانت تتمرغ في الدماء وقتها - كلمة خاطئة الهجاء صحيحها تشيكوسلوفاكيا. خاطبتُ آخرين يمقتون الأجانب نم دون أن يخجلوا من إعلامي بمقتهم. ولكن أسوأ ما كان هم مَن حسبوا أني أحيا الحلم الأميركي وتوقعوني مفعما بالبهجة لوجودي هنا، ومنهم أستاذ جامعة مرموقة دافع (دفاعا بليغا) عن الإبادة الجماعية».

في روايته «مشروع لازاروس» (2008)، الفائزة بجائزة مؤسسة «يان ميشالسكي»، يصوب هيمون ضرباته إلى التمييز العرقي في أميركا. وهو يصفها «برواية أبو غريب»، السجن العراقي، إذ يصور أحد مشاهدها رجل شرطة في شيكاغو يتخذ وضعية جذابة ليلتقط أحدهم صورته مع جثة شخص هارب من مذابح شرق أوروبا. وفي قصة «جوزيف برونيك الأعمى» (1999) يعري هيمون نموذج راعي البقر الأميركي المنتهز للفرص، الغافل عن العالم، المتجرد من أي رقة. يجاهر أحد الأميركيين من غير مواربة بأن الحرب محمودة، وإن لم تنشب الحروب، إذ سيتبقى أناس أكثر من اللازم! يجد المسألة أشبه بقانون الانتقاء الطبيعي، مثلها مثل السوق الحرة. خيرهم مَن يعلو على السطح «أما الحثالة فبالسلامة. أنا لا أعرف عنك الكثير أيها الروسي، لكنك ما دمت وصلت هنا فلا بد أن لك قيمة، مثل هؤلاء المهاجرين يا رجل، كانوا رعاعا في بلادهم، ولما جاءوا إلى هنا أضحوا مليونيرات أوغادا. لذلك نحن أقوى دولة وسخة في العالم، لأنه لا بقاء هنا إلا للأقوى».

وهكذا روى هيمون حكايات احتفى بها النقاد سنوات، والآن يبوح إلينا بشهادته الأليمة عن تاريخ سراييفو بوحا شخصيا لا ينقصه التفرد، وفي الوقت ذاته كوني الأثر. غالبا ما تطغى على السير الذاتية - لا سيما بأقلام الأدباء - المراجعات والتجميل. وبوسع القارئ أن يستشف الحكمة بأثر رجعي. كان الروائي الأميركي بيتر أورنر قد قال يوما إن «ذاكرتنا تكذب، وما سيرنا الذاتية إلا تجميع لأعظم لحظات هرائنا ليس إلا». لكن هيمون في «كتاب حيواتي» (2013) يتوخى صراحة جديرة بمن لا يمتلك ما يستحق الخسارة، مقتربا من جلد الذات وتعريتها. يبدد أوهامه المتعمدة ويرسم حدود الأنا وقصصا نحكيها لنسبغ المغزى على الوجود، وهو يطوف بنا من طفولته في سراييفو - بها سخر شابا من مزاعم الكبار وهو ينصت إلى الموسيقى الأميركية ويطالع الشعر الركيك - إلى عنصرية أميركا، من مأساة الحرب إلى خسارة ابنته لمعركتها مع السرطان. نغفر للمغترب أي لحظة تشي بالتعالي أو القسوة، فسراييفو تطوي في جعبتها فيضانا من الظلمة.

تستحضر سيرة هيمون الحروب اليوغوسلافية في تسعينات القرن الماضي «ما كان هناك مخلوق يشارك غيره الطعام، فهو سلعة البقاء على قيد الحياة. لم أجد بأسا بتخيل نفسي أواجه الجيش الأجنبي كما الأبطال لأصاب برصاصة في ظهري وأموت حماية لعلبة (تونة) في جيبي». ومع ذلك يستدعي هيمون صورا عشوائية تارة ومدروسة تارة أخرى لمدينة سحرية يفتش فيها عن ماهية الوطن والبيت. ومَن منا لا يبحث عن معنى لأصله؟ يرسم مشاهد تنير حقيقة سراييفو وشيكاغو - وليس تاريخا جامعا مانعا لهما - ومنها لحظات قضاها في أحد مقاهي سراييفو قبل شن الحرب. هناك شهد أناسا بعيون عارية من أي انفعال تحملق إلى الأفق. لا يخاطب أحدهم الآخر، ونالت من بعضهم المخدرات كل منال، فيما تحجر بعضهم مشلولا شللا فطريا، وكلهم تولاهم الرعب مما لا يمكن إنكاره «لقد انقضى كل شيء. هلت الحرب، وهُم الآن في انتظار أن يَعلموا من سيعيش، ومن سيَقتل، ومن سيموت».

تسود «كتاب حيواتي» نبرة اعتراف صريحة لا تَعرف الكبح، ترنو جريئة - وتنقلب بين الحين والآخر جارحة - إلى موقع الفرد في شبكة الحياة وهول الحالة الإنسانية وجمالها، سمات تتقاطع مع أدب الروائي الروسي المولد فلاديمير نابوكوف. إنها ليست حقا سيرة ذاتية لقاص كئيب، بل أغنية تفيض حبا ينشدها هيمون لسراييفو. لا يشارك هيمون الأدباء اعتقادهم أن الأدب يسبغ نبلا، وعلى حين يصف شيكاغو بأنها ليست «مقامة بغرض جمع الناس، وإنما تفريقهم في أمان»، لا يلتمس من الأدب إلا إحساسا بالجماعة خالجه في البوسنة، حيث لا وجود لكلمة «خاص».

لا ريب أن تصوير كتاب «حيواتي» الحميم لعالم ضاع أثره من جراء واحد من أشد الصراعات دموية، هو كشف لا يكتفي بما هو شخصي، وإنما تأريخ للحرب والكفاح والاغتراب، موضوعات يجابهها هيمون بواقعية لا تعرف الخجل أو تتلون بأي رومانسية. إنها الحقيقة العارية من غير رتوش أو شحن عاطفي.

يقول عنه الكاتب الآيرلندي كولم ماكين إنه «أعظم قصاصي الجيل»، وعلها مبالغة في محيط ثقافي يضم الأميركيين إدوارد بي جونز ولويز إردريك، لكن الثابت أن سيرته تعكس أدبه بجلاء، إذ تجمع بين العمق والسلاسة، ممتعة وإن شابها الألم، لافحة وفجة من فرط الغضب، هزلية تكتنفها التساؤلات، لكن بسرد خلاق.. وإنساني.