الوردي يدرس التاريخ الإسلامي في ضوء علم الاجتماع الحديث

في كتاب يصدر بعد 18 سنة على رحيله

TT

عن دار «الوراق» بيروت ولندن، صدر لعالم الاجتماع العراقي علي الوردي كتاب «دراسة في سيسيولوجيا الإسلام»، 200 صفحة من القطع الكبير.

وينشر هذا الكتاب للمرة الأولى، بعد رحيل مؤلفه، عالم الاجتماع العراقي علي الوردي عام 1995.

يناقش الفصل الأول الخلاف السني - الشيعي، بينما يبحث الفصل الثاني في قضية الخلافة والآثار المترتبة عليها. وتناول الفصل الثالث طبيعة الإسلام، بينما خصص المؤلف الفصل الرابع لـ«الصراع في الإسلام وأصوله»، والخامس لـ«صراع الظالم والمظلوم»، ليختم كتابه بفصل «علي ومعضلة الإسلام».

جاء في مقدمة المؤلف: «تعد دراسة التاريخ الإسلامي في ضوء نظريات علم الاجتماع الحديث حقلا خصبا من حقول البحث، فقد كتب عدد كبير من الكتب حول الملامح المتنوعة للإسلام، غير أنني أكاد أجزم بأنه لم يحاول أي كاتب أن يدرس بجدية التفاعل الحاصل بين الدين الإسلامي والمجتمع الذي ازدهر فيه».

إن الغرض من علم اجتماع الدين، كما يبين واك، هو «دراسة العلاقات المتبادلة بين الدين والمجتمع وأشكال التفاعل التي تحدث بينهما». إن أي دين يظهر في البداية كرفض أو ردة فعل ضد ظاهرة معينة في المجتمع ويتغير في النظرية والتطبيق تبعا للتغيرات في نموه الدنيوي ونجاحاته وإخفاقاته وطبيعة الناس الذين يسودون فيه وما شابه من الأمور الأخرى.

قام كثير من الكتاب بدراسة تاريخ الديانة المسيحية وحتى اليهودية على هذا المنوال، بينما يوجد نقص كبير في الدراسات الاجتماعية للإسلام.

ظهرت في مصر التي تعتبر مركز العالم الإسلامي قبل زمن سلسلة من الكتب لأستاذ الجامعة المصرية الدكتور أحمد أمين، التي عالجت موضوع التاريخ الاجتماعي للإسلام واستقبلتها الأوساط الثقافية العربية بحماس وتقدير كبيرين. فقد عدت أول جهد حقيقي في تفسير التاريخ الاجتماعي والطائفي للإسلام من منظور حديث. إنها بلا شك مصدر مهم لدراسة الإسلام دراسة اجتماعية غير أنها ليست بالعمل السوسيولوجي على الإطلاق. يبدو أن أحمد أمين ينتمي للمدرسة القديمة التي تميز تمييزا واضحا بين الخطأ والصواب، فهو لا يزال يفكر ضمن منظومة قيمية ثابتة وحقائق مطلقة حول القضايا الاجتماعية، حيث خصص جزءا كبيرا من عمله لشجب صنف من الأفكار وتمجيد صنف آخر من غير أن يسأل نفسه، حينما تبنى هذه الفكرة أو تلك فيما إذا كان الناس أحرارا في اختياراتهم أو مجبرين تحت وطأة ظروفهم الاجتماعية. إنه يحكم على أي فعل اجتماعي من منطلق يخلو من النظرة الواقعية. يمكن القول إن أحمد أمين يمتلك خلفية فلسفية وليس خلفية اجتماعية، لذلك نراه يطبق المنطق الأرسطي على القضايا الاجتماعية.

هذه الدراسة، بخلاف الأعمال الآنفة الذكر، تحاول دراسة بعض النظريات الاجتماعية للإسلام، ليس بوصفها أفكارا منطقية موجودة في فراغ بل كونها آيديولوجيات في تفاعل مستمر مع الظروف الاجتماعية التي ظهرت فيها.

والجدير بالذكر هنا أن هذه الدراسة لا يقصد منها أن تكون بحثا طويلا لمجمل حقل سوسيولوجيا الإسلام، فهذا الأمر أكبر من أن يضطلع به باحث لوحده. إن هذا العمل معني بدراسة جانب من جوانب ذلك الحقل، وهو: معضلة الإسلام أو، بكلمة أخرى، الصراع بين المثالية والواقعية في تاريخ الإسلام.

إن الصراع بين المثالية والواقعية موجود في كل طور من أطوار المجتمع الإنساني كما سنرى لاحقا ولكنه ليس من المبالغة القول إن ذلك الصراع أبرز نفسه بصورة شديدة جدا في تاريخ الإسلام. أحاول في هذه الدراسة مناقشة أسباب وتطور هذا الجانب المميز للإسلام.

إن الصراع بين المثالية والواقعية موجود في كل طور من أطوار المجتمع الإنساني كما سنرى لاحقا، ولكنه ليس من المبالغة القول إن ذلك الصراع أبرز نفسه بصورة شديدة جدا في تاريخ الإسلام. أحاول في هذه الدراسة مناقشة أسباب وتطور هذا الجانب المميز للإسلام.

لا بد هنا من توضيح نقطة واحدة قبل أن نتقدم بالدراسة. استخدمت هنا مصطلحي «المثالية» و«الواقعية» بالمعنى الشائع وليس بالمعنى الفلسفي.

يقول الدكتور تايتس: «تحمل العقلية العامة فهما مختلفا جدا لمصطلح (المثالي)، عما هو عليه في الاستخدام الفلسفي للمصطلح، يمكن أن تعني كلمة مثالي في المفهوم الشائع:

1 - الشخص الذي يرضى ويعيش بمعايير أخلاقية وجمالية ودينية سامية، مثل هذا الإنسان يقال عنه إنه شخص ذو مثل أو مثالي.

2 - الشخص الذي يكون قادرا على رؤية ومناصرة خطة أو برنامج معين لا يوجد بعد على أرض الواقع. فكل مصلح اجتماعي ونبي هو شخص مثالي بالمعنى الأخير، لأنه يدعم ما لم يأتِ به بعد إلى حيز الوجود.

يتحدد المعنى الفلسفي لمصطلح المثالية بمصطلح «فكرة (Idea) وعقل (Mind) أكثر من مصطلح مثالي (Idealist). يقول البروفسور و. إي. هوكينغ، وهو عالم في علم المثالية، إنه من ناحية المعنى يكون مصطلح idea - ism معبرا أكثر من مصطلح (idealism)، فالمصطلح الأخير يؤكد أن الواقع قريب للأفكار والعقل أو الذوات أكثر من كونه قريبا للقوى المادية.

ويميز تايتس أيضا في معرض الحديث عن الواقعية بين المعنى الشائع والمعنى الفلسفي للمصطلح، حيث يقول: «يمكن أن تعني الواقعية في المعنى الشائع الحرص على الحقائق والتفاصيل إزاء الخيال».

وسنشرع من خلال تذكر الفرق بين الاستخدام الشائع والاستخدام الفلسفي لهذه المصطلحات بدراسة المعضلة، ودورها في تشكيل التاريخ الاجتماعي والمذهبي للإسلام.