محنة الكرد الفيليين في رواية عراقية

تشتت الحدث الروائي في «جدد موته مرتين» لحميد الربيعي

TT

صدرت عن دار «فضاءات» بعمان الرواية الثالثة للكاتب حميد الربيعي، وقد انضوت تحت عنوان «جدد موته مرتين»، وهو عنوان لافت للنظر وينطوي على قدر من الإثارة التي تحفز المتلقي على معرفة كنه الموت الثاني وإمكانية حدوثه من عدمها، خصوصا إذا كان النص الروائي يدور في إطار واقعي ولا يتجاوزه إلى عالم غرائبي تتسيد فيه الفنتزة محتوية العالم الافتراضي الذي دبجه لنا خالق النص ومبدعه.

تعتمد الرواية التقليدية على تبئير الحدث، وتكثيف ثيمته، ثم سردها بطريقة تتابعية، حيث يهيمن البطل الواحد أو السارد الواحد على مدار النص برمته، غير أن هذه التقنية السردية ذات الصوت الواحد تحرمنا كمتلقين من الأصوات «البوليفونية» المتعددة التي تكسر رتابة السرد في الأقل، وتنقذنا من هيمنة البطل «الديكتاتور» إن جاز لنا التعبير. وعلى وفق هذه القراءة النقدية نعتقد أن الروائي حميد الربيعي «حميد المازن سابقا» قد اتبع تقنية تشتيت الحدث الروائي الذي كان مكثفا في ذهنه، لكن هذا التكثيف أو «التبئير» بمفهوم جيرار جينيت سوف يقوده إلى التنميط أو الوقوع في فخ الرواية التقليدية التي يتفادى الخوض فيها لأنه يحبذ كتابة نص روائي حداثي كما صرح في بعض المقابلات الصحافية التي أجريت له غب صدور روايته الثالثة المشار إليها سلفا. ورب سائل يسأل عن طبيعة النص الحداثي وماهيته؟ وهل تكمن الحداثة في شكله أم في مضمونه أم في الاثنين معا؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة لا بد من الوقوف عند ثيمة الرواية وتقنيتها في آن معا. تحتاج الرواية المشتتة أحداثها عن قصد إلى تقنية «التقطيع المتعمد» للثيمة التبئيرية وتحويلها إلى شذرات أو مشاهد مجتزأة من مشهد بانورامي واسع لأن هدف الروائي هو إزاحة السارد وفسح المجال أمام شخصيات النص كي تتولى عملية الروي أو السرد بنفسها.

* أساليب السرد لا شك في أن قارئ هذه الرواية سيكتشف منذ الشروع بقراءتها أنها تقوم على تعدد الضمائر الساردة كالشخص الثالث وضمير المتكلم وما إلى ذلك، كما حاول الكاتب استعمال تقنيات يتداخل فيها الراوي العليم والراوي المشارك كي يقدم رؤى متعددة للمحمولات الفكرية سواء لشخصيات الرواية أم لمؤلفها الذي قد يتوارى خلف هذه الشخصية أو تلك. إن الحديث عن الثيمة المشتتة للرواية لا بد أن يأخذنا لمجمل الشخصيات ولا يجوز أن نهمل أيا منها لأن هدف الروائي هو تحقيق تعددية الأصوات التي أشرنا إليها سلفا. غير أن هذه المهمة تبدو عسيرة في هذا المجال الضيق. فثمة شخصيات أساسية مثل نجم الفحام ومريم، وشخصيات مؤازرة، وليست ثانوية، مثل خليل الحاج، أم خليل، محمد الخضيري، جليل حيدر، ميرزا، سعدون، عزيز علي أكبر، مكي، والرئيس، وابنه، وسواهم من الشخصيات المنبثقة من الحضارات العراقية القديمة التي تجد صداها في شخصيات النص الرئيسة، حيث يغدو نجم الفحام «تموزا» وتصبح مريم «عشتارا» في محاولة لاستنطاق جوهر الأسطورة البابلية وإسقاطها على الواقع الراهن. إذا أردنا أن نجمع خيوط هذه الثيمة المشتتة فسنجد أن المهيمنة النصية الطاغية هي مهيمنة القمع التي عانى منها الشعب العراقي خلال سنوات الحكم الديكتاتوري السابق، لكن الكاتب ضيق من هذه المهيمنة ليجعلها تقتصر على الكرد الفيليين في محلة «عكد الكراد»، ثم وسع من دائرتها قليلا لتشمل «أبو سيفين» و«الصدرية» قبل أن يعممها على القومية الكردية حين ترحل بعض الشخصيات إلى كردستان وتباد في «قلعة دزه» مثل أم خليل، بينما ينجو آخرون مثل مريم التي سبيت مع الكثير من النساء الكرديات، بينما أغرق الرجال في بحيرة «دوكان». وفي إطار هذا المناخ القمعي تنشأ قصة حب عميقة بين نجم الفحام ومريم اللذين يمتلكان مواصفات خارقة للعادة. فإذا كان نجم الفحام يمتلك قوة مدمرة، وطاقة متوقدة لا حدود لها، فإن مريم تمتلك هي الأخرى سطوة جمالية خارقة ظلت تشده بها طوال حياته، ولربما جدد حياته مرة ثانية بغية لقائها حتى وإن أخذ هذا اللقاء صيغة رمزية. لقد استعمل حميد الربيعي تقنية الإيهام ونجح في خلق جو من الالتباس المضموني، أو الغموض المقصود الذي يستدعي من القارئ أن يبذل جهدا كبيرا كي يفك شيفرات النص المستعصية من جهة ويضمن مشاركته الفعلية في صناعة الحدث على اعتبار هذه المشاركة جزءا من تقنيات أو اشتراطات النص الحداثي.

* غرابة الثيمة تبدو ثيمة هذه الرواية غريبة إلى حد ما وهي إخصاء الرجال الذين يصادرون حقه في الحرية والحب والحياة.. ثم تتطور هذه الفكرة لإخصاء الديكتاتور نفسه. وقبل ذلك إخصاء صديقه سعدون لأنه أخذ دوره في أن يكون عريسا لمريم في مناسبة «عرس القاسم». يمضي السياق العام للبؤرة المشتتة في أن ترحل مريم وأمها من عكد الكراد إلى قلعة دزه، شمال السليمانية، وهناك تتعرض المدينة إلى القصف بالقنابل المحرمة دوليا فتستشهد أم مريم، بينما تسبى الأخيرة إلى مشارف الصحراء الغربية. وفي خاتمة المطاف نراها وقد تزوجت من شخص آخر لأنها لم تفلح في الاتصال بحبيبها طوال سنوات غيابه، لكنها تهيئ له فرصة نادرة للقاء الرئيس، غير أنه يضيع سانحة الحظ ولم يتمكن من إخصائه على الرغم من أنه تنبأ بخروجه من حفرته التي سيختبئ بها أشعث الرأس! سواء أكان الفحام قد مات فعلا وجلبت جثته إلى العراق، أم أنه قد خدر واختطف من فيينا، كما كان هذا الإجراء شائعا في تلك الحقبة، فإن الروائي حميد الربيعي قد نجح في هذه اللعبة الفنية الإيهامية التي جعلته يقاصص الطاغية حتى وإن كانت صيغة المقاصصة حلمية وفي طقس كابوسي بامتياز، حتى إن الفحام نفسه قد أيقن أنه «دفن ذات مرة» وأن لا طائل من الاستمرار فيما كان هو فيه! لابد من الإشارة إلى أن هذه الرواية المفتوحة على نهايات متعددة بتعدد الاحتمالات والشخصيات تتمحور أولا وأخيرا على محنة الكرد الفيليين خاصة، ومعاناة الشعب العراقي بصورة عامة. كما أنها تحاول أن تستنطق الموروث البابلي القديم بواسطة المقاربة التي أشرنا إليها سلفا حينما اتخذ نجم الفحام مظهر «تموز»، في حين تقمصت مريم دور عشتار، هذا إضافة إلى توظيف الجانب الأسطوري لواقعة «عرس القاسم» وما تنطوي عليه هذه الأسطورة من مقومات الحياة على الرغم من جانبها التراجيدي المعروف. وتأسيسا على تقنية تعدد الضمائر الساردة، وتنوع الرواة، وتقطيع الحدث، وتوظيف الأسطورة، وتكريس اللعبة الإيهامية فقد خرج هذا النص من لبوسه التقليدي وارتدى حلته الحداثية التي تعتمد على بنية مغايرة شكلا ومضمونا.