«فقه العمران» في الحضارة الإسلامية

يتناول قواعده وأحكامه الشرعية وتأثير الدولة على أنماطه المعمارية

غلاف الكتاب
TT

يناقش الباحث الأثري الدكتور خالد عزب في كتابه «فقه العمران» الصادر حديثا عن الدار «المصرية -اللبنانية» بالقاهرة علاقة العمارة والمجتمع والدولة في الحضارة الإسلامية، وفي سياق نظرة شمولية لطبيعة هذه العلاقة وأثرها على البيئة والأنماط المعمارية ومدى توافقها مع سلطة الدولة في المجتمعات الإسلامية، والحرص على تشييد عمائر تتناسب مع قيمها وحضارتها. كما يناقش الكتاب أحكام فقه العمران التي تراكمت مع مرور الزمن لتشكل إطارا قانونيا يلتزم به الحكام قبل المحكومين.

يقع الكتاب في نحو ستمائة صفحة، ويتكون من ثمانية فصول وملحق لمصطلحات فقه العمران. ويوضح المؤلف في الفصل الأول، أن فقه العمران ارتبط بإطارين حاكمين له من الناحية الفكرية، الأول، هو السياسة الشرعية، وهي السياسة التي يتبعها الحاكم في المجال العمراني، سواء كانت تتعلق بالأمور السياسية العامة أو بالعمران مباشرة وكلاهما يترك أثره على العمارة، والإطار الثاني، هو فقه العمارة، والمقصود بفقه العمارة مجموعة القواعد التي ترتبت على حركية العمران نتيجة للاحتكاك بين الأفراد ورغبتهم في العمارة وما ينتج عن ذلك من تساؤلات، يجيب عنها فقهاء المسلمين، مستنبطين أحكاما فقهية من خلال علم أصول الفقه، والتي تتبلور أغلبها في مراعاة الموقع الذي يتمتع بطيب الهواء، وجلب الماء بأن يكون البلد على نهر أو بإزائه عيون عذبة، وطيب المراعي ومراعاة المزارع.

ويلفت المؤلف إلى أن نظرة علماء الشرع للعمارة، انحصرت في: البناء الواجب مثل دور العبادة، والمندوب كالأسواق التي تندب لتوفير السلع للناس، والمباح كالمساكن والبناء المحظور كالبناء على أرض الغير، مشيرا إلى أن الفقهاء اعتمدوا في بنائهم لفقه العمارة على الحديث النبوي «لا ضرر ولا ضرار»، وعلى القاعدة الفقهية القائمة على «جلب المنافع ودفع المفاسد».

ويناقش المؤلف في الفصل الثاني، دور الفقه في التنظيم والتخطيط العمراني للمدن، من حيث الشوارع والطرق العامة والخاصة، موضحا أن هناك الكثير من المصطلحات التي ظهرت في سجلات المحاكم الشرعية والمصادر الفقهية مثل حفظ حق الطريق، وحقوق الجوار، وضرر الدخان، وإحياء الموات، والحوائط المشتركة، والركوب وغيرها وهي تدل على مدى التقدم الذي وصلت إليه الحضارة الإسلامية في مجال إقرار قوانين تحافظ على البيئة الحضرية في المدن، بل تعكس تفاعل المجتمع الذي صاغ هذه القوانين الحاكمة بين الساكنين في المدن بعيدا عن سلطة الدولة، بل تؤكد التزام الساكنين بهذه القوانين.

وتعرض الفصل الثالث، إلى فقه عمارة المساجد، وما تنطوي عليه من عناصر هندسية وجمالية وفلكية، مثل المنابر، وتحديد موضع القبلة والمآذن، ويتخذ الكتاب من عمارة المسجد النبوي في المدينة المنورة نموذجا لذلك.

أما الفصل الرابع، فيتعرض فيه الكتاب إلى فقه الأسواق والمنشآت التجارية في الحضارة الإسلامية، مؤكدا أن بناء الأسواق عند المسلمين مندوب، وبتطبيق القواعد الفقهية يرى المؤلف أن هناك اعتبارات كثيرة في تخطيط أسواق المدن، لعل أولها، التوزيع المكاني الذي حكمته الحاجات المتكررة للسكان والضرورية التي قد تتطلب وجود أسواق معينة في كل حي عرفت بالسويقة لتلبية المتطلبات اليومية للسكان، في حين أن التوزيع المكاني يرتبط بضرر بعض السلع التي يجب أن تكون في ساحات عامة خارج المدن كأسواق الدواب والفواخير التي تسبب نيرانها ضررا للسكان.

ويذكر الكتاب أن ثاني القواعد الحاكمة للأسواق، هي التخصص، حيث صنفت السلع والصناعات في المدن بحيث توجد كل حرفة أو تجارة على امتداد الشوارع الرئيسة، وتتجاور السلع المتشابه ولا تتجاور السلع التي قد يضر وجودها سلعة أخرى مجاورة لها.

وتعرض المؤلف في هذا الفصل للكثير من المنشآت التجارية كالحوانيت والقياسر والوكالات والسماسر والفنادق، وضرب أمثلة من الكثير من المدن الإسلامية كالجزائر وفاس وصنعاء والقاهرة ورشيد وتونس.

وركز المؤلف في الفصول التالية من الكتاب على فقه عمارة المساكن، وتفصيل رؤية الإسلام لها، كما تناول حقوق المجاورة في المكان، وسبل الحفاظ على الخصوصية، كذلك فلسفة تأثيث المنازل الإسلامية التي قامت على الاستغلال الأمثل للفراغات، مما يتيح تعدد وظائف الأماكن وما ينتج عنها من اقتصادات عالية.

وفي بحثه في فقه المياه والمنشآت المائية في الحضارة الإسلامية، يشير المؤلف إلى أن الرؤية الإسلامية تعتمد الماء كونه أصل الحياة وهبة من الله وشراب المعرفة، وللماء إضافة إلى هذا معنى تطهيري لأنه يطهر المسلم خارجيا (جسده) وداخليا (روحه). كما أن إمداد الآخرين بالماء، إنسانا كان أو حيوانا، يعد من الزكاة في الإسلام. ويتعرض الكتاب لمحكمة المياه في بلنسية بالأندلس والقواعد المنظمة لها.

كما يتعرض المؤلف للمنشآت المائية وأحكامها وعمارتها كالسدود، وأشهرها سدود الطائف التي تعود إلى العصر الأموي، ويكشف عن اهتمام المسلمين بعمارة مقاييس مياه الأنهار التي تحدد مدى فيضان النهر ويترتب عليه تحديد خراج الأرض، وأشهر هذه المقاييس مقياس نهر النيل بالروضة ومقياس نهر دجلة. كما تعرض لعمارة السقايات والأسبلة، والحمامات في الحضارة الإسلامية، ويرصد خصائصها وفقا للقواعد التي وردت في كتب فقه العمارة القديمة.

ويناقش المؤلف فكرة الربط بين المجتمع والأوقاف والعمارة، وذلك في سياق الكثير من الوظائف ومنها الرعاية الاجتماعية والصحية كانت تقوم بها المجتمعات الإسلامية.

ويختتم الكتاب بفصل مهم يعد محصلة الإبداع المعماري في الحضارة الإسلامية، حيث تعرض فيه المؤلف إلى الهندسة المعمارية، فنراه يتعرض لابتكارات المسلمين في هذا المجال وظهور علوم جديدة كعلم عقود الأبنية، وهو علم يتناول أوضاع الأبنية وكيفية شق الأنهار وتنقية القنوات وترميم المساكن، وكذلك علم استنباط المياه الكامنة في الأرض وإظهارها لإعمار الأرض وزراعتها، ويعرفنا المؤلف على طائفة المعماريين ودورها الحضاري، ويكشف عن أصول الرسم المعماري ونماذجه لدى المسلمين، واستعانة القضاة بالمهندسين كخبراء في مجال قضايا العمارة، كما يقدم سيرة أشهر المعماريين في حضارة المسلمين.