هومان مجد العائد إلى إيران يكشف عن أسرار من داخل النظام الغامض

هجر الموسيقى إلى السياسة وعمل مترجما لخاتمي أثناء زياراته السنوية لنيويورك

عائلة أميركية في إيران - المؤلف: هومان مجد - الناشر: ألن لين، نيويورك - 252 صفحة
TT

على الرغم من تقديمه كفيلم مصور عن أدب الرحلات، يعد كتاب هومان مجد الجديد في حقيقة الأمر رواية عن شخص يعاني أزمة هوية. ويحظى موضوع الكتاب باهتمام كبير نظرا لمعاناة ملايين الناس في شتى أنحاء المعمورة من نفس المأزق، فهم يولدون في بلد، ثم يقضون حياتهم متنقلين بين عدد من البلدان، وفي النهاية ينتهي بهم الأمر للعيش في بلد آخر ذي ثقافة مختلفة خلال رحلة زمنية ممتدة تنقضي بسرعة كبيرة تكاد تصيب الإنسان بالدوار.

تنحدر أصول عائلة مجد من قرية أردكان الواقعة على أطراف الصحراء الشاسعة في وسط إيران. وقد انتقل جزء من تلك العائلة، التي تضم فلاحين ورجال دين، للعيش في طهران، وبفضل كدهم وتعبهم بالإضافة إلى قليل من الحظ الجيد استطاعوا تسلق السلم الاجتماعي الذي وفره مشروع الحداثة الذي أطلقه شاه إيران رضا بهلوي قبل الحرب العالمية الثانية. أصبح أحد أجداد مجد من رجال الدين ذوي النفوذ وحصل على لقب آية الله، بينما دخل والد مجد السلك الدبلوماسي خلال عهد الشاه بهلوي الثاني. (وقد كان ناصر، والد مجد، دبلوماسيا قديرا ورجلا وطنيا من الطراز الأول، وقد شرفت بصداقته شخصيا على مدى عقود من الزمن). وقد حدث الانفصال الدرامي عن الماضي عندما قرر والد مجد أن يسميه «هومان»، وهو تحديث لـ«فاهومان»، أحد الشخصيات الشهيرة في الأساطير الزرادشتية قبل مجيء الإسلام. وقد قضى مجد جل حياته خارج إيران بسبب وظيفة والده الدبلوماسية، لكنه لم ينس أبدا أصوله وجذوره.

وقد تصادف وجود مجد في الولايات المتحدة الأميركية عندما استولى الملالي على السلطة في طهران عام 1979، وظل هناك حيث حصل على الجنسية الأميركية، بيد أن ثورة الملالي كانت، بالنسبة لمجد، تحمل في طياتها بعض الإيجابيات، فقد استطاع بعض من أقاربه استغلال نفوذه الديني وركوب التيار السياسي الجديد، حتى إن واحدا منهم، وهو محمد خاتمي، أصبح رئيسا للجمهورية الإسلامية فيما بعد. وقد هجر مجد مسيرته في عالم الموسيقى ليتحول إلى الاشتغال بالسياسة، فعمل مترجما لخاتمي أثناء زياراته السنوية لنيويورك، كما كتب مجد الكثير من التحليلات السياسية عن إيران في عهد الخميني. وعلى هامش عمله السياسي، عمل مجد كوسيط لمشاهير مقدمي نشرات الأخبار في التلفزيون الأميركي خلال الزيارات التي كانوا يقومون بها إلى إيران. وعلى مدى عقد من الزمان، شعر مجد أنه ينجذب بشدة إلى إيران وإلى كل ما يتعلق بوطنه الأم إيران. وفي عام 2010، قرر مجد أن يختبر الحياة في إيران من خلال الانتقال للعيش على مدى عام كامل في طهران. في ذلك الوقت، كان مجد في أواخر الخمسينات من عمره وكان قد تزوج لتوه من شقراء نباتية من ولاية ويسكونسن وأصبح أبا لطفل سماه خشاار، وهو مصغر زيريكس (الشاه الذي ينتسب لأسرة الأخمينيين الذي أحرق أثينا). (وقد جرى اختصار خشايار إلى خاش على الطريقة الأميركية في اختصار الأسماء).

ويعد الجزء الأكبر من الكتاب سردا للمعاناة والأحداث العصيبة التي واجهها مجد في طهران، حيث تتحول الأمور البسيطة، كاستئجار شقة على سبيل المثال، إلى معضلة معقدة أو حتى مغامرة خطيرة. وقد عاش مجد طوال العام الذي قضاه في طهران بهاجس مستمر وهو أنه قد يتهم في أي وقت بتهمة التخابر ومن ثم يجري احتجازه في إيران، واضعا نصب أعينه أن الملالي لا يفوتون عاما واحدا من دون أن يحتجزوا أميركيا واحدا على الأقل كرهينة. (في هذا الأثناء يحتجز الملالي خمسة أميركيين كرهائن). ورغم دخولها طهران بجواز سفر إيراني، كانت زوجة مجد الأميركية التي ولدت في ولاية ويسكونسن تشعر دائما بالقلق، بيد أن الابن خشاار تأقلم سريعا، إذ إن الإيرانيين يحبون الأطفال ولا يستطيعون مقاومة تدليلهم.

وحتى يتأكد من أن أسرته لا تواجه أي متاعب، اتخذ مجد مزيدا من الاحتياطات، حيث قام بإطلاق لحيته التي لم تكن طويلة بالقدر الذي يثير المخاوف وليست قصيرة بالقدر الذي يغضب الملالي. أما زوجته، فاتخذت هي الأخرى بعد التدابير مثل لبس حجاب مناسب لها، وفي بعض المناسبات كانت تحاول التأقلم مع طريقة العيش في إيران من خلال التزام نفس طريقة الحديث التي يفضلها النظام الإسلامي الحاكم.

واتخذ مجد أيضا بعض الاحتياطات الأخرى مثل تجديد الاتصال بأعضاء عائلته وأصدقائه النافذين في السلطة الحاكمة. وقد كان أحد أقاربه واسمه علي، وهو شقيق الرئيس الأسبق محمد خاتمي، مفيدا جدا في كثير المواقف، حيث كان يساعد الأسرة في قيادة سيارتها في شوارع طهران المزدحمة. وكان صديقه، صادق خرازي، مفيدا في التخفيف من المعاملة الخشنة التي كان مجد يلقاها من السلطات الإيرانية، فصادق كان مقربا من المرشد الأعلى على خامنئي، حيث كان يدير إحدى المؤسسات البحثية التابعة للأخير، لدرجة أن البعض في طهران يعدون صادق وزير خارجية الظل لخامنئي، على الرغم من أن المرء قد يرى أن محمد جواد ظريف، وزير خارجية إيران الرسمي، قد يكون مجرد ظل.

وبناء على قرابته لعائلة خاتمي وبالتالي قرابته لأسرة آية الله الخميني، الملا الذي أسس النظام الإسلامي الحاكم في إيران، يظهر مجد تعاطفا واضحا مع الفصيل الذي يقوده الرئيس السابق هاشمي رافسنجاني. وقد جرى وضع الكتاب عندما كان محمود أحمدي نجاد، الذي يعده مجد مغتصبا للسلطة، رئيسا للبلاد في ذلك الوقت، بيد أن الكتاب جرى نشره بعد أن ترك «المغتصب» السلطة وشغل ملا آخر، وهو حسن روحاني، الكرسي الرئاسي الذي يعده الملالي حقا أصيلا لهم. وعلى الرغم من علاقاته المقربة بالملالي، يعترف مجد بحيادية بأن الأسلوب الشعبي الذي تبناه أحمدي نجاد في سياساته قد يكون قد أكسبه بعض الدعم من بعض شرائح المجتمع الإيراني.

يتضمن الكتاب الكثير من الفقرات التي تلقي الضوء على أسرار ما يدور بداخل نظام إيران الغامض. ويوضح مجد في كتابه أن الملالي قد قسموا المجتمع الإيراني بالفعل إلى قسمين: قسم يضم المقربين إلى رجال الدين وقسم يضم «الآخرين». أما أولئك المقربون إلى رجال الدين فيتمتعون بمزايا هائلة، كما أنهم مسموح لهم بهامش من المعارضة محروم منه آخرون في المجتمع الإيراني. ويجري التعامل مع أولئك «الآخرين» عن طريق أجهزة قمعية تقوم بعمليات اعتقال جماعية بدلا من عمل مذابح للناس في الشوارع. ويعتقد مجد أن المعارضين الإيرانيين ليس عندهم همة وغير موحدين، حتى أنهم لا يشكلون أي تهديد للنظام الحاكم في طهران، كما يعتقد أن الملالي سوف يستمرون في حكم إيران في المستقبل القريب، وهذا ما حدا به إلى أن يحث الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى للتوصل لصفقة مع الملالي.

ويؤكد مجد أيضا في كتابه أن اللواء قاسم سليماني الذي يقود فيلق القدس، وهو فرقة عسكرية مسؤولة عن «تصدير الثورة»، إذ يقول إنه جرى التحقق أخيرا من أن اللواء سليماني، الذي يدير حزب الله في لبنان، هو الذي يضع الخطط الاستراتيجية للرئيس السوري بشار الأسد في حربه ضد معارضيه. ويوضح مجد أن العالمين ببواطن الأمور في النظام الحاكم في طهران يثقون ثقة كبيرة في سليماني، حتى إنه سمع خرازي يقول: «إنني على استعداد أن أضحي بنفسي من أجله». الأكثر من ذلك أن الرئيس السابق محمد خاتمي وصف سليمان بأنه «المسؤول الأكثر اطلاعا والأكثر مهنية» الذي عمل معه خلال فترة رئاسته.

يقول مجد في كتابه، إن خاتمي «كان يعتمد على سليماني أكثر من اعتماده على وزير الخارجية أو حتى على السفارات الإيرانية في المنطقة».

ويتسم وصف مجد للصراع بين الهويات المختلفة بالروعة، فالرابطة التي تضرب بجذورها في التاريخ لآلاف السنين، وهي الهوية الإيرانية، من الصعب على الغرباء أن يكتسبوها مهما بلغت مقدرتهم على التأقلم خارج بلادهم. وفي المقابل، يستطيع أي شخص أن يصبح أميركيا إذا أراد ذلك بكل بساطة. غير أن النظام الأميركي يسمح للفرد بأن يطور هوية خاصة به من خلال خليط من الوصفات التي يريدها هو. ففي الولايات المتحدة، يمكن لمجد بمنتهى البساطة أن يكون أميركيا من أصل إيراني، لكن في إيران، لا يجلب هذا الخليط إلا المشكلات، بيد أنه تبقى الحقيقة أن مجد يرغب في أن يعيش بهاتين الهويتين، حيث يقضي شطرا من حياته في طهران ويقضي الشطر الآخر في نيويورك، وينتقل من عالم إلى عالم آخر كما يفترض على إنسان ما بعد الحداثة أن يفعل من دون أن يواجه أي صعوبات.

وفي النهاية، تبقى جاذبية الهوية الأميركية أكثر قوة لدى مجد، لكنه لن يتوقف عن حبه الشديد لإيران، بيد أنه عانى في إيران من فقدانه لممارسة أي نوع من الحريات التي يتمتع بها في الولايات المتحدة، فكوب من قهوة ستاربكس في أميركا يتحول إلى كعك ماديلين في إيران.

أما الفصل الأخير من الكتاب فيحمل عنوان «الوطن»، أي نيويورك، التي اختارها مجد في النهاية وطنا له.