غرفتي حيطان وأعمدة من كتب

TT

ما بيننا، أعني أنا والكتاب، علاقة سحرية قديمة، قد يصح اعتبارها علاقة عاطفية لا فكاك منها، مهما سطت على حياتنا شاشات الكومبيوتر واتسعت لملايين الكتب الإلكترونية، نتذكرها، نختارها، نستحضرها بكبسة زر، ونغلقها على قليل من ترسبات الحنين لأوراق لم نعد نلمسها لمس اليد، وما عاد بمقدورنا أن ننتشي برائحة الورق العابقة بالحنين، تماما كأغاني فيروز (ولكن، لم رائحة الورق دوما حزينة؟).

لا أدري إن كان يسهل على إنسانة مثلي، لم تحسن طوال حياتها سوى جمع الكتب من كل الأنواع والأشكال والألوان، ومن ثم تكديسها وهندستها كأعمدة بناء جبارة في غرفتها، (المنهكة للنظر والمرور)، وعند زوايا طاولتها الأربعة، وفي كل ما تيسر من السنتيمترات الفارغة، أن تجد سبيلا إلى تحديد علاقتها بالكتب، أو لنقل بالورق، في كل درجاته وتدرجاته! نبدأ من ورق الصحيفة الأسمر والأكثر قابلية للتلف، صعودا إلى مراتب الكتب المتقنة، الحلوة الشكل والمضمون، وما تختزنه في طياتها من سحر الحروف، والفواصل، والكلمات، والمطالع، والمقاطع، والفصول، والنهايات، فتقرر، وهذا شأنها وحدها، إن كانت ستمنحها فرصة حياة إضافية لديها بعد القراءة: فإما أن تفسح لها مجالا بين كتبها الحميمة، وإما أن تقرر منحها هذه الفرصة خارج أسوارها، فتهديها إلى قارئ غيرها يتكفل عنها بالباقي.

ثمة كتبا أبقيها تحت نظري. أقرأ فيها على مر الأيام والأشهر والأعوام، (أعرف أنها ستمكث معي حتى آخر العمر، ك«خواتم» أنسي الحاج، ورسولته بشعرها الطويل حتى الينابيع، ودواوين محمود درويش كاملة - مع انحيازي الشخصي إلى «يوميات الحزن العادي» - وقصائد مختارة من محمد الماغوط، ونزار قباني، ووديع سعادة، وجورج شحادة، وراسم المدهون، وتريز عواد بصبوص، والراحل سركون بولص).

لدي كتب لم تبارح طاولتي منذ سنوات، أنقب فيها في أي وقت، وأختار، من بينها، ما أفتتح به نهاري أو أختتمه: قصيدة مثلا، أو مقطعا روائيا تركت تحته، غير مرة، خطا قديما بقلم الرصاص، أزوره باستمرار في غياب الجديد الممتع.

تجذبني على الدوام، الكتب والمجلات في كل أحوالها. ليس مهما إن كانت جديدة خارجة لتوها من المطبعة، أو قديمة مفككة منزوعة الصفحات، ينادى عليها بأبخس الأسعار «الثلاثة بألف ليرة لبنانية، (0.66 دولار)»، فوق بسطات الشوارع الشعبية.

شخصيا، لا أجد أروع من أن أتصفح كتبا عمرها من عمر الحبر، تضم سيرا لكبار الأدباء والمفكرين والفنانين من عصور غابرة، أشتريها و«أضمدها». ويحق لي أن أعتذر، أحيانا، من عظماء أحالهم الزمن إلى عناوين منسية على قارعة شارع بائس، تباع وتشترى (في زمن هو الأردأ) بألف ليرة لبنانية: جورجي زيدان، وأمين الريحاني، وجبران، والمتنبي، وابن خلدون، وشوبنهاور، وفرويد، والمتعجرفان سيمون دوبوفوار وحبيبها الفيلسوف جان بول سارتر. ويا لبؤس مصيريهما، لو يدريان أن ثمة بائعا بيروتيا، في شارع الحمرا، دلل عليهما، أمامي، قبل أيام، بألفي ليرة. ضحكت في سري: «قسمة حق: سارتر بألف وحبيبته بألف. رحمكما الله ورحمنا».

«أعرف كثيرين ممن يحلمون ببناء بيت فخم للسكن، أو آخر للعبادة، أو حتى مدرسة. أنا لطالما حلمت ببناء مدينة - مكتبة، لا يدخلها إلا من يستحقون عناء الورق وجهد المطابع ونبل الحروف). حلم طفولي! من بين الكتب، لطالما انحزت إلى الروايات والقصص الفرنسية العاطفية، تجنح بالعقل الطري والخيال نحو أوهام الأسفار والمغامرات التي لا شفاء منها. وفي سن مبكرة، تعلقت بألن فورنييه وبطله «مولن الكبير»، ثم بالكاتب الطيار، أنطوان دوسان إكزوبيري، وأميره الصغير. واستمرا إلى اليوم، بطلاي المفضلان اللذان، لم يكبرا أبدا.

ومن بين الناس، لطالما انحزت إلى الكتاب، والمؤلفين، من شعراء وروائيين وعلماء وفلاسفة. أليسوا هم الآباء الشرعيون للكتب؟

يكفي أن نتخيل عالما من دون كتب ومكتبات، لندرك كم أن هؤلاء هم روح العالم.

* صحافية لبنانية وكاتبة، صدر لها، أخيرا، عن دار الساقي، كتاب «أنا الموقع أدناه محمود درويش».