الأدب الإنجليزي غيَّر طريقتي في التفكير وأمَدَّني برؤية مضافة

عدنان حسين أحمد

TT

لا أزال أتذكر جيدا طعم النهار الربيعي الذي اقتنيت فيه «همس الجنون»، أول مجموعة قصصية لنجيب محفوظ استدللت عليها بذائقتي الفطرية التي لم تتدرب بعد، لكنني قبل أن أقدم على مغامرة شراء هذا الكتاب الذي كلفني مصروفي الجيبي لمدة نصف شهر في الأقل استشرت صاحب المكتبة عن أهمية كاتب مثل نجيب محفوظ فقال: «إنه قاص جيد ينقلك إلى خان الخليلي وزقاق المدق وبقية أحياء القاهرة». وفي أثناء قراءة تلك القصص على مدى يومين كاملين أحسست أن انقلابا قد حدث في تلافيف ذهني فثمة كلمات غريبة، وصور لغوية جميلة تنتظم في جمل أدبية لم آلفها في الكتب المدرسية، حتى إنني حفظت البعض منها وسربتها إلى الموضوعات الإنشائية التي أكتبها مع بعض التغييرات الطفيفة التي لم تمر على مدرس اللغة العربية الذي سألني غير مرة أن أقرأ ما كتبت على مسامع الطلبة الذين سقطوا في دائرة الحيرة والانبهار. وحين أرادوا معرفة الخلطة السحرية التي جعلتني أكتب بين عشية وضحاها مثل هذه المقطوعة الإنشائية التي لا يجاريها أحد من التلاميذ في مفتتح سبعينات القرن الماضي كشفت لهم السر، فاقتنوا في اليوم التالي كل المجموعات القصصية لنجيب محفوظ التي كانت موجودة في مكتبة «الحاج أبو كامل». كانت دهشتي كبيرة حين اكتشفت أن هذا الرجل المسن الطيب قد وضع لي جانبا مجموعتين أخريين لنجيب محفوظ وهما «بيت سيئ السمعة» و«خمارة القط الأسود» اللتين ستشكلان القاعدة القصصية الرصينة كي أكون قاصا وليس شاعرا أو كاتبا مسرحيا. فلقد تغلغلت القصة في وحدات دمي ولم يعد بإمكاني التخلص من هاجسها المستديم.

بعد سنة أو يزيد تعرضت لهزة ذهنية أخرى حين وجدت كتاب «ألف ليلة وليلة» بين يدي، هدية من الأسرة التي اجتمعت برمتها كي تقتني لي هذا الكتاب المهم الذي أعرته بعد إتمام قراءته إلى عدد محدود من الأصدقاء المقربين الذين قدموا لي ضمانات قوية تفيد بأنهم سيحافظون على الكتاب كما يحافظون على «لقية» ثمينة. لقد حرك هذا الكتاب مخيلتي وجعلني منذ ذلك الحين أعرف معنى الفانتازيا والمنحى العجائبي، الذي يأخذ القارئ في رحلة ساحرة أخاذة بين الحقيقة والوهم.

بعد أربع سنوات سوف ينبهني «محمد عبد موسى»، الزميل القادم من ضواحي بغداد على ضرورة الاطلاع على «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح الذي تلمست في روايته القصيرة شيئا أبعد من حدود الإبداع الروائي، وحين التقيته في مدينة لاهاي سألته عن سر هذه الرواية الملغزة فقال بما معناه إنه أعاد كتابتها سبع أو ربما ثماني مرات فعرفت أنه بذل فيها جهدا أسطوريا مهما دفعني لأن ألتهم رواياته القصيرة الأخرى «ضو البيت»، «دومة ود حامد» و«عرس الزين».

لم تنحسر قراءتي باللغة العربية على الرغم من التحاقي بقسم اللغة الإنجليزية فلقد فتح لي الأساتذة كوة حقيقية لأطل منها على الأدب الإنجليزي الذي غير طريقتي في التفكير، كما أمدني برؤية مضافة حفزتني على السفر لأنني اكتشفت أن الإقامة ببغداد عملية شاقة لا يحتملها أديب «شاب» يبحث عن الحرية الكاملة التي لا يزال يعتقد أنها أولى اشتراطات الإبداع.

أصدرت سبعة كتب خلال سنوات إقامتي في عمان و«زاندام» الهولندية ولندن، كما أنجزت عددا مماثلا من الكتب المخطوطة التي تنتظر النشر لأن عمليات القراءة والشحن المتواصلين تتطلب تفريغا لهذه الشحنات الكبيرة التي قد تنفجر إذا لم تجد طريقها إلى بياض الورق «سابقا» أو بياض شاشة الكومبيوتر في الوقت الراهن.

* قاص وناقد عراقي له: «جولة في مملكة السيدة هاء»، و«أقواس المتاهة»، و«كوابيس منتصف الليل»، و«أطياف التعبيرية»، و«أدب السجون»، و«الرواية العراقية المغتربة»، والفيلم الوثائقي العراقي «في المنافي الأوروبية».