حين يبيع المرء روحه للشيطان من أجل إشباع غروره

مسرحية «دكتور فاوستس» بترجمة جديدة لعبد الواحد لؤلؤة

غلاف «فاوست»
TT

صدرت عن «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت» مسرحية «دكتور فاوستس»، تأليف كريستوفر مارلو، وترجمة الدكتور عبد الواحد لؤلؤة، تضمّن فهرس الكتاب مقدمة بقلم المترجم، وأخرى بقلم المحرر، إضافة إلى النص المسرحي المترجم عن الصيغة «B»، أي طبعة 1616 التي حُذف منها 36 سطرا وأضيف إليها 676 سطرا، الأمر الذي جعلها أطول من الصيغة «A» بنحو الثلث تقريبا.

تجدر الإشارة إلى أن العنوان الأصلي لهذه المسرحية الإشكالية هو «التاريخ المأساوي لحياة وموت الدكتور فاوستس»، أما ثيمتها الجوهرية فتتمحور حول «رجل يدعى فاوستس يبيع نفسه للشيطان، مفيستوفيليس، مقابل الحصول على قدرة فائقة، ومعرفة عالية يستطيع من خلالها أن يفعل بها ما يعنّ له من الخوارق بواسطة الشياطين الذين يسخرهم له إبليس، شرط أن يعيش 24 عاما على الأرض يجترح فيها كبائر الأعمال، ثم يتخلى عن روحه لإبليس، ويقيم بعدها في الجحيم ملعونا إلى الأبد». وبغية تغليف الحدث بغلالة درامية فقد اشترط على فاوستس أن يكتب هذا التعهد بدمه ثم يذيله بتوقيعه الخاص.

ورب سائل يسأل: ما الذي يدفع شخصا مثل فاوستس لكي يبيع روحه للشيطان؟ وللإجابة على هذا السؤال المنطقي لا بد لنا من تسليط الضوء على شخصية فاوستس ومراحل تطورها الدرامية إلى ذروة الغطرسة والتكبر والغرور، آخذين بنظر الاعتبار أن الغرور هو أحد الخطايا السبع المميتة، بحسب تصنيف الكنيسة الكاثوليكية. من هنا يتوجب علينا أولا أن نشير إلى أن فاوستس قد تعامل مع الخطيئة البشرية الفاحشة في حق الكتاب المقدس، لكنه وضعنا في مواجهة الإنسان القلق، الشكاك الذي يتأرجح بين فكرتي الإلحاد والإيمان. إن المعطيات الدرامية لشخصية فاوستس كثيرة بمكان ولا يمكن الإحاطة بها جميعا، لكننا سنحاول التركيز على أبرز هذه المعطيات التي تحيلنا بالتأكيد إلى جوانب متعددة من شخصية كريستوفر مارلو المثيرة للجدل التي تركت تأثيرها الواضح على أقرانه ومجايليه وعلى رأسهم الشاعر والكاتب المسرحي وليم شكسبير.

كان فاوستس طالبا مبرّزا في دراسته في جامعة فيتنبرغ الشهيرة في ألمانيا وقد حصل على لقب دكتور بسبب تفوقه في علم اللاهوت والفلسفة، غير أن هذه الدرجة العلمية لم ترضِ غروره، ولم تشبع رغبته في معرفة المزيد، لأنه ببساطة شديدة شخصية متخطية لنفسها ومتجاوزة للآخرين، لكنه يشبه إيكاروس الذي حلق عاليا، وحينما تخطى حدوده سقط سقوطا دراميا مفجعا بعد أن أذابت حرارة الشمس جناحيه المثبتين بالشمع. لم يقتنع فاوستس بالأشواط التي قطعتها علوم عصره من منطق ولاهوت وفلسفة وطب وقانون ومعارف علمية وإنسانية أخرى، إذ كان يجد نقصا مروعا، وتقصيرا لا حدود له في كل علم من العلوم آنفة الذكر، فلا غرابة أن يتجه إلى السحر الأسود، وعلم استحضار الأرواح، وكل ما يبزّ الطاقة البشرية المحدودة. وانطلاقا من هذه الانعطافة الخطيرة في حياته يمكن أن نسجل بداية تمرده على الإرادة الإلهية، وتخطيه لمجال الشيطان الذي سوف يقوده إلى الهلاك.

يؤكد النقاد المسرحيون البريطانيون أن موضوعات المسرح الإليزابيثي لم تكن تخرج عن إطار الحروب، وقصص الحب التي تدور في أروقة البلاطات الملكية، وأبطالها غالبا ملوك وأمراء وقديسون. أما في «دكتور فاوستس» فنحن أمام شخصية من عامة الناس ولدت لأبوين من طبقة اجتماعية متواضعة، الأمر الذي يحيلنا إلى الأصل المتواضع لمارلو نفسه، فقد كان والده إسكافيا غير أن تلك المهنة لم تقف عائقا أمام ذكاء الابن وقدراته الفكرية المتأججة التي أهلته للحصول على منحة دراسية إلى جامعة كمبردج التي فجرت في أعماقه نزوعا شديدا صوب المعارف والعلوم الإنسانية، من هنا يمكننا القول إن شخصية إشكالية مثقفة من هذا النوع هي أرقى بكثير لما تنطوي عليه من معطيات عويصة معقدة لا يجاريها خاصة الناس، حتى وإن كانوا من أصحاب الصولجانات، والبلاطات الباذخة، والأروقة المذهبة التي تتجول فيها سيدات المجتمع المترف.

يجب أن نضع في الحسبان أن فاوستس هو شخصية متخطية للحدود التي وضعها الله للبشر، لأن التعاقد مع الشيطان هو أخطر أنواع التحدي، ليس لإرادة الدولة أو الكنيسة التي كانت قوية ومهيمنة آنذاك، وإنما لإرادة الله الذي سيقوده إلى الهلاك حتما مثلما قاد تخطي مارلو وتعاليه على المألوف من علوم الجامعة والشؤون الدينية إلى الكفر والتجديف والموت بطعنة من خنجره هو، لا خنجر خصمه إنغرام فريزر، الأمر الذي عده البيوريتان في عصره «جبرية القدر الإلهي المحتوم على الكافر».

تبدو شخصية فاوستس مترددة، فحينما يحذره ملاك الخير من مغبة انغماسه في أعمال السحر الأسود، يشجعه ملاك الشر، فيقول فاوستس في حيرة واضحة: «كيف اتخمت بهذه الفكرة؟» وهذه المناجاة تذكرنا بالمناجاة الأولى التي يشرك بها الجمهور في تساؤله المؤلم الذي يتمحور حول فكرة جوهرية مفادها: «أين يقف الإنسان بين الخير والشر؟»، هل أن أعماله هي التي تقرر ذلك «الاختيار الحر»؟ أم أن مصيره مقدر بقوة خارجية «جبرية القدر»؟، بكلمات أخرى، هل الإنسان مخير أم مسير؟ هذا التساؤل المحير الذي لا يزال يشغل بال أتباع الديانات السماوية كلها ولا يقتصر على دين محدد بذاته. وهذه إشارة كونية أخرى تخرج المسرحية من مناخها المحلي لتنفتح على آفاق عالمية متعددة انطلاقا من الفكرة الكالفينية التي تجزم بأن «قدر الإنسان مرسوم قبل ولادته».

يؤكد لؤلؤة في مقدمته الثرية التي أوضح فيها غالبية المواقف الصعبة الملتبسة، أن الجو الفلسفي الذي كان شائعا في كمبردج هو الذي أثار النقاش اللاهوتي الملتهب الذي ساهم في «ضبابية الرؤية حول المسرحية ومؤلفها وهي رؤية لا تزال ضبابية.. قائمة في بلد الضباب».

تتوزع المسرحية على خمسة فصول آخرها هو الأقصر، وفيها جوقة أو كورس يتكون من شخص واحد يحذر مما سيقع في المسرحية أو يعلق على ما حدث. تحتل المناجاة التي أشرنا إليها توا أهمية خاصة في مسرحية «دكتور فاوستس»، وخصوصا في مناجاة الافتتاح والاختتام، فالمناجاة، كما يرى لؤلؤة، تحمل الجمهور على المشاركة الخيالية في الأحداث التي تقع على خشبة المسرح؛ أي بمعنى أن تجعل من الجمهور متلقيا إيجابيا فاعلا، لا مُستقبلا سلبيا مسترخيا في مقاعده، ففي المناجاة الأولى يعقد اتفاقا مع الشيطان، ويتنازل فيه عن روحه، بينما تأخذنا المناجاة الثانية إلى التأمل الذي يفضي إلى التفاهم مع القدر الذي اختطه لحياته منطلقا من تكبره وغروره وتجاوزه لكل الخطوط المرسومة للبشر سلفا.

تناقش المسرحية كما أسلفنا موضوعات في غاية الخطورة من بينها «أن الضلالة ليست من فعل الشيطان وحده، بل هي من فعل الإنسان أيضا». فكما يذهب لؤلؤة إلى أن كل إنسان يجدف أو ينكر معموديته، يهرع إليه الشيطان ليستحوذ على روحه، وهذه إشارة أخرى إلى أن أفعال المرء هي التي تقوده إلى الصلاح أو الهلاك. وحينما يسأل فاوستس مفيستوفيليس عن الجحيم يجيبه هذا الأخير بأن «الجحيم لا حدود واقعية له لأنه حالة ذهنية محض». ترى، لماذا لم يدرك فاوستس، وهو على هذا القدر الكبير من الذكاء تهرب مفيستوفيليس من الإجابة على هذا السؤال؟ ولماذا لم يفهم دواعي المواربة في إجابته المموهة؟ أنلمس في هذه الإجابة المحيرة أن بعض الضلالة مقدر على البشر من جهة عليا، أم أنها إيحاء ببعض القبول بالجبرية والقدر المحتوم؟

توقف لؤلؤة في مقدمته القيمة عند خمسة موضوعات تناقشها المسرحية وهي: خطيئة الطمع، والبحث الدؤوب عن المعرفة، والموت والشيطانية، والسحر، واستحضار الأرواح، والتأرجح بين الخير والشر. وعلى الرغم من أهمية الموضوعات جميعها، فإن الموضوع الأبرز فيها هو السحر، ذلك لأن فاوستس فضل السحر على بقية العلوم الموجودة في عصره.

ينبه لؤلؤة إلى أن المسرحية تقوم في بنيتها على الشعر المرسل من الوزن الأيامبي الخماسي التفعيلات في الغالب الذي يخلو من القافية، لكن ذلك لم يمنعه من استعمال النثر في المشاهد الكوميدية، وألفاظ العامة، ولغة السوقة واللصوص. وهناك نحو 13 مشهدا مكتوبا بلغة منثورة تستجيب للكلام العامي الذي لا يخلو من الابتذال والسب والشتم والتجديف.

يستنتج لؤلؤة من خلال ترجمته لهذه المسرحية أن مالرو لم يمانع من إدخال مشاهد كوميدية أخرى إلى مسرحيته ولا يستبعد أن يكون قد أشرف عليها بنفسه أو أضيفت بموافقته على الأقل.

ثمة أوجه شبه كثيرة بين مسرحيات مالرو وشكسبير من بينها التركيز على الضمير الإنساني، والمونولوغات الداخلية في المناجيات، والشخصيات التي تحلم بالقوة والسيطرة اللامحدودة وما إلى ذلك. فمسرحية «يهودي مالطا» تذكرنا بمسرحية «تاجر البندقية»، وبالمقابل هناك فروقات بين الاثنين، أولها: أن مالرو نزل إلى الشارع، واستوحى من عوالمه أشياء كثيرة، بينما اقتصرت مسرحيات شكسبير على البلاط الملكي، وقصص الحب التي تدور في الأروقة الملكية، والأساطير اليونانية القديمة. خلاصة القول إن مارلو هو الأب الشرعي للمسرح التراجيدي، وهو مبتكر الشعر المرسل من دون منازع، ويعد الأب والمرشد الروحي لشكسبير.