تركيا من أتاتورك الى أردوغان(الحلقة السادسة) ـ الرجل الذي يحبه أتراك... ويخافه أتراك

حركة فتح الله كولن العمود الفقري للاسلام الاجتماعي في تركيا.. لكن البعض متوجس من تأثيرها

كولن الأب الروحي للإسلام الاجتماعي في تركيا («الشرق الأوسط»)
TT

على عكس نجم الدين اربكان الذي يعد أبو الإسلام السياسي في تركيا، فإن فتح الله كولن هو أبو الاسلام الاجتماعي. فهو مؤسس وزعيم "حركة كولن"، وهى حركة دينية تمتلك مئات المدارس في تركيا، ومئات المدارس الدينية خارج تركيا، بدءا من جمهوريات أسيا الوسطى، وروسيا وحتى المغرب وكينيا واوغندا، مرورا بالبلقان والقوقاز. كما تملك الحركة صحفها ومجلاتها وتلفزيوناتها الخاصة، وشركات خاصة وأعمال تجارية ومؤسسات خيرية. ولا يقتصر نشاط الحركة على ذلك بل يمتد الى إقامة مراكز ثقافية خاصة بها في عدد كبير من دول العالم، وإقامة مؤتمرات سنوية في بريطانيا والاتحاد الاوروبي واميركا، بالتعاون مع كبريات الجامعات العالمية من اجل دراسة الحركة وتأثيرها وجذورها الثقافية والاجتماعية.

ما تتميز به «حركة كولن» عن باقي الحركات الإسلامية في المنطقة والعالم هو أنها غالبا تلقى ترحيبا كبيرا من الغرب. اذ تعتبر هي "النموذج" الذي ينبغي ان يحتذى به بسبب "انفتاحها" على العالم، وخطابها الفكري. فمثلا اذا كان اربكان يرى اميركا عدوا للعالم الاسلامي بسبب تحكم "الصهيونية العالمية" في صنع القرار فيها، فإن كولن يرى ان اميركا والغرب عموما قوى عالمية لابد من التعاون معها. واذا كان اربكان يرى ضرورة الوحدة بين العالم الاسلامي، وهي الافكار التي بلورها عمليا في تأسيسه مجموعة الثماني الاسلامية، فإن كولن لا ينظر إلى العالم العربي وإيران بوصفهما المجال الحيوي لتركيا، بل يعتبر القوقاز وجمهوريات اسيا الوسطى والبلقان هم المجال الحيوي لتركيا، فهذه البلدان تضم اقليات تركية هامة، وهو يرى انه إذا كان لتركيا يوما ما ان تعود لمكانتها بوصفها واحدة من أهم دول العالم، كما كانت خلال الدولة العثمانية، فلابد من نفوذ قوي لها وسط الاتراك في كل مكان في العالم. لكن كولن من البراغماتية والذكاء بحيث لا يستخدم تعبير "القيادة التركية" في المنطقة، كما لا يدعو الى استقلال الاقليات التركية في وسط اسيا، ولا تمارس جماعته انشطة تعليمية في البلاد التى يمكن ان تتعرض فيها الاقلية التركية لمشاكل من قبل النظم الحاكمة مثل الصين وروسيا واليونان.

وأول ما يلفت النظر في كولن هو أنه لا يفضل تطبيق الشريعة في تركيا، ويقول في هذا الصدد ان الغالبية العظمى من قواعد الشريعة تتعلق بالحياة الخاصة للناس، فيما الاقلية منها تتعلق بإدارة الدولة وشؤونها، وانه لا داعي لتطبيق احكام الشريعة في الشأن العام. ووفقا لهذا يعتقد كولن ان الديمقراطية هي افضل حل، ولهذا يكن عداء للانظمة الشمولية في العالم الاسلامي. ومع ان اربكان ينظر اليه بوصفه استاذ رئيس الوزراء التركي رجب طيب اروغان، الا ان تجربة حزب العدالة والتنمية في الحكم تشير الى ان كولن هو أستاذ اردوغان الحقيقي.

عندما تتحدث مع الأتراك سواء علمانيين او اسلاميين غالبا ما سيأتي ذكر "حركة كولن". فجوتشكه غل وهى شابة تركية كانت تشتكي من صعوبات الحصول على عمل جيد بعد التخرج من الجامعة قالت لـ"الشرق الاوسط": "اذا كان لك صلة بحركة كولن او عملت معها او تطوعت في احد انشطتها.. تتفتح لك الطرق في تركيا، وتحصل على أفضل الوظائف". شريف ماردين المفكر والاكاديمي التركي قال لـ"الشرق الأوسط": أنه غير قادر على التنبؤ بما تريده الحركة فعلا، موضحا ان الزمن وحده يحمل الجواب. وبرغم تعدد انشطتها وعملها في الشأن العام، ما زالت الحركة غامضة في نظر البعض، وتثير الكثير من الألتباس بين الأتراك وغيرهم، خصوصا فيما يتعلق بنواياها بعيدة المدى. أزدهرت حركة فتح الله كولن في إطار انتعاش الحركات والطرق الدينية في تركيا في الثمانينيات من القرن الماضي. فبعد الانقلاب العسكري بقيادة كنعان افرين عام 1980، والقرارت التي اتخذتها الحكومة العسكرية والمتعلقة بتحرير الاقتصاد وخصخصة الاعلام واتاحة حرية عمل اكبر، للمنظمات المدنية بما في ذلك الجماعات الدينية، بدأت الطرق الدينية في الإزدهار ومنها "طريقة النور" التي أسسها الصوفي التركي سعيد النورسي (1873- 1960) والتي خرجت منها وتأثرت بها لاحقا حركة كولن. وجوهر فلسفتها ايجاد مجتمع اسلامي ملتزم، لكن في الوقت نفسه متلهف للمعرفة والتكنولوجيا الحديثة والتقدم لإنهاء تقدم العالم الغربي على العالم الاسلامي. واليوم يقترن اسم فتح الله كولن بمصطلح الاسلام التركي المتنور او المعتدل، اذ حاول فتح الله كولن مع مؤيديه تأسيس حركة دينية سياسية اجتماعية حديثة تمزج الحداثة، بالتدين بالقومية بالتسامح بالديمقراطية. ووضع الاسلام والقومية والليبرالية في بوتقة واحدة. وكتبت الكثير من الدوريات الغربية عن كولن تصوره كزعيم حركة اجتماعية اسلامية قومية غير معاد للغرب، ووجه المستقبل للاسلام الإجتماعي في الشرق الاوسط، لكن معارضيه يقولون عنه انه الخطر الحقيقي على العلمانية التركية، ويتهمونه بمحاولة تقويض العلمانية التركية عبر اسلمة الممارسات الاجتماعية للاتراك. وتقول ميروى بيتيك جوربوز من حزب الشعب الجمهوري العلماني في تركيا ان حركة كولن تستغل امتداداتها في المجتمع من اجل تحقيق أهداف سياسية في المستقبل، موضحة أن مريدي الحركة مثل الكثير من مريدي الطرق الدينية في تركيا يصوتون بشكل جماعي غالبا لصالح الحزب الذي يتفقون عليه، بل ان النساء من مريدات الحركة يرتدين الحجاب بطريقة مختلقة عن المحجبات العاديات:"اذا ذهب شخص الى مناطق معينة في تركيا، سيجد محجبات يرتدين الحجاب الذي ينتهي على شكل نصف هلال من الامام والخلف، فيما اخريات يلبسن حجابا ينتهي بمثلث من الامام والخلف. هذه الحركات لها أهداف اكثر من مجرد الاهداف التعليمية والتثقيفية او هذا ما أعتقده الى ان يثبت العكس"، قالت ميروى بيتيك جوربوز لـ"الشرق الأوسط". لكن قاسم مصطفى قاسم وهو شاب تركي ناشط في حركة كولن، يدرس في جامعة برمنجهام البريطانية ينفي هذا ويوضح لـ"الشرق الأوسط": "من المستحيل ان تكون لدينا أهداف سياسية، أو اجندة خفية كما يدعي البعض دون اى دليل. اهدافنا تعليمية تربوية محضة. في تركيا حوكم فتح الله كولن مرات بتهمة وجود اجندة خفية لاسلمة المجتمع التركي، لكن حكم عليه بالبراءة في كل مرة لان هذه محض ادعاءات". امتداد "حركة كولن" حول العالم كبير وشبكة علاقاتها هائلة. فهي تمتلك نحو 300 مدرسة داخل تركيا، و200 مدرسة اخرى حول العالم، من تنزانيا الى الصين، ومن تركمنستان الى المغرب ومصر والفلبين. لكن اغلب هذه المدارس يقع في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق التي يشكل فيها العرق التركي اغلبية. اما النموذج الفلسفي والفكري الذي يقدمه كولن عبر مدارسه فهو يتركب من عدة عناصر:" الميراث العثماني، والميراث العلماني، واقتصاد السوق، والديمقراطية". ويقول المحلل التركي ساهين الباى:"الملاحظ هو ان خريجي هذه المدارس (مدارس كولن)، يتخرجون ليشغلوا مناصب عالية في مجالات الحياة التي يتخصصون فيها في جمهوريات اسيا الوسطى..من البلقان حتى الصين، يريد كولن ان ترى النخب في هذه البلدان تركيا نموذجا لها".

اما مئات المدارس التي تتبع حركة كولن داخل تركيا، فتخضع للاشراف من قبل السلطات التركية، وهي وان كانت تتشابه مع باقي المدارس التركية في المناهج، وفي فترات الدوام، الا انها تركز اكثر على الاخلاقيات العامة، والدين، وأساتذتها من خريجي أفضل الجامعات التركية. ولا تجد هذه المدارس مشكلة في التمويل، فرجال الاعمال الاتراك والمهتمون يقومون بتمويلها، وهي تتمتع بسمعة تعليمية ممتازة، وتضم طلبة مسلمين وغير مسلمين، ولغة التعليم الاولى فيها هي الانجليزية، وهي تجتذب ابناء النخبة وكبار المسؤولين. لكن كولن يشدد دائما على انه لا يمتلك هذه المدارس "تعبت من القول انني لا امتلك أي مدارس"، في اشارة الى انها جزء من نشاطات حركته وليست مملوكة بشكل شخصي له. وهدف حركة فتح الله كولن من فتح مدارس في اسيا الوسطى هو نشر الثقافة التركية وقيم الإسلام. ويقول مصطفى قاسم في هذا الصدد لـ"الشرق الأوسط":"نعم لدينا مدارس في وسط اسيا وروسيا والبلقان والقوقاز وشمال المغرب ولدينا مراكز ثقافية في الكثير من دول العالم، منها اسيا واوروبا والاردن ومصر والسعودية، ولا تسمى هذه المراكز الثقافية بمراكز كولن، بل تسمى بأسماء محلية او شخصيات اسلامية بارزة. لكن اهدافنا واضحة وهي تعليم قيم الاسلام والثقافة التركية. لكن لا شئ اجباريا. ففي مدارسنا يتعلم الطلاب بثلاث لغات. اللغة الانجليزية ولغة البلد الموجودة فيه المدرسة، ولغة ثالثة اختيارية، واللغة التركية من بين اللغات الاختيارية". ويشير مصطفى قاسم الى ان مدارس حركة كولن تأخذ مصروفات دراسية، وتعطي منحا فقط للطلبة المتفوقين.

وبسبب الاهتمام الذي يوليه كولن للقومية التركية حول العالم، اسس مع 16 اخرين، بنكا استثماريا هو "اسيا فاينناس" وهو بنك لا يهدف للربح، والمقترض لا يدفع نسبة فائدة، وهدف هذا البنك، الذي يبلغ رأس ماله 125 مليون دولار، تشجيع الاستثمارات الاجنبية لجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق. ولكن ولان السلطات في جمهوريات اسيا الوسطى الاسلامية لا تتسامح ازاء أي تنظيمات او حركات تستغل الاسلام لدواع سياسية، تعمل مدارس ومنظمات كولن بالكثير من الحذر وتراعي عدم اثارة الحساسيات الدينية او السياسية. ويقول مصطفى قاسم:"تعم احيانا تكون لدينا خلافات مع السلطات المحلية في هذا البلد او ذاك. لكننا نعمل في اطار القوانين المحلية لكل بلد، ونحترم هذا". وبالرغم من اصرار الحركة على ان هدف انشطتها مدني تربوي محض، الا ان سينان تافشان، وهو صحافي تركي يعمل مراسلا لصحيفة "نيكاى" اليابانية قال لـ"الشرق الاوسط" ان السبب الحقيقي وراء خروج كولن من تركيا وأستقراره في اميركا هو شريط فيديو له تحدث فيه لانصاره عن التحرك ببطء لتغيير طبيعة النظام التركي. ويقول سنان ان شريط الفيديو الذي وضع على موقع "يوتيوب" اثار في تركيا جدلا كبيرا وشدد الخناق على تحركات كولن.

وليس هناك سبب علني رسمي لأسباب مغادرة كولن تركيا الى اميركا. لكن متاعب كولن مع السلطات التركية بدأت في 18 يونيو(حزيران) عام 1999 عندما تحدث في التلفزيون التركي، وقال كلاما أعتبره البعض انتقادا ضمنيا لمؤسسات الدولة التركية. وبعد ذلك بدأ المدعي العام للدولة تحقيقا في تصريحات كولن، وساعتها تدخل رئيس الوزراء التركي انذاك بولنت اجاويد ودعا الدولة الى معالجة الامر بهدوء، بدلا من فتح الموضوع للنقاش على المحطات التلفزيونية التركية، كما دافع عن كولن وعن مؤسساته التعليمية وقال: "مدارسه تنشر الثقافة التركية حول العالم، وتعرف تركيا بالعالم. مدارسه تخضع لإشراف متواصل من السلطات". بعد ذلك اعتذر كولن علانية عن تصريحاته، الا ان بعض العلمانيين ظلوا متشككين في أهدافه، ولاحقا وجهت له اتهامات بمحاولة تحقيق مكاسب سياسية على حساب مؤسسات الدولة بما في ذلك الجيش. وبعد أسبوع من بث البرنامج ارسل الرئيس التركي سليمان ديميريل تحذيرا الى كولن قال له فيه :"اعتقد ان رجل الدين لا ينبغي ان تكون له اطماع سياسية. ان تكون رجل دين هذا بحد ذاته شئ صعب، لكن ان تكون رجل دين محترما يلزم ان تسير حسب تعاليم ديننا.. هذا يمكن ان يحدث بإعطاء نصيحة جيدة للانسانية وليس بالانخراط في الشؤون الدنيوية". بعد تلك الأزمة حدثت ازمة لقطة الفيديو الشهيرة التي بثت على "اليوتيوب" وظهر فيها كولن وهو يقول لعدد من أنصاره أنه سيتحرك ببطء من اجل تغيير طبيعة النظام التركي من نظام علماني الى نظام اسلامي، كما تحدث عن نشر الثقافة التركية في أوزبكستان، مما اثار موجه غضب في الجيش التركي وباقي المؤسسات العلمانية في البلاد. كما أدى الى أزمة دبلوماسية بين تركيا وأوزبكستان دفعت بولنت اجاديد للتدخل مجددا في محاولة لحلها. وقال اجاويد:"الرئيس الاوزبكستاني لديه مخاوف غير مبررة تتعلق بتركيا. تركيا لا تتدخل في الشؤون الداخلية لاوزبكستان. لا يمكن ان نسمح بالاساءة الى العلاقات بين البلدين بسبب مخاوف غير ضرورية". لكن اوزبكستان قررت اغلاق عدد من المدارس التابعة لكولن. ويبدو انه خلال هذا الوقت كانت المؤسسة العلمانية في تركيا بدأت هى ايضا تستشعر قلقا متزايدا من كولن ومؤسساته التعليمية، فأصدرت هيئة التعليم العالي في تركيا قرارا يقضي بعدم الاعتراف بالشهادات العلمية التي تعطيها مدارس كولن، لكن هذا القرار كان مؤقتا.

وأعتذر كولن عن الحديث لـ"الشرق الأوسط" حول نشاطات حركته اليوم، موضحا انه بسبب تلقيه العلاج في اميركا، والاوضاع في تركيا لا يريد ان تصدر منه تصريحات يمكن ان يساء فهمها. واليوم يتمتع كولن بعلاقات ممتازة مع الكثير من السياسيين الأتراك، فمنذ عام 1994 التقى رؤساء اتراك ورؤساء وزراء اتراك، وكل قادة الاحزاب السياسية، ورجال اعمال نافذين. كما اجرت معه الصحف التركية الكبيرة لقاءات عدة مطولة. وفي عام 1997، قبل الرئيس التركي سيلمان ديميريل جائزة من "مؤسسة فتح الله كولن التعليمية"، كما التقى كولن مع بولنت اجاويد، رئيس وزراء تركيا الراحل. ولا يمانع كولن في ان يلتقي أي رجل دين، فقد التقي رجال دين يهودا من اسرائيل، كما التقي رئيس الكنيسة الارثوذكسية وبابا الفاتيكان في روما، لكن هذا لم يرض بعض رجال الدين في تركيا، اذ قال بعضهم أن كولن يعطي لنفسه مكانة اكبر من مكانة الدولة، فيما راى اخرون ان كولن يريد ان يكون المتحدث باسم الاسلام في تركيا. لكولن ايضا صلات مع صحف ومجلات وقنوات تلفزيونية ورجال اعمال. وبالتالي وعلى الرغم من وجوده في اميركا، الا ان قوة حركته لم تتأثر بالسلب. ويقول مصطفى قاسم لـ"الشرق الأوسط":"لدينا قناة تلفزيونية أساسية وهي (اس تى في) و4 تلفزيونات اخرى، تلفزيون اخباري على غرار الـ سي ان ان، اى يقدم الاخبار على مدار الساعة. وتلفزيون خاص بالاطفال، وآخر ثقافي، اما الرابع فهو عام. ايضا لدينا تلفزيون خاص ناطق بالانجليزية في اميركا، كذلك ننتج برامجنا الخاصة، وتقوم الكثير من المحطات المحلية التركية بشرائها. لدينا صحف مثل صحيفة "زمان" اليومية الواسعة الانتشار، ومجلات". لكن ملكية صحيفة "زمان" لحركة كولن ليست مباشرة، كما استطرد مصطفي قاسم، موضحا أن الصحيفة "مملوكة لاصدقاء وأشخاص يمكن الثقة بهم". هذا بالضبط هو سبب قلق الكثير من الأتراك وبينهم اويا اكجونينش أحدى القيادات البارزة في "حزب السعادة" الاسلامي التي قالت لـ"الشرق الأوسط":"لا احد يعرف على وجه الدقة علاقات حركة كولن داخل تركيا. هناك الكثير من وسائل الاعلام ورجال الاعمال يعملون معها او انصار لها، او متعاطفون معها. لكن هذا ليس شيئا واضحا. وهذه مشكلة". كذلك لا يعرف احد على وجه الدقة عدد انصار او اتباع فتح الله كولن المعروفين باسم "اتباع فتح الله"، وهو اسم يعارضه كولن تماما، لكن التقديرات لعدد المتأثرين بافكاره تتراوح بين 200 الف الى 4 ملايين شخص. وربما أحد أسباب انتشار مريدي كولن حول العالم هو انه يؤمن بأهمية التواصل والاعلام والحوار المباشر والشخصي وفتح النوافذ. فموقعه على الانترنت بـ12 لغة من بينها الانجليزي والاذاري والفرنسي والبولندي والاسباني والتركي والعربي. كما انه خطيب مفوه، اعتاد على إلقاء خطب دينية منذ كان في الرابعة عشر من عمره. فهو عندما حفظ القرآن، وبسبب مغادرة عائلته القرية، اضطر الى ترك المدرسة، وركز على التعليم الديني في منزله. وعندما بلغ 14 عاما اعطى اول درس ديني له، وعندما بلغ 18 عاما كان يلف القرى التركية ويعطي دروسا دينية في المساجد والمقاهي. وقد ركز كولن منذ البداية على طلبة المدارس الثانوية والجامعية، فكانوا هم جمهوره، والكثير منهم عمل في حركته بعد التخرج، ومن لم يعمل بشكل مباشر معه، ساهم في الترويج لافكاره. وكانت موضوعات المواعظ الدينية التي يعطيها كولن مختلفة عن نوع المواعظ الدينية التي يعطيها غيره من رجال الدين الاتراك، فقد كان يتحدث حول نظرية النشوء والارتقاء، وحول اساليب التعليم الحديثة، والعلوم، والاقتصاد والعدالة الاجتماعية. وكان يلقي دروسه الدينية بكثير من العاطفة والحماسة والبلاغة، ولا يمانع ان تنزل دموعه خلال الدرس، مما جعل شعبيته تتجاوز الحدود، لدرجة ان درسه الديني كان يصور بالفيديو او بالتلفونات المحمولة، ويتناقله انصاره ومؤيدوه فيما بينهم. وساعدت الافلام المصورة لدروس كولن الدينية في مساندة حركته ماليا بسبب التبرعات التي كانت تأتي اليه. وخلال دروسه الدينية كان تلاميذه يطلقون عليه لقب "خوجا افندي" او "الاستاذ المحترم"، اذ يجمع كولن بين المعرفة الدينية الكلاسيكية وبين الالمام بالفلسفة الغربية، خصوصا الفيلسوف الالماني امانويل كانط. وهو متحدث لبق وكاتب جيد جدا، وبعض كتبه كانت من أكثر الكتب مبيعا في تركيا. كاتب العمود التركي البارز نوري اكمان يوصفه كالتالي:"هو رجل كلاسيكي الطراز، مثل هؤلاء الشخصيات التي قرأنا عنها في الكتب، وشاهدناها في الافلام، عندما يتحدث يردد دائما "استغفر الله" في كل عبارة ينطق بها، يتحدث بأدب جم، وهدوء. وهو متواضع جدا. وصوته يتدفق بنبرة واحدة، يعلم ما سيقوله، ولا يخطئ في قواعد النحو، ويستخدم كلمات عثمانلية". لكن هذه الشعبية كلفته في عقد السبعينات من القرن الماضي 3 سنوات في السجن بتهمة الترويج لنشاطات تهدد أسس الدولة العلمانية. وهي تهمة وجهت بعد ذلك كثيرا الى كولن، لكن رده عليها كان دائما أنه هو ايضا علماني مسلم، وما يريده ليس دولة اسلامية ولكن "تركنة الاسلام" أي صبغ الاسلام في تركيا بالصبغة والنكهة التركية. و"اسلمة الايدلوجية القومية التركية"، بطريقة اخري، كل ما يطمع اليه كولن هو استعادة العلاقة بين الدولة والدين في تركيا كما كان عليه الحال خلال الدولة العثمانية، عندما كانت شؤون الدولة وفقا للقوانين الوضعية، لكن الناس في نفس الوقت لديها حرية التعبير عن ميولها وممارساتها الدينية بدون أي تضييق. ويعتقد كولن ان هناك خصوصية للاسلام التركي، او كما يسميه "الاسلام الاناضولي"، يفصل بين اسلام تركيا واسلام العرب وغيرهم من المسلمين. وهو يعتقد ان اسلام الاتراك هو مزيج بين الاسلام وبين القومية التركية، وان الاصل فيه ليس بالاساس ممارسة شعائر الدين، بل التصرف في الحياة اليومية وفقا للقيم والمبادئ التي قدمها الاسلام للبشرية. ولا يحمل كولن توجهات معارضة للعلمانيين وغير المؤمنين في تركيا، ويرى ان الحفاظ على هذا يحفظ لتركيا ارثها العثماني الذي تميز بالتنوع العرقي والديني واللغوي. وليست آراء كولن حول النساء أقل اثارة للجدل، فهو يعتقد ان حجاب النساء "مجرد تفصيلة صغيرة" في التاريخ الاسلامي، وانه لا ينبغي على احد ان يقيس مقدار تقدم النساء بالملابس التي يلبسنها. اما في افكاره التعليمية، فيرى ان التعليم الذي يجب ان تنتهجه الدول الاسلامية هو التعليم الذي يساعد على الاندماج في العالم المعاصر، وتعلم التكنولوجيا والعلوم الحديثة، ولهذا يؤيد كولن ضرورة وجود قوي للمسلمين في النظام الاقتصادي والسياسي العالمي، كما انه من أكبر المتحمسين لانضمام تركيا للاتحاد الاوروبي، ومن المعارضين المستميتين لتسييس الاسلام، فهو يرفض تماما مزج الدين مع شؤون الدولة حفاظا على الطرفين. لكن معارضيه من العلمانيين لا يعتقدون انه حقيقة بعيد عن السياسة، بل يشيرون الى انه خلال السنوات الخمس الماضية ظهر نفوذ حركته السياسي من خلال دعم حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الاسلامية في الانتخابات. لكن مصطفي قاسم يقول لـ"الشرق الأوسط": نحن لا نؤيد كتنظيم أي حزب سياسي بعينه. أفرادنا يصوتون لأي حزب او شخص يريدونه، لكن صحيح ان الاغلبية منا صوتوا لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة".

* الواعظ المتجول

* تعلم فتح الله كولن القرآن كله في شهر واحد وكان في الرابعة من عمره. وهو ما زال يتذكر عندما كان طفلا صغيرا، كيف أن والدته خلال نومه في الليل كانت تأتي اليه وتوقظه لتعلمه القرآن الكريم. ويبدو انه اعتاد على هذا النوم القليل وعلى الوعظ منذ كان في سن صغيرة في القرى المختلفة بين الأتراك العاديين، حتى بات يعرف بالواعظ المتجول. ولد فتح الله كولن في 27 ابريل (نيسان) 1941، في قرية «كوروجك» الصغيرة التابعة لقضاء «حسن قلعة» ‏المرتبطة بمحافظة أرضروم، ونشأ في عائلة متدينة، وكان والده رامز أفندي معروف بميوله العلمية والدينية. وكانت والدته رفيعة هانم واسعة المعرفة الدينية. أنشأ كولن في بيت والده مركزا لتجمع العلماء والمتصوفين المعروفين في تلك المنطقة. قام والده بتعليمه اللغتين العربية والفارسية الى جانب التركية. غير أنه درس في المدرسة الدينية في طفولته وصباه، وكان يتردد على «التكية» (الكتاب) أيضاً، حيث تلقى العلم على أيدي علماء معروفين من أبرزهم عثمان بكتاش الذي كان من أبرز ‏فقهاء عهده. وبالرغم من أن كولن درس النحو والبلاغة والفقه وأصول الفقه والعقائد، إلا أنه لم يهمل دراسة ‏الفلسفة والمنطق والعلوم الوضعية. وفي أثناء أعوام دراسته تعرف كولن على كتاب «رسائل النور» وتأثر به كثيراً، فقد كانت حركة تجديدية وإحيائية ‏شاملة بدأها وقادها العلامة بديع الزمان سعيد النورسي مؤلف «رسائل النور»، الذي أثرت أفكاره في حركة فتح الله كولن لاحقا. عندما بلغ فتح الله كولن العشرين من عمره عيّن إماماً في جامع «أُوجْ شرفلي» في مدينة أدرنة حيث ‏قضى فيها مدة سنتين ونصف السنة في جو من الزهد والتقشف، لدرجة أنه قرر المبيت في الجامع وعدم الخروج إلى ‏الشارع إلا للضرورة. ‏بدأ عمله في إزمير بجامع «كستانه بازاري» في مدرسة تحفيظ القرآن التابعة للجامع. ثم عمل ‏واعظاً متجولاً، فطاف في جميع أنحاء غرب الأناضول. ولفتح الله كولن 60 كتابا، وقد حصل على العديد من الجوائز على كتبه هذه، وأغلبها حول التصوف في الإسلام ومعنى التدين، والتحديات التي تواجه الإسلام اليوم.

* غدا : دولة الميلمتر الواحد