أسطبل للخيول ومكب للقمامة يتحول إلى مقهى ثقافي..

TT

تعتبر مدينة دمشق من اقدم العواصم الحية في التاريخ وتحوي في بنيتها التحتية سبع طبقات اثرية، تحمل كل طبقة مدينة عاشت في هذا الموقع واندثرت لتظهر فوقها اخرى الى ان وصلنا الى مدينة دمشق كما هي اليوم.

وتحوي دمشق القديمة عدداً كبيراً من البيوت الاثرية الهامة التي يعود بناؤها الى عصور متعاقبة من الزمن وتعاني من الاهمال والضياع وعدم الاهتمام بها، وهذا دفع المعنيين الى المطالبة بالحفاظ علىها ومنع التلاعب بمعالمها وتغيير طبيعتها الاثرية، وثار مالكوها يستثمرونها بتحويلها الى اماكن سياحية يرتادها المواطنون والسُّيَّاح، الا ان العوائق ما زالت كبيرة وتحول دون تطوير هذه الاماكن بما يتناسب مع اهميتها التراثية.

وتعمل حاليا مجموعة من المستثمرين على توظيف هذه البيوت في تنشيط الحركة السياحية لمدينة دمشق رغم وجود بعض القوانين التي تحد من انتشار هذه الظاهرة. ويعتقد هؤلاء ان العمل سوف يعود على المدينة ويكسبها رونقا وجمالا من خلال تحسين منظر البيوت وجعلها اكثر حياة وحيوية حفاظا على شكلها التاريخي.

ويرى مستثمر حول بيتا قديما الى مقهى ومطعم انه عانى كثيرا في الحصول على التراخيص المطلوبة، وان الجهات المعنية بمنحه التراخيص عمدت الى اغلاق محله اكثر من اربع مرات بسبب صراحة القوانين التي تعود الى العام 1930، وهي قوانين لم تعد صالحة لهذا العصر وتحتاج الى اعادة النظر بها.

يقول عادل ابراهيم ان المقهى الذي يملكه في دمشق القديمة كان عبارة عن اسطبل للخيول ومكب لرمي القمامة، وكانت الفكرة ان يحول هذا الاسطبل الى مقهى ثقافي سياحي في الطابق الارضي ومعرض ومكتبة في الطابق العلوي، «وقد قمنا بترميم المكان ولم نزد عليه شيئا للحفاظ على تراثيته القديمة واستخدمنا المواد الطينية الملائمة كي يشعر رواده بالحنين الى الزمن القديم».

وحول الصعوبات التي واجهته اثناء عمله يضيف: «جاءت لجنة من محافظة دمشق لا تعرف ماذا تريد، فمندوب الآثار داخل هذه اللجنة يمنع وضع السيراميك في دمشق القديمة لانه ينتمي الى الحاضر، بينما مندوب وزارة الصحة يطالب بضرورة وجود السيراميك لانه دليل نظافة. وحين وضعت السيراميك طالبني مندوب الآثار بازالته واختلف مع مندوب الصحة ولم يصلا الى قرار محدد».

وتدور الفكرة اليوم لدى بعض الراغبين باستثمار اموالهم وهي تحويل الخانات القديمة الى فنادق سياحية وهي موجودة بأعداد كبيرة وبمساحات واسعة.

ويطالب اصحاب العقارات القديمة والراغبون في استثمار بيوتهم كمقاه ومطاعم وفنادق بضرورة حصر التراخيص بوزارة السياحة من دون الرجوع الى القوانين البلدية البالية، ورغم ذلك فهناك العديد من المقاهي في دمشق القديمة مثل مقهى النوفرة وبيت جبري علبال وغيرهما، وجميعها اماكن شعبية تعتمد على تقديم الارجيلة والمشروبات الخفيفة كالشاي والقهوة وبعض المأكولات الخفيفة، الا ان اعدادها ما زالت دون الطموح نظرا لكثرة الباحثين عن الاصالة والتراث.

والشيء اللافت اليوم ان اغلب هذه المقاهي اخذ يعتمد على عرض الاعمال الفنية لكبار التشكيليين السوريين بهدف الترويج لاعمالهم وبغض النظر عن الربح المادي، اذ لا يمكن لهذه الاماكن ان تنافس الغاليريات الفخمة المنتشرة في دمشق.

ويعتقد الباحث المصري الدكتور محمود مرسي ان استغلال المناطق الاثرية كمشروعات سياحية ظاهرة مفيدة، وسبق استخدامها في البلدان الاوروبية واثبتت نجاحها ولكن انتشارها يحتم علينا وضع ضوابط لها بحيث تتلاءم مع جمالية المكان الاثري وحرمته. وشدد مرسي على ضرورة عدم اسناد هذه المشاريع الى اشخاص بشكل عشوائي، حيث يجب ان يكون المستثمر على قدر من الثقافة والدراية في التعامل مع الاماكن الاثرية.

واللافت للانتباه هو وجود عدد كبير من الفنانين والمثقفين والادباء والكتاب يرتادون المكان بشكل دائم وظاهر بهدف التواصل، فترى على هذه الطاولة حوارا حول لوحة تشكيلية او قصيدة شعر او فكرة مسلسل تلفزيوني، وعلى الطاولة الاخرى كاتب يقرأ بعيدا عن الآخرين وفي زاوية اخرى ترى الفنان الممثل نضال سيجري.

وفي ركن آخر تجلس الفنانة التشكيلية عتاب حريب مع لوحاتها وتقول «اشعر بان لوحاتي تتناغم الوانها وخطوطها على جدران هذا المنزل الدمشقي الرائع الذي تتداخل فيه القناطر الحجرية مع اللبن المطيب بأغصان الاشجار البنية في لوحة فنية يحق لها ان تكون ارضية للوحاتي التي تنتشر من حين لآخر على جدران المقهى».

وتقوم الفنانة عتاب حريب بالتعاون مع ادارة المقهى بتدريب الفنانين الناشئين وتلقينهم المبادئ الاساسية للفن من خلال دروس بسيطة تساهم في رفع السوية الحسية والمهنية للطلبة في كلية الفنون الجميلة، حيث تدرس الفنانة حريب.

وننتقل من الفن التشكيلي الى الادب بكل تفرعاته، فقلما نرتاد المقهى دون ان نجد بعضا من الادباء السوريين الكبار، هنا الدكتور صادق جلال العظم، وهناك محمد كامل الخطيب الناقد والقاص المعروف، وهنالك المخرجان هيثم حقي ونبيل المالح والكاتب المصري سمير امين، وتمر في تجوالك على لوحات الفنان الراحل فاتح المدرس وقد اهداها للمكان تقديرا وحبا. وبين هذا الحشد الاديبة الدكتورة منى الياس رئيسة قسم اللغة العربية في جامعة دمشق تأخذ ركنا منزويا لتكتب زاويتها الصحافية الاسبوعية، وقالت: «اهرب من ضجيج الحياة واعبائها الى هنا لأنال قسطا من الهدوء والراحة تعطيني دفعا لمواجهة صخب العمل ولا تستغربون بأني اصنع اغلب مخططاتي العملية في هذا الجو الهادئ اللطيف».

=