هل تفوز فلسطين بالسعفة الذهبية في كان؟

TT

ينحو المخرج ايليا سليمان الى الرمزية والخيال معا أكثر من مرة ويسجل ضربات لها وقع مفاجئ. هل صحيح أننا بلغنا مرحلة يستطيع فيها الفلسطينيون التعبير بهذا النضج الفني وبهذا الوضوح السياسي عن الوضع الفلسطيني بسواده وبياضه؟.

بعد «القدس، يوم آخر» لهاني أبو أسعد وما احتواه من تعابير واقعية ومضامين جيدة في الموضوع الفلسطيني، يتقدم ايليا سليمان بفيلمه «تدخل الهي»، الذي عرض أمس في مهرجان كان متنافسا بذلك على جائزة السعفة الذهبية» ليصوّر الوضع عند المعابر وفي الأحياء والبيوت والمستشفيات. فسليمان يمضي ثلث الساعة الأولى في مشاهد شبه منفصلة يلتقط فيها مشاهد من حياة الفلسطينيين في الناصرة. وليست كل الصور جميلة: رجل اعتاد وضع سيارته أمام كاراج جاره. آخر اعتاد رمي الزبالة في حديقة بيت جيرانه. ورجل اعتاد هدم جانب من الطريق من دون تبرير واضح. لكن ليس كل الصور المقدمة في هذا الاطار انتقادية. أغلبها مرحة لا معنى يربطها بقصة واحدة ولا هي جزء من سرد روائي.

لكن، ومثل فيلمه السابق «سجل الاختفاء»، هناك فاصل بسيط ينتقل فيه الفيلم من تسجيل ملاحظاته على البيئة الى المرحلة التي تليها. انه لا يزال على أسلوبه العام من حيث تصوير مشاهد مقتطعة (وأحيانا مكررة ولو أنه ليس التكرار الناتج عن ضعف او تقصير) وغالبا بروح ساخرة، مرحة وكرتونية. في تلك اللقطة نشاهد المخرج نفسه يقود سيارته. الكاميرا الآن الى جانبه وهو يأكل حبة مشمش. يصل الى نهايتها وتبقى البذرة. يرميها من شباك سيارته المفتوح على جانب دبابة اسرائيلية. لقطة للدبابة وهي تنفجر بعبوتها انفجارا كبيرا.

من هذه اللحظة ايليا سليمان يستخدم الواقع لينطلق منه صوب الخيال الجانح. يوظف الحركة العادية ويستخرج منها وضعا مجنونا.

والد شخصية الفيلم الرئيسية يسقط وينقل الى المستشفى. لكن يوميات هذا الرجل الى ان يموت تتضمن الالتقاء بالفتاة التي يحبها عند حاجز يقع على الطريق بين القدس ورام الله (حاجز رام). هو يكره قطع الحاجز صوبها وهي تكره قطع الحاجز صوبه، او لعلهما يرفضانه ولا يريدانه. المهم هو أنهما يلتقيان عند مكان مشرف عليه. عوض الحديث يشبكان يديهما ويتطلعان الى حيث جنود الاحتلال يوقفون السيارات المارة. يدففون. يُرجعون او يسمحون او يخرجون البعض ويضعونهم مرفوعي الأيدي لا هم أسرى ولا هم أحرارا. العاشقان لا يتكلمان. بطل الفيلم يتطلع بامعان محتقنا ما يدور في صمت بليغ الى أن يأتي ذلك اليوم. يصل الى المكان ومعه بالون أحمر عليه صورة الرئيس ياسر عرفات. ينفخه وهي تنظر الى ما يقوم به متسائلة. يفتح النافذة التي في سقف السيارة ويطلق البالون الذي يطير باتجاه الحاجز. يراه الجنود. أحدهم يريد اطلاق النار على البالون لكن زميله يمنعه طالبا القيادة. بعد حين ليس بطويل، وقبل نهاية الفيلم، يأتي فصل آخر من تلك المشاهد الناضحة بالرمزية. في مرتين متباعدتين نرى فتاة فلسطينية ممشوقة القوام جميلة المحيا لا اسم لها، ومثل العديد من الشخصيات الأخرى، لا تتكلم. المعركة التي تدور بينها وبين هؤلاء الاسرائيليين ليست من اي واقع، لكنه يوظفها ليرسم علم فلسطين على أرض فلسطين ولكي يقدم تلك الفتاة على أساس أنها فلسطين التي لا تموت.

جنوح سليمان هنا لا يخلو من قليل من الافتعال والنشاز عن المواقف السابقة، اذ ينقصه المرح الخفي والسخرية البالغة. يبدو كما لو أنه جزء من نشيد وطني. أفضل عليه مشهدا بالغ الدلالة يقع بين بطل الفيلم في سيارته عند اشارة ضوئية وبين يهودي في سيارته بمحاذاته. يتبادلان نظرا طويلا، عميقا بمعين من الغضب، من الصراع كما لو أنهما يتعاركان نظريا. وبالفعل اللقطة التالية ليدين مشتبكتين كما في نزال «كباش» لكن اليدين هما للابن يساعد أباه على الصعود. انه اشتباك الاتحاد بين الجيلين. النهاية تصور ايليا سليمان وأمه جالسين في المطبخ وهناك طنجرة ضغط تغلي... تصفر من الغليان.

لكن سوء التفسير واقع ... واقع. حال انتهاء الفيلم خرج بعض الحاضرين العرب بآراء غريبة. أحد هذه الآراء أن الفيلم قاس على الفلسطينيين اذ ينتقدهم وأن الفيلم لا يصور الوضع الراهن حاليا. انه كما لو أن هناك وصفا واحدا للوضع الراهن لا يمكن الخروج عنه او أن المطلوب هو اعتماد ذلك السرد العاطفي الهين. لا ظلالات.

مبروك ايليا على الفيلم وعقبال السعفة.