رحيل ألبير قصيري.. اللورد المصري لحي «السان جيرمان» بباريس

عاش 64 عاماً في غرفة فندق وفيها لفظ أنفاسه

ألبير قصيري
TT

بغياب الأديب المصري ألبير قصيري في باريس، أمس، عن 94 عاماً، يفقد حي السان جيرمان واحداً من آخر الوجوه التي صنعت شهرته كملتقى للكتاّب والفنانين من كل أنحاء العالم. وكان مَنْ يرى قصيري، الكاتب والشاعر ذا الشخصية المتفردة، جالساً بقامته المنتصبة في مقهى «فلور»، عاماً بعد عام وعقداً بعد عقد، يتصور أن الزمن نسيَّه على هذه الأرض، وأن الموت ضربَ عنه صفحاً. كتب قصيري باللغة الفرنسية، وعاش في باريس جلّ عمره، لكن صفة «المصري» كانت تسبق اسمه على الدوام. وهو أديب مقل لم ينشر أكثر من ثماني كتب أخذ وقته فيها وجعل منها مرآة لروحه الفكهة الحرة الرافضة لأي قيدٍ، ولفلسفته في التعامل مع الكون بحكمة رجل شرقي. وكانت القاهرة هي مسرح رواياته، ومنها استعار أبطاله. ولكي يبقى طليقاً من كل قيد، رفض قصيري أن يمتلك بيتاً وعاش طوال 64 سنة الماضية في الغرفة نفسها من نزل «لا لويزيان»، أحد الفنادق الصغيرة في قلب السان جيرمان، بحيث صار معلماً من معالم الحي.

وكان أصحاب المقاهي والدكاكين والمكتبات يعرفونه ويحيونه عندما يمرّ بهم. فقد كان من الصعب أن تخطئ العين «مسيو قصيري»، وهو يسير بأناقته المعتنى بها، وكأنه لورد إنجليزي خرج للتو من متحف الشمع وجاء يتنزه في باريس، متكئاً على شمسية ذات مقبضٍ صدفي. ولد قصيري في حي الفجالة القاهري عام 1913 لأسرة ميسورة من الشوام الذين هاجروا الى مصر وحصلوا على جنسيتها. ودرس الابتدائية في مدرسة رهبانية خاصة ثم دخل «الليسيه الفرنسي» في باب اللوق. وكانت موهبته الأدبية تعبر عن نفسها، منذ يفاعته، بكتابة الشعر والحكايات. وسرعان ما انضم قصيري، في ثلاثينات القرن الماضي، الى جماعة «الفن والحرية» التي أسسها السوريالي جورج حنين. وفي القاهرة أصدر أول مجموعة شعرية له. تعرف قصيري، أثناء رحلة له الى الولايات المتحدة، على الكاتب الأميركي هنري ميلر. وساعده ميلر على نشر أولى رواياته عام 1940. وبعد الحرب العالمية الثانية، قصد باريس واستقر فيها وخالط كبار مثقفيها، أمثال سارتر وجينيه وكامو ودو بوفوار. لكنه لم يحاول أن يحصل على الجنسية الفرنسية، ولعله كان يعتبرها قيداً من القيود التي يحب الإفلات منها. وفي باريس، أصدر كتبه التي ترجمت الى العديد من اللغات، ومنها «منزل الموت الأكيد» و«كسالى في الوادي الخصيب» و«شحاذون ومعتزون». وترجمت هذه الرواية الأخيرة الى العربية وتحولت الى فيلم من اخراج المصرية أسماء البكري. كما ألهمت كتبه فناني القصص المصورة والمغنين والمسرحيين وكتاب السيناريو وانجزت عنه أفلام وثائقية.

نال قصيري عدة جوائز؛ منها الجائزة الكبرى للفرانكوفونية وجائزة جماعة «أهل الأدب». وحصل على وسام الشرف الفرنسي والعديد من التكريمات. ولفظ آخر أنفاسه في الفندق نفسه الذي كان بيته الوحيد.