عبد السلام المجالي ـ رئيس وزراء الأردن السابق من «بيوت الشعر» إلى القصور الملكية (3) ـ استعدت مصر وسورية لحرب 1973 وكتمتا سرها عن الأردن

اختراق الجدار المصري حول انتصار 1973 إلى كارثة أبشع من هزيمة 1967 * تجربة الميثاق الوطني «أردنت» الأحزاب التي كانت صدى لما يجري في الخارج

TT

في هذه الحلقة من مذكراته، يرسم المجالي بعض مشاهد حرب 1973، وانتصار الجيشين المصري والسوري فيها، قبل ان تفتح القوات الاسرائيلية ثغرة في جدار القوة المصرية المتقدمة، وتحيل الانتصار الذي كاد البلدان يفوزان به الى كارثة.

ثم ينتقل المجالي الى الحديث عن الميثاق الاردني وولادته في ظل حوارات ديمقراطية جرت في القصر الملكي برعاية كاملة من الراحل الملك حسين، والآفاق التي فتحها هذا التطور الجديد على الساحة الاردنية وامام احزابها السياسية. حيث اسس الميثاق لتجربة ديمقراطية فتحت الابواب امام التكتلات السياسية المختلفة للمشاركة في الحياة البرلمانية، وتحمل مسؤولياتها على مختلف المستويات.

كان الوعد الذي اطلقه جمال عبد الناصر بقوله: «ان ما اخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة»، شغل العرب اليومي الشاغل، وكان الشارع العربي البعيد كل البعد عن حقائق ما يجري داخل دهاليز الحكم والدبلوماسية في العالم، لا ينفك يصرخ في وجه الحكام العرب كي ينفذوا الوعد بالثأر، أو ان يذهبوا الى جهنم. وكان الشارع العربي قليل الحيلة، لا يملك من وسائل الضغط الشيء الكثير، لكنه كان يتململ، وكان تململه يوحي بأن عاصفة هوجاء سوف تهب على العرب فتأخذ الاخضر واليابس والكبير والصغير. ومن جهتهم، كان الحكام العرب يشعرون ـ شأنهم شأن الشعب ـ بمزيد من المهانة كلما مر يوم او اسبوع والارض العربية المحتلة تعاني من الاحتلال وليس هناك من يقدر على تحريرها.

وفي مقابل ذلك، كانت اسرائيل تسيطر سيطرة كاملة على نفط سيناء ومياه الجولان وموارد الضفة الغربية وتبني بما تجنيه من الموارد العربية مستوطنات وتستقبل مئات آلاف المهاجرين اليهود من شتى انحاء العالم.

وكانت حاجتها الى تأمين الاراضي التي احتلتها، اشد ثقلا مما كانت عليه قبل حرب 1967. فهي اليوم تقاتل عدوها من داخل حدوده هو وليس على مشارف حدودها عام 1967. وفي الاردن مثلا، اصبح طول حدودها معه حوالي 500 كيلومتر، من اصل ما يزيد عن 700 كيلومتر واصبحت اسرائيل تتحكم كما تريد بالوضع العسكري مع العرب، فحرب 1967 جعلتها داخل مواقع طبيعية تقوم مقام عشرات الوف الجنود والدبابات. ففي الجنوب اصبحت قناة السويس تشكل عائقا طبيعيا يحول دون عبور المصريين والاشتباك مع الجيوش الاسرائيلية المحصنة على حافة القناة الشرقية. وفي الغرب اصبح البحر الميت ونهر الاردن وجبال الجولان تشكل حاجزا آخر يصعب اقتحامه الا بقوة ضخمة لم يكن يملكها العرب بعد حرب67.

وعلى الصعيد الدولي، كان الغرب قد بلغ اقصى درجات الاستهتار بالعرب وعدم الاكتراث بقضاياهم. فبعد حرب67 ايقن الغرب بجميع دوله ورجالاته ان العرب شعب يتكلم كثيرا ويفعل قليلا، وانهم متناقضون، يريدون الشيء، ويقبلون بنقيضه. قالوا لا في الخرطوم.. ثم قالوا نعم للقرار 242. اغنياء جدا وشعوبهم من افقر شعوب الارض. قادرون اذا ارادوا، لكنهم لا يريدون.. وهكذا.. حتى سقطت كل العلاقات الحسنة، واحيانا: الممتازة، بين الدول الغربية والولايات المتحدة من جهة، وبعض الدول العربية من جهة ثانية.

لسبب او لآخر، بدأت مصر وسوريا فقط الاستعداد للثأر من حرب 1967 دون ان تبلغا الاردن قرارهما وهو الدولة الثالثة التي خسرت جزءا هاما من اراضيها في تلك الحرب. وقد افاد المصريون والسوريون من دروس الحرب السابقة افادة كبرى، كما ان اسرائيل التي اضطرت للدفاع عن حوالي اربعة اضعاف مساحتها كانت توزع قواتها ودفاعاتها على حوالي 90 ألف كيلومتر مربع بدلا من 27700 كيلومتر، التي كانت مساحتها قبل حرب 1967. على اننا لا نستطيع ان نغفل مدى التطور الذي بلغه تدريب الجيش المصري، الذي كان هو والشعب يفيض غضبا من ايام حرب الايام الستة. وعلى الجانب السوري حصل الشيء نفسه، وقد تمكن الرئيسان انور السادات، وحافظ الأسد ان يقنعا الاتحاد السوفياتي بأن التخلي عنهما وعدم تزويدهما بالسلاح والمعدات اللازمة سوف يؤدي حتما الى كارثة محققة للأمن القومي السوفياتي، حيث سيضطر العرب من اصدقاء السوفيات الى التخلي عنهم والاتجاه نحو الغرب والولايات المتحدة عدوة السوفيات الكبرى.

جرت بين الراحلين: الملك فيصل والرئيس انور السادات والرئيس حافظ الأسد، محادثات، تقرر في خلالها ان تأخذ المملكة العربية السعودية على عاتقها حصتها في الحرب وهي: قطع النفط عن الغرب، واقناع شركائها في «منظمة الدول العربية المصدرة للنفط» بالموافقة المطلقة على هذا القطع حالما تتطلب الجبهة العسكرية المصرية ـ السورية، ذلك. وسرعان ما حصل هذا الطلب بعد عشرة ايام فقط من اندلاع الحرب. ذلك ان مسيرة المعارك الحربية على الجبهة المصرية اصطدمت بعراقيل كثيرة. استطاعت اسرائيل استغلالها، فاخترقت مواقع الجيوش المصرية ابتداء من 16/10/1973، أي بعد عشرة ايام فقط على بدء الحرب واندحار الاسرائيليين شرقي قناة السويس وفي عرض سيناء، وتمكن الاسرائيليون من احتلال جيب داخل الاراضي المصرية المحررة اخذ يتسع شيئا فشيئا الى ان اصبح ثغرة واسعة، ثم كارثة محتمة سمحت للجيش الاسرائيلي بتطويق الجيش المصري الثالث وربما قلب الحرب التي كان المصريون والسوريون قاب قوس من الفوز بها، الى كارثة أبشع وأقوى وأشد من كارثة 1967.

وفي السادس عشر من اكتوبر عقد وزراء النفط العرب اجتماعا في الكويت، قرروا على اثره استخدام سلاح النفط لدعم الجبهتين المصرية والسورية. وكان اثر حرب النفط فظيعا وشديدا على الاوروبيين واليابانيين والاميركيين ايضا. ودب الرعب في قلوب الناس في هذه البلدان من ان يتمكن النفط العربي من قتلهم برداً، أو من قتل صناعتهم ورفاهيتهم القائمة على نفط العرب.

لكن الامور سارت على نحو آخر، واصدر مجلس الامن الدولي بتاريخ 22/10/1973، القرار رقم 338 الذي يدعو الى وقف النار وتطبيق القرار 242. وسوف يذكر التاريخ، في المستقبل، الاسباب الحقيقية التي حدت بالمصريين والسوريين الى ابعاد المملكة الاردنية عن حرب 1973 وعدم ابلاغها بموعدها او بضرورة المشاركة فيها.

ولن اترك هذه المناسبة بالذات، تمر من دون ان اعلق على ما كتب حول المملكة الاردنية وملكها الراحل، تعليقا موضوعيا عقلانيا لا ابتغي منه سوى اظهار الحق للذين تغشى عيونهم احيانا، غيوم من الظلام والتعتيم او هم ضالعون في خداع الناس ويقبضون ثمن خداعهم.

ـ اذا كانت حرب 1973 حربا فاجأت اسرائيل والعالم كله فكيف يمكن لأحد في الدنيا ان يبلغ غولدا مائير بهذه الحرب في 25 سبتمبر 1973، اي قبل اندلاع الحرب بعشرة ايام، ولا تفعل غولدا مائير شيئا لتجنب هذه المفاجأة او للاستعداد لها بدلا من ان يتمكن الجيش المصري في الساعات الاولى من المعركة ان يحطم خط بارليف، ويقتل ويأسر ويدمر مئات الجنود الاسرائيليين، ومئات الدبابات ووسائل الدفاع والطائرات؟ـ اذا كانت مزاعم هذه الكتب صحيحة، فإن منطق الامور يقضي بالتأكيد انه كان هناك مؤامرة بين مصر وسوريا وغولدا مائير من جهة وباقي اسرائيل من جهة ثانية، وهذا مستحيل. ولانه مستحيل وغير منطقي فإن ما قيل عنه وما كتب يكون من بنات افكار الذين كتبوا.

ـ ان حرب 1973 نفسها، لم تكشف عن اوراقها الحقيقية بعد، فلا المصريون ولا السوريون ولا المراقبون استطاعوا حتى الآن ان يكشفوا حقيقة واسرار هذه الحرب التي اتفق على خوضها رئيسان اصبحا الآن في ذمة الله، ولم يصدر عن اي منهما اي كلام يؤكد او حتى يشبه الكلام الكثير المذهل الذي قيل وكتب عن هذه الحرب.

ـ كنت اسأل نفسي اسئلة لم اجد لها مبررا: فإذا كان هدف حرب 1973 هو تحرير الارض المحتلة وتوفير الظروف كي ينال الشعب الفلسطيني حقوقه.. فلماذا لم يشمل تحرير الارض.. الجزء الاردني منها؟

ـ عقدت مصر وسوريا اتفاقية عسكرية بينهما في 26/11/1970، حددت اهدافها من الاستعداد للحرب، وطرق قيادة النضال بوحدة عسكرية بينهما، بما يقتضي ذلك من قيادة موحدة، وتنسيق عسكري وتوحيد الشيفرة والتدريبات المشتركة.. وهي بالغة الاهمية، شديدة التعقيد. والسؤال هو: لماذا لم تشمل هذه الاتفاقية المملكة الاردنية الهاشمية؟ ولماذا اقتصرت فقط على محاولات تحرير الجولان وسيناء فقط؟

ـ لقد ساهمت الدول العربية الغنية مساهمة ضخمة في اعادة تسليح الدول التي خسرت حرب 1967، وقد افاد الاردن من هذه المساعدات شاكرا حامدا، وكان الهدف من كل ذلك ان الخسارة التي وقعت يجب ان تكون خسارة عربية شاملة، وان التحرير اذا حصل، يجب ان يكون عملا عربيا كاملا ومشتركا. فما الذي جعل الخسارة خسارة عربية، والتحرير شأنا مصريا وسوريا فقط على رغم ان سلاح النفط لم يكن على علم باستبعاد الاردن من المساهمة في تحرير ارضه المحتلة. على انني اعترف بأن حرب 73 قد واجهت من المبررات والظروف ما يجعلها سرا يخص مصر وسوريا فقط وقد تكون ظروف الدولتين هي التي جعلت الامور تسير على النحو الذي سارت عليه.

ان الدرس القاسي الذي يمكن ان نستخلصه من كل ما كتب وقيل وتمادى بعض الكتاب فيه، هو ان العقل العربي ما زال في حالة اعياء تامة ولعل من خصالنا غير الحميدة، اننا نتأثر بالقيل والقال. وهذا، بالتأكيد، ناتج عن عدم استعمال العقل كما يجب، لكن الحقيقة تبقى الحقيقة، وما عداها غبار تعصف به الريح وتفتت اجزاءه ومعانيه.

وفي كل الحالات سوف يشهد التاريخ فقط، على هؤلاء ويحكم على ما فعلوا وما قالوا.

* الميثاق الوطني الأردني

* من ايمان جلالة الحسين بأن الحياة البرلمانية الدستورية الديمقراطية هي خيار القيادة الهاشمية والشعب معا. وان هذا النهج الديمقراطي اصبح يشكل توجها لا رجعة عنه. ومن حرص جلالته على اتاحة المجال لمشاركة مختلف التيارات والاتجاهات السياسية والفكرية والدينية والبرلمانية والثقافية والمهنية في صياغة ميثاق وطني يستظل بالدستور ويحرص على تفهم الرأي والرأي الآخر، فقد تشرفت في ان اكون عضوا في لجنة الميثاق الوطني التي ضمت ستين شخصية اردنية برئاسة دولة السيد احمد عبيدات، توليت انا فيها لجنة صياغة ورقة التربية والتعليم والثقافة. كان ذلك في عام 1990. وقد انهت لجنة الميثاق اعمالها بعد اجتماعات متواصلة حرصنا خلالها على الاجتماع والنقاش بوعي ومسؤولية وبمعرفة كاملة.

وكان امامنا كلجنة ان نستعرض المبررات التي تدعونا لخلق ميثاق وطني يجمع الاردنيين تحت راية العرش الهاشمي من جهة، والوحدة الوطنية من جهة ثانية، والانتماء العربي من جهة ثالثة، ثم الوجود والتفاعل مع المجتمع الدولي والحضارات المنتشرة في اصقاع الارض.

وأول ما برز لنا هو ضرورة ارتكاز الميثاق على الاسلام كفكر سياسي وانتماء ديني وحضاري، اولا. وثانيا من حيث الجامع المتين بين ابناء الامة من المسلمين وغير المسلمين واخيرا وليس آخرا حقوق الانسان التي لم يعد ممكنا قيام مجتمع متطور من دون الايمان بها وتنفيذها بشفافية وديمقراطية.

وكان في حساباتنا ان ثمة ثوابت اردنية عربية ـ اسلامية لا نستطيع ان نحيد عنها او نلغيها او حتى نتجاهلها ومن هذه الثوابت: الدستور الاردني، العرش، المؤسسات الدستورية والشعبية والعسكرية والامنية.

ولم تتورع اللجنة في طرق اي صيغة او مصدر او عقد سياسي، اذا كان في ذلك ما يفيد الميثاق الوطني المنشود الذي وضعت له تعريفا يقول، بأنه اطار فكري عام يضع اسسا مستقبلية للدولة الاردنية، تكون وسيلة فعالة لتحديث البناء وتطوير القرار وانه سيشكل مجموعة مبادئ عامة يقف عليها ابناء الاردن وتكون موجها واضحا لسلوكيات وممارسات الافراد والسلطات والمؤسسات في معظم مجالات الحياة اليومية.

كذلك كان التوجه للميثاق العتيد انه وثيقة وطنية تساعدنا على الدخول الى القرن الواحد والعشرين بعزم ديمقراطي اجتماعي لا يفقدنا علاقاتنا الدينية، لكنه يرفض الاقليمية والطائفية والعنصرية، ويدعو الى التفاعل مع الآخرين، ويسمح بالعمل التنظيمي الذي لا يتعارض مع السلطة والمجتمع، ولكنه يسمح بالتنظيم الحزبي الديمقراطي الذي يتيح لجميع الناس حق الاجتماع والتفكير والتعبير والمعتقد تحت سقف العدالة الاردنية التي لا تتحيز ولا تميل الى طرف دون الآخر.

وكنا نعتقد ان تنفيذ هذه الافكار الديمقراطية من شأنه ان يؤمن سيادة القانون وتكافؤ الفرص بين الاردنيين، وتقليص دائرة الفساد الاداري والمحسوبية، وتجديد المؤسسات العسكرية والامنية والمؤسسات الحزبية والتنظيمية المدنية. كان من شأن ذلك ان يساهم في تدريب الناس على السلوك المدني الحزبي او المدني التنظيمي الجماهيري ضمن الالتزام بالضوابط التي ينشأ عليها المجتمع الاردني والشرعية التي لا يمكن المساس بها.

وعلى هذه الاسس والثوابت، اصبح ممكنا القول ان في الاردن ميثاقا وطنيا يشكل سياجا ادبيا واخلاقيا للمملكة التي ارتضينا جميعا ان نعيش في ظلها. وقد جاء الميثاق الوطني، الذي اختمرت فكرته في ذهن الملك الحسين استجابة لجملة من المعطيات والاوضاع والمستجدات الداخلية والخارجية، اثر متغيرات اصابت العالم مع سقوط الكتلة الاشتراكية كانظمة سياسية وايديولوجية، وما صحب ذلك من رياح التغيير التي هبت على المنطقة، بما فيها رياح الثورة الايرانية وآثار الحرب العراقية الايرانية وما مثلته من متغيرات. وقد ادرك الملك بحدسه وحسه وخبرته ضرورة مواكبة التغيرات التي وقعت حتى يستطيع ان يوظفها ايجابيا، فكان الميثاق الوطني الاردني الذي اعاد صياغة الحياة السياسية والاجتماعية بما يتناسب وتفعيل الدستور، وربما يستجيب ومتطلبات التغيير والمشاركة وبناء حياة سياسية وحزبية تأخذ بفكرة التعددية وتجسدها وتبعث باسلوب ديمقراطي ومناخ سياسي يضمن نشوء احزاب وطنية تنبعث من التراب الوطني الاردني، وتخلص له بعد ان ظلت التجربة الحزبية الاردنية، قبل الميثاق، تجربة سلبية تلقي بظلالها على المجتمع والدولة. حين كانت تلك الاحزاب صدى لما هو خارج الاردن، وتمد تأثيرها الى خارج حدود الوطن الاردني من يسار ويمين ووسط، وان يقيم بين هذه الاطياف حوارا متسعا وعميقا برعاية وفر لها الملك المكان، حيث كانت المجادلات تتم في القصر، كما وفر لها مناخا من الحرية في التعبير والتفكير، ظل مضمونا طوال فترة صياغة اللجنة للميثاق الوطني الذي جرى اقراره والتصويت عليه في مجتمع وطني واسع مثل كافة شرائح المجتمع. وفي ذلك التجمع الذي اقر فيه الميثاق، اعلن الاردن منطلقاته وفهمه السياسي لتسوية سلمية في الشرق الاوسط واستجابته للمشاركة في ذلك في خطاب سياسي هام جاء على لسان الملك الحسين.

لقد جاء الميثاق الوطني الاردني، ليستكمل مسيرة البناء الاردنية، ويفرزها، ويرسي قواعد العمل الوطني والديمقراطي ويؤكد قواعد التعددية السياسية والحزبية، خاصة ان الاردن خاض ـ خلال الخمسينات من القرن الماضي ـ تجربة حزبية جذورها كانت ـ كما ذكرت قبل قليل ـ خارج الوطن، وكانت تتغذى بالتالي، من النزاعات والتوجهات الايديولوجية الخارجية التي اضرت بعدد وافر من الدول العربية. وحاول الميثاق الوطني الاردني ان يضع معايير خاصة وعامة للاحزاب الاردنية المزمع تشكيلها تنسجم مع مضمون الدستور الذي يسمح للاردنيين بتأليف الاحزاب والانضمام الى تنظيمات سياسية. واشترط الميثاق على الحزب ان يعلن نظامه الاساسي واهدافه ومصادر تمويله وبرامجه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وجعل للقضاء وحدة الحق في البت في اي مخالفة لها علاقة بتطبيق قانون الاحزاب، التي عليها ان تلتزم، في برامجها وتوجيهاتها وممارساتها ونشاطاتها العامة والحزبية، بمجموعة من المبادئ اولها اعتماد الاساليب الديمقراطية. وثانيها، عدم ارتباط قيادة الحزب واعضائه تنظيميا او ماليا بأي جهة غير اردنية.

وقد شهدت هذه القضايا، التي خرجت الى العلن بعد نقاشات واسعة وعميقة ومتنوعة من كافة اعضاء اللجنة الذين يمثلون الطيف السياسي الاردني بمختلف تياراته واحزابه، اقول شهدت حوارات داخل اللجنة الملكية للميثاق في اجتماعاتها المستمرة طوال فترة الاعداد والصياغة التي استغرقت عدة اشهر، كما كانت هناك حوارات موازية من اعضاء اللجنة خارج الاجتماعات الرسمية التي كانت تعقد في القصر الملكي.. وقد اخذت الحوارات الخارجية طابع الاستقطاب حيث انقسمت اللجنة فيها الى ثلاث مجموعات يمكن تسميتها باليسار واليمين والوسط، حيث كانت مجموعات اليسار تقيم دراستها وتعد موافقتها ومقترحاتها لتأتي بها الجلسات، ومثلها كانت تفعل مجموعة اليمين التي غلب عليها الاسلاميون من حيث بقيت الغالبية من اللجنة الملكية للميثاق، وهي التي سميتها مجموعة الوسط، بعيدة عن العمل الجماعي المنظم، الى ان تبلورت لديها فكرة التجمع وتوحيد الصف. فاخذت تعقد اجتماعاتها في منزلي واخذت تجتمع يوم الاثنين من كل اسبوع، وسميت اجتماعاتها بصالون الاثنين، الذي تراوح حضوره بين الثلاثين والاربعين عضوا.

كانت مهمة الصالون الاولى هي بلورة الافكار المعروضة على اعضاء اللجنة الملكية للميثاق، وتكوين تصورات متقاربة من القضايا، وبالتالي تعميق مفاهيم الفكر الوسطي قياسا الى الافكار السائدة من اليسار واليمين، وقد ادرك رواد صالون الاثنين، الذي لم تنقطع اجتماعاته لسنوات طويلة، حتى بعد الانتهاء من صياغة الميثاق الوطني، وهم في الاصل اعضاء في اللجنة الملكية لصياغة الميثاق، ادركوا انهم يحملون افكارا مشتركة او متقاربة في كثير من القضايا الوطنية والعامة، وان اطار الصالون الذي كان اشبه بمنبر يصلح لان يبلور كثيرا من آرائهم من خلاله. وقد حافظوا على هذه اللقاءات في منزلي، حتى عندما كنت رئيسا للحكومة في فترتين متباعدتين بعض الوقت (الفترة الاولى في 1993 والثانية في 1997) وفي خلال هذه السنوات ازداد عدد الحضور بحيث لم يعد منزلي يتسع لهم، قررنا جميعا ان ننقل مقر الاجتماع الى قاعة جمعية الشؤون الدولية التي سرعان ما انضم عدد من افرادها الى صالون الاثنين، الذي ساهم في بلورة فكرة مجموعة السبعين، التي اسندت رئاستها اليّ وكانت مهمتها ان يقوم اعضاؤها السبعون، الذين تضمهم المجموعة، سواء كانوا من المنتسبين من الاحزاب الناشئة او المتجددة او بمساعدة احزاب الوسط، للتنسيق في ما بينها او اندماجها لتصبح قادرة على تنسيق اهدافها، خاصة وان نظمها متوافقة واهدافها واساليبها كذلك، ومع ان صالون الاثنين الذي ارتبطت بداياته واقاماته مع تشكيل اللجنة الملكية لصياغة الميثاق، الا ان هذا الصالون الآن قد استمر في تناول قضايا وطنية وقومية وعامة يتحاور فيها اعضاؤه ويقدمون آراءهم من خلال مداخلات تدار بروح ديمقراطية. وقد حرصت دائما على حضور هذه الجلسات بصفتي مؤسسا لهذا الصالون، وبصفتي رئيسا لجمعية الشؤون الدولية ايضا. وقد حافظ هذا الصالون على طابعه في ان يظل منبرا حرا في تداول الآراء ومناقشتها بانفتاح ودون التزام وجهة نظر محددة. وقد ساهمت الافكار والخلاصات المطروحة فيه في توسيع مدارك السياسيين والحزبيين ولهذا لعب صالون الاثنين دورا ملموسا ورائدا في دعم عملية السلام من خلال حوارات متواصلة عملت على تناول المعطيات التي كانت تتوفر للنقاشات من معلومات وتطورات، خاصة قبل اتفاقية السلام الاردنية ـ الاسرائيلية واثناءها، حيث استعنت بالافكار التي كانت تطرح في الصالون الذي كنت اتغيب عنه فقط حين كنت اسافر لرئاسة وفد المفوضات في مدريد وواشنطن. وبقي الصالون واعضاؤه على اطلاع جيد في مختلف مراحل المحادثات الاردنية ـ الاسرائيلية وحتى على مقدمات اتفاقيات اوسلو وما حدث بعد ذلك، رغم اختلاف وجهات النظر التي كانت تطرح في الصالون، على اعتبار ان المجتمعين لم يكونوا ليشكلوا حزبا واحدا يعكس وجهة نظر واحدة او متطابقة، وان كانت افكارهم تبدو متقاربة او متوافقة.

* الحلقة القادمة مفاوضات السلام العربية ـ الإسرائيلية