حكاية النضال القومي الذي بدأ من مقهى في شارع «كوينز واي» اللندني -1-

* رفضوا دخوله الى الكلية العسكرية فتغير مجرى حياته * طاهر يحيى كان ذكيا ولم تكن روح النكتة تغيب عنه

TT

يخرج جواد هاشم، الأكاديمي بعلم الاحصاء ووزير التخطيط العراقي الأسبق، عن صمته ليدلي بشهادته بحق السياسة العراقية منذ ما قبل سيطرة حزب البعث على الحكم في العراق حيث يدون في كتابه «مذكرات وزير عراقي مع البكر وصدام» ذكرياته «في السياسة العراقية: 1967 ـ 2000». وتأتي اهمية شهادته في انه عاصر المشاهد الاخيرة من حكم طاهر يحيى، آخر رئيس وزراء في عهد الرئيس الاسبق عبد الرحمن عارف، ثم شهد انقلاب يوليو (تموز) عام 1968، حيث تسلم في حكومة الرئيس الاسبق احمد حسن البكر حقيبة وزارة التخطيط وعمره لم يتجاوز الثلاثين عاما، ثم مستشارا لصدام حسين، مدشنا ولاول مرة في حياته،العمل السياسي المباشر. في الحلقة الاولى من هذه المذكرات التي تنشرها «الشرق الأوسط» بالاتفاق مع دار الساقي، يستعرض الدكتور جواد هاشم مراحله الدراسية، وعمله مع طاهر يحيى في سكرتارية المجلس الاعلى للتربية والتنمية الاجتماعية الذي كان يشرف عليه مباشرة وقتذاك رئيس الوزراء، وكيف تعرف على احمد حسن البكر وصالح مهدي عماش، تلك العلاقة التي دفعت بطاهر يحيى لابعاده عن السكرتارية وتعيينه مديراً عاماً للاحصاء.

* مراحل الدراسة الأولى

* في قلب الصحراء القاحلة من غرب العراق، وعلى مقربة من بحيرة الرزازة، تقع واحة تتكاثف فيها أشجار النخيل وتسقيها عيون ثرة تنبثق من أعماق الأرض، تضفي بمياهها الرقراقة جمالاً أخاذاً على تلك البساتين النضرة الزاهية.

في هذه الواحة الوادعة التي تسمى «شثاثة» أو عين التمر لجودة تمورها، اكتحلت عيناي بنور الحياة عام 1938.. كانت عائلتنا تتمتع باحترام خاص بين أهالي تلك البلدة البسطاء شأنها شأن العوائل المعروفة بـ«السادة» لاتصال نَسَبها بعترة النبي محمد (ص)، في مدن العراق الجنوبية. على أن ضِيق أفق شثاثة واتساع أعمال والدي وطموحه، جعلته ينتقل بالعائلة إلى أقرب مدينة إلى شثاثة، وهي مدينة كربلاء. ثم انتقل بعد سنوات إلى بغداد، حيث أنهيت مرحلة الدراسة الإعدادية. وكان ذلك عام 1955.

كنت أطمح إلى ولوج كلية الطيران لأصبح طياراً في القوة الجوية العراقية، إلا أن القبول في كلية الطيران لم يكن بالأمر السهل، ذلك أنه فضلاً عن الفحص الطبي الدقيق والصعب، فإن مسقط رأس الطالب يلعب دوراً مهماً هو الآخر في هذا الشأن، إذ إن لكل محافظة من محافظات العراق حصة معينة لعدد المتقدمين بطلبات الالتحاق بالكلية العسكرية أو كلية الطيران.

ومع ذلك، فقد تقدمتُ إلى الكلية المذكورة واجتزتُ جميع مراحل الفحص الطبي، ولم تبق إلا المقابلة الشخصية. كانت أسئلة لجنة المقابلة تنحصر في الاسم... اسم الأب... والأم... ومسقط الرأس. وعلى الرغم من أن مسقط رأسي شثاثة كما ذكرت، التي لم يعرف سكانها أي جالية غير عربية، لكن يكفي وقوعها ضمن محافظة كربلاء لشمولها بـ«الحصة».

رفضت اللجنة طلبي بحجة استنفاد حصة المدينة لتلك السنة، ولم تفلح محاولاتي في إقناع أعضاء اللجنة بقبولي استثناءً، لذلك لم أجد بداً من التوجه إلى وزارة الدفاع لمقابلة المرحوم اللواء غازي الداغستاني معاون رئيس أركان الجيش آنذاك، بعد أن كلمه أحد أصدقاء والدي. انتظرت حوالي الساعة في دائرة استعلامات وزارة الدفاع قبل أن يُسمح لي بالمقابلة.

تفحص الداغستاني ملفي ثم التفت إلي مبتسماً وقال برقة متناهية: أنصحك بالتقدم إلى كلية أخرى وسيكون لك مستقبل أفضل.

خرجتُ من مكتب الداغستاني والألم يعتصر قلبي، حيث أزف موعد التقدم إلى الكليات الأخرى، ولا حيلة لي سوى الانتظار عاماً كاملاً للتقدم إلى كلية غير الطيران أو العسكرية.

أخبرت والدي بما حصل فنصحني بالسفر إلى لندن وقضاء سنة هناك أتعلم خلالها اللغة الإنكليزية ثم العودة إلى بغداد ودخول كلية التجارة والاقتصاد. وقد كانت تلك النصيحة نقطة تحول مهمة في حياتي.

* السفر إلى لندن

* سافرتُ إلى لندن في تشرين الثاني (نوفمبر) 1955، ودخلت كلية فكتوريا لتعلم اللغة الإنكليزية. التقيت في لندن بأحد الطلبة العراقيين الذي دعاني إلى تناول الغداء في مطعم يوناني يقع في شارع كوينز واي Queensway، وهناك التقيت بشاب عراقي آخر، يدرس الهندسة، واسمه طالب حسين الشبيب. وسرعان ما نشأت بيننا صداقة توطدت يوماً بعد يوم.

كان هذا الطالب بعثياً ناشئاً، وقد استطاع بلباقته وذكائه المفرط، كسب عواطفي نحو حزب البعث الذي صوره لي بأنه ضد الطائفية وضد الاستعمار. لقد كان لتلك الزمالة الأثر الكبير في توجهي عاطفياً نحو أهداف حزب البعث على غموضها وعموميتها. وهكذا، آمنت بالوحدة العربية قبل إدراك مضمونها، وصيغها القانونية، وإشكالاتها النفسية، وسبل تحقيقها دستورياً أو لادستورياً.

كثر ترددي على المقهى اليوناني، وتوسعت حلقة أصدقاء الشبيب. كنا في كل مرة نلتقي فيها نجد شيئاً جديداً في انتظارنا من نشرة لحزب البعث، أو كتيب لميشيل عفلق، أو حديث منشور لأكرم الحوراني.

مرت عدة شهور وانتظم دوامي في المقهى أكثر من انتظامي في كلية فكتوريا. كنت أقرب إلى شاب ضائع يحاول أن يُقنع نفسه بأن طريق النضال السياسي (وإن كان من مقهى يوناني في لندن) هو خير من سلوك طريق الدراسة والعلم.

اقترب موعد الامتحانات فتشتت شمل الأصدقاء. أكملت الامتحان وعدت إلى بغداد في صيف 1956، وذهني زاخر بكل آمال المراهقة الفكرية في الوحدة والحرية والاشتراكية.

* كلية التجارة والاقتصاد

* التحقتُ بعد عودتي من لندن، بكلية التجارة والاقتصاد ـ جامعة بغداد ـ وقضيت فيها سنوات الدراسة الأربع لأتخرج فيها عام 1960 بمرتبة الشرف الأولى. نَمَت خلال هذه المرحلة الدراسية، علاقتي وصداقتي مع مجموعة من طلبة الكلية المنتمين إلى حزب البعث العربي الاشتراكي.

وأذكر أنه خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وقيام المظاهرات والإضرابات بين طلبة الجامعات العراقية، قرر عميد كلية التجارة آنذاك ـ الدكتور بديع شريف العاني ـ منع جميع الطلبة الذين شاركوا في مظاهرات الاستنكار ضد العدوان على مصر، من العودة إلى مقاعد الدراسة ما لم يقدم كل طالب كفيلاً ضامناً لحسن سيرته وسلوكه. ولم يجد الطلبة مفراً من ذلك إزاء تعنت العميد وإصراره، واضطر كل منا إلى تقديم تلك الكفالة.

ثم جاء العام 1958، وقامت الثورة في 14 تموز (يوليو). وبعد فترة قصيرة من قيامها، كما هو معلوم، حدث الانشقاق والتفرقة بين مؤيد لعبد الكريم قاسم ـ قائد الثورة ـ ومناصر لنائبه عبد السلام محمد عارف.

كان من الطبيعي أن ينعكس هذا الانشقاق على طلبة الجامعات لينقسموا على أنفسهم بين شيوعي وقومي وبعثي ومحايد. وكثرت النعوت والأوصاف: فهذا وطني مخلص للثورة وزعيمها، وذلك متآمر «قذر» يحاول التصدي لـ«الزخم» الثوري. ونظراً إلى علاقتي بمجموعة البعثيين والقوميين، فقد وقع تصنيفي بين «المتآمرين القذرين» المتصدين للثورة وزخمها التقدمي.

خلال فترة المراهقة الفكرية هذه، كنا مجموعة من البعثيين والقوميين، نعقد الاجتماعات والندوات ونوزع النشرات والكرّاسات التي تندد بحكم عبد الكريم قاسم، وندق أجراس الخطر المزعوم الذي يحيق بالعراق لعدم إعلانه الوحدة الفورية مع مصر ـ عبد الناصر. وبالرغم من ذلك كله، فإن أقصى ما كانت تقدم عليه السلطة، هو اعتقالنا لبضعة أيام.

وعلى سبيل المثال، أذكر أنه في عام 1959 قامت مجموعة من الطلبة البعثيين، وكنت منهم، بسفرة إلى بستان لزميل لنا حيث أكثرنا من شتم عبد الكريم قاسم والهتاف بحياة عبد الناصر. وبعد عودتنا بأسبوع من تلك السفرة «القومية»، صدر أمر من الحاكم العسكري العام اللواء أحمد صالح العبدي بإحالتنا على التحقيق بتهمة تعكير صفو الأمن العام. ولكن بعد بضعة أيام، أصدر العبدي أمراً آخر بإعفائنا من التحقيق من دون أن يتم توقيف أحد منا. وعفا الله عما سلف.

حل عام 1960، وتخرجت في كلية التجارة والاقتصاد بمرتبة الشرف الأولى التي أهّلتني لأتعيَّن في الكلية نفسها بوظيفة معيد. تقدمت إلى عمادة الكلية بطلب تعييني معيداً في قسم الإحصاء، غير أن العمادة تلكأت في ذلك، وتعذَّر عليّ مقابلة وزير المعارف آنذاك الزعيم إسماعيل العارف في الوزارة، فلم أتورع من أن أطرق عليه باب داره في ظهيرة قائظة. شرحت له موضوعي، فأبدى الرجل اهتمامه، وطلب مني الحضور لمقابلته في اليوم التالي في مقر الوزارة. وخلال المقابلة التي استغرقت نصف الساعة أجرى الوزير عدة مكالمات هاتفية تم على إثرها تعييني معيداً في قسم الإحصاء. وانتهى كل شيء.

بعد بضعة أشهر، أي في أوائل عام 1961، حصلت على قبول من جامعة لندن ـ كلية لندن للاقتصاد والعلوم. السياسية Science LondonSchoolofEconomicsPoliticalScience، فتقدمت إلى وزارة النفط لكي أكون ضمن طلبتها من المبعوثين للدراسة على نفقتها. كان المدير العام في الوزارة آنذاك عبد الله إسماعيل، أما مدير البعثات في وزارة المعارف فكان الدكتور محمد المشاط، وكان الاثنان يُجريان معاً مقابلة المتقدمين. ومع توفر جميع شروط القبول بي، فإن الظرف السياسي في تلك السنة، كان يفضل الطلبة من غير العناصر القومية «المتآمرة». غير أن إسماعيل والدكتور المشاط كانا من المتعاطفين سراً مع هذه الزمر والعناصر، وكان لتعاطفهما هذا الأثر الكبير في تمرير طلبي وقبوله، والإسراع بقبولي في بعثة وزارة النفط. وكلمة حق تقال، أنه لولا هذا التعاطف لما أتيح لبعض القوميين، الحصول على بعثات للدراسة خارج العراق.

التحقتُ في أيلول (سبتمبر) عام 1961 بجامعة لندن. كان الملحق الثقافي، في تلك الفترة، هو إسماعيل محمد إسماعيل، الذي كان قبل ذلك مدرساً للرياضة في جامعة بغداد. وكان معاون الملحق الثقافي، علي المثنو.

حل يوم الثامن من شباط (فبراير) 1963. وأثناء توجهي إلى الكلية، لفتت نظري الصحف البريطانية وهي تحمل على صفحاتها الأولى عناوين بارزة تقول: «ثورة في بغداد: اغتيال قاسم». ولا أكتم سراً، إن قلت إن هذا الخبر أدخل سروراً بالغاً الى نفسي. فلقد سقط حكم قاسم، ومعنى ذلك أنه ستتحقق الوحدة العربية، ليس هذا فحسب، بل أن تصنيفي كعراقي سينقلب من «متآمر قومي قذر» إلى مواطن ثوري صالح.

وصلت إلى الكلية والتقيت بزميل عراقي معروف بميوله اليسارية. ناولته الصحيفة، وقرأ الخبر، ثم التفت إلي، وقال بكل هدوء وبرود: «إذا صح هذا الخبر فسيكون هذا اليوم بداية لنكبات متتالية. ستسيل الدماء بين الحين والحين، وسيتساقط الشباب صرعى برصاص الانتقام والانتقام المتبادل». امتعضت من أقوال زميلي هذا، وسكتُّ على مضض، ولم أصدقه في حينه.

مرت بضعة أيام، وتوطد الوضع الجديد في العراق وبانت هوية قياداته، وإذا بزميلي القديم طالب حسين الشبيب يصبح وزيراً للخارجية. وابتدأت يد التغيير تنال الطلاب والموظفين كعادة أية حكومة جديدة من الحكومات التي تعاقبت على العراق. وقد كان أحد زملائي (فرهنك جلال) من الذين نالهم الفصل من البعثة، لميوله اليسارية، ولهذا فقد اتفقت مع بعض الأصدقاء على تقديم ما يمكن لمساعدته لكي لا ينقطع عن الدراسة. ويبدو أن هذا الأمر قد وصل إلى علم علي المثنو (معاون الملحق الثقافي)، ففي إحدى زياراتي إلى الدائرة الثقافية في السفارة، التقاني المثنو وعاتبني على دفاعي عن فرهنك جلال واهتمامي بشؤونه، حيث إنه ـ على حد قوله ـ شيوعي. وقد حسبت أن الأمر انتهى إلى هذا الحد، ولم أدرك أن المثنو يبيِّت لي شراً.

في سبتمبر (أيلول) 1963، حصلت على شهادة الماجستير، أي بعد مضي عامين فقط على التحاقي بالجامعة. ومع أني قد وفّرت على الحكومة العراقية سنة دراسية كاملة لأن المدة المنصوص عليها في عقد البعثة للحصول على الماجستير، كانت ثلاث سنوات، فقد فوجئت بالمثنو يُخبرني بأني قد خالفت عقد البعثة بحصولي على الشهادة قبل وقتها المحدَّد في العقد. ولم ينفع معه نقاشي وجدلي بالفوائد التي يمكن أن تعود عليَّ وعلى الحكومة، وأن عقد البعثة هو خمس سنوات للحصول على الشهادتين (الماجستير والدكتوراه).

حدث في تشرين الثاني (نوفمبر) 1963، تغيير حكومي آخر في العراق. وسيطر عبد السلام محمد عارف على الحكم، وبدأت حملة تطهير أخرى، فاعتلت وجوه جديدة مسرح الأحداث في بغداد. وفي يناير (كانون الثاني) 1964، غادرتُ لندن إلى بغداد لكي أجمع بعض المعلومات الإحصائية لرسالة الدكتوراه التي كنت أُعدّها. اتصل بي خلال وجودي في بغداد عبد الله إسماعيل (المدير العام في وزارة النفط)، وطلب مني التوجه إلى الوزارة لمقابلته لأمر هام. ذهبت إلى هناك فاستقبلني الرجل ببشاشته المعهودة وأدبه الجم، ثم أخبرني بأنه تسلم كتاباً من الملحقية الثقافية في لندن موقعاً من قبل علي المثنو (معاون الملحق الثقافي) يوصي فيه بفصلي من البعثة لسببين هما:

أ ـ مخالفتي عقد البعثة بحصولي على شهادة الماجستير في سنتين بدلاً من ثلاث سنوات.

ب ـ رعايتي للشيوعيين العراقيين المفصولين من البعثة.

استغربت من أمر هذا الكتاب، ونصحني السيد إسماعيل بمغادرة بغداد إلى لندن على وجه السرعة، على أن يقوم هو بمعالجة الأمر من دون أن يتخذ أي إجراء ضدي بعد مدة قصيرة من عودتي إلى لندن، تم نقل المثنو إلى بغداد ليصبح في العهد الجديد مديراً عاماً لضريبة الدخل.

حصلتُ في صيف 1966 على شهادة الدكتوراه قبل المدة المنصوص عليها في العقد أيضاً. ولم أخبر السفارة حتى لا أُتَّهم ثانية بمخالفة عقد البعثة وأعرّض نفسي للعقوبة. عرضت عليَّ جامعة لندن في تلك الأثناء وظيفة تدريسية قبلتها مؤقتاً إلى حين انتهاء مدة العقد والعودة إلى العراق.

* العودة إلى العراق

* في مطلع عام 1967، عدت إلى العراق وحاولت العمل في شركة النفط الوطنية، ولكن رئيسها غانم العقيلي وضع بعض العقبات في طريقي، مما حملني على التوجه إلى جامعة بغداد، والانهماك بالعمل الأكاديمي.

في ذلك الوقت، كان هناك ثلاثة أشخاص يمثلون رموز العهد القائم، هم: طاهر يحيى رئيس الوزراء، والدكتور عبد العزيز الدوري رئيس جامعة بغداد، والدكتور خير الدين حسيب الأستاذ المساعد بكلية التجارة. وتعرَّفت من خلال الدكتور حسيب الذي تربطني به زمالة قديمة، بالدكتور الدوري الذي دعاني إلى مقابلته في رئاسة جامعة بغداد التي كان مقرها في المبنى القديم للبلاط الملكي في الأعظمية.

استقبلني الدوري بحفاوة، وطلب مني أن أتولى سكرتارية المجلس الأعلى للتربية والتنمية الاجتماعية إلى جانب وظيفتي التدريسية في كلية التجارة.

كان المجلس مؤلفاً من عدد من الوزراء ورئيس الجامعة، ويقوم برئاسة جلساته طاهر يحيى رئيس الوزراء. ومن أهداف المجلس ربط عملية التنمية الاقتصادية بخطة تربوية شاملة.

كنت أحضر الاجتماعات بصفتي سكرتيراً عاماً (بالوكالة)، أستمع إلى أحاديث أعضاء المجلس ومناقشاتهم، وأسجلها حرفياً أحياناً، أو مشذَّبة أحياناً أخرى.

كانت تلك الوظيفة أول احتكاك لي بالسياسة العراقية، لا من حيث فلسفتها، إن وُجدت، بل من حيث تنفيذها وشخوص منفذيها. وقد كان جميع الوزراء يشاركون في المناقشات مهما تكن طبيعة الموضوع، وكنت أراقب ذلك بعناية واهتمام.

طاهر يحيى رئيس الوزراء ورئيس المجلس، كان ذكياً، يفسح المجال لجميع الحاضرين بالكلام والمناقشة، ولم تكن روح النكتة تغيب عنه في الكثير من الأحيان.

عبد الستار عبد اللطيف، وزير البلديات، كان ذكياً وسلساً في عرض أفكاره.

شامل السامرائي (طبيب) وزير الداخلية، لم يكن يتكلم كثيراً. الدكتور محمد يعقوب السعيدي، وزير التخطيط، لم أسمعه يناقش إلا مرة واحدة، وإن كانت مهمة المجلس التنسيق بين التخطيط الاقتصادي والتخطيط التربوي.

الدكتور مالك دوهان الحسن، وزير الثقافة والإرشاد، كان يشارك مشاركة متحمسة، ويحاول أن يربط بين الأهداف القومية العربية وبرامج التعليم والثقافة.

خليل إبراهيم (أو خليل رويتر كما كان يسمى)، وزير الصناعة، عسكري ولكنه يقرأ كثيراً، ويناقش في أي أمر ليُفهم الحاضرين أنه ملمّ بكل موضوع.

بعد مرور شهرين على قيامي بمهام سكرتارية المجلس، استدعاني طاهر يحيى إلى مكتبه في مبنى المجلس الوطني، عند الساعة السابعة والنصف صباحاً، فقد كان معروفاً بحضوره المبكر جداً إلى مبنى رئاسة المجلس الوطني على خلاف الكثير من الوزراء وكبار موظفي الدولة. في ذلك اللقاء، سألني أولاً إن كان لدي هاتف في المنزل، فكان جوابي بالنفي، لعدم توفر خطوط الهاتف في منطقة الأعظمية التي كنت أقيم فيها، وهو العذر الذي طالما سمعته من المدير العام للبريد والبرق المهندس نصرت المدرس.

استغرب طاهر يحيى، ورفع سماعة الهاتف الحكومي المباشر وتكلم مع المدير العام للبريد، ثم أصدر أوامره بنصب الهاتف بمنزلي، وطلب مني القيام بمهمتين: أولاهما، إعداد تقرير تفصيلي عن أجهزة التخطيط في العراق وسبل تطويرها، وثانيتهما، إعداد ميزانية لنفقات سكرتارية المجلس والمباشرة فوراً باستئجار مبنى لتلك السكرتارية وتعيين بعض المساعدين، لأنه، أي طاهر يحيى، يريد أن يشرف بنفسه على الجوانب المهمة من الأمور التربوية، إضافة إلى محاولة إيجاد الوظائف المناسبة لخريجي الدراسة الإعدادية ممن لا يُقبلون في الجامعات العراقية.

بعد أسبوعين من تلك المقابلة، أكملت ما طلبه طاهر يحيى وذهبت لمقابلته في مكتبه في الساعة السابعة صباحاً. قدمت إليه التقرير الذي طلبه حول أجهزة التخطيط، فتصفّحه ووضعه جانباً على أن تجري مناقشته في مناسبة أخرى.

أما الميزانية وملاك الموظفين (الكادر) ومتطلبات السكرتارية، فقد وافق عليها فوراً، واتصل بوزير التخطيط، الدكتور محمد يعقوب السعيدي، طالباً منه تخصيص المبلغ اللازم، وهو ما حصل فعلاً.

كان شارع المغرب، كما هو معروف، أحد الشوارع الجديدة التي افتُتحت آنذاك في بغداد، وهو قريب من رئاسة جامعة بغداد والكليات التابعة لها. استأجرت إحدى الدور المطلة على ذلك الشارع، واتخذتها مقراً لسكرتارية مجلس التخطيط للتربية والتنمية الاجتماعية، وانتدبت من جامعة بغداد اثنين من موظفيها للعمل معي، أحدهما بصفة محاسب، والآخر راقن على الآلة الكاتبة.

أراد طاهر يحيى أن تنجح السكرتارية في القيام بمهامها، لذلك وافق على انتداب زميل لي تعرفت إليه في جامعة لندن، هو الدكتور صلاح الدين عبد المجيد الشيخلي الذي كان يعمل مدرساً في معهد الهندسة التكنولوجية.

* كيف تعرفت على البكر

* زارني عصر أحد الأيام، بعد مباشرتي في سكرتارية مجلس التخطيط للتربية والتنمية الاجتماعية، الدكتور محمد المشاط (مدير البعثات عام 1961 والأستاذ بجامعة بغداد في ذلك الوقت). كان معروفاً عنه أنه من عناصر حزب البعث النشطة العاملة في الحقل الجامعي. وبعد تجاذب أطراف الحديث سألني عن أفكاري السياسية فأخبرته أنني قومي مؤمن بالوحدة العربية، وصداقاتي بعثية في أغلبها. بدت عليه أسارير الارتياح، واقترح عليّ ضرورة التعرف إلى أحمد حسن البكر، وأنه، أي المشاط، سيرتب لي لقاءً خاصاً مع البكر في منزله في أحد أحياء بغداد، المعروف بحي علي الصالح.

وافقت على الفكرة. وبعد يومين جاء الدكتور المشاط بسيارته الخاصة واقترح علي مرافقته إلى مسكن البكر. وصلت الدار، ووجدت فيها شخصين آخرين، علمت في ما بعد أن أحدهما هو صالح مهدي عماش (ضابط متقاعد) والآخر، عبد الله سلوم السامرائي، المدرس في كلية الشريعة ببغداد.

استقبلنا البكر، وكان يرتدي الدشداشة (الجلابية). وبعد حديث قصير انفرد بي في إحدى غرف المنزل وأخبرني أنه سمع عني الكثير من الدكتور المشاط، وأنه على علم باتجاهي السياسي وعلاقتي بطاهر يحيى ومجلس التخطيط، وأنه يحاول التعرف إلى أكبر عدد من الشباب الذين يتوسم فيهم الخير. وعدنا بعد هذا الحديث لنلتقي بضيوفه الآخرين. وقد أوصلني البكر، عند مغادرتي المنزل، إلى الباب، وأكد عليً ضرورة تكرار الزيارة.

بعد أقل من أسبوع اتصل بي الدكتور المشاط هاتفياً، واتفقنا على زيارة ثانية إلى البكر.

كانت تلك الزيارة مقتصرة علينا نحن الثلاثة، البكر والمشاط وأنا. سألني البكر عن اتفاقية النفط التي كانت الحكومة العراقية قد وقعتها مع شركة النفط الفرنسية «إيراب»، فأخبرته أني لم أطلع عليها، ومعلوماتي عنها لا تعدو ما نُشر في الصحف العراقية، ولكنَّ صديقاً لي اسمه عبد الله إسماعيل (مدير شؤون النفط آنذاك) قد يكون بإمكانه تزويدي بالتفاصيل المطلوبة، ووعدته بأني سأحاول جهدي للحصول منه على ما أستطيع من معلومات.

بعد يومين من ذلك اللقاء مع البكر، ذهبت لمقابلة عبد الله إسماعيل في وزارة النفط، وأخبرته صراحة بطلب البكر، وسألت إن كان من الممكن تزويدي بمحاضر جلسات المفاوضات مع شركة «إيراب» الفرنسية، وعن رأيه الشخصي بتلك الاتفاقية، وإلى غير ذلك من الأمور المتعلقة بمفاوضات الحكومة العراقية مع مختلف شركات النفط، مع التأكيد له أن موقفه هذا سوف لا يُنسى أبداً في حالة تسنّم البكر ومجموعته الحكم في العراق.

كان إسماعيل متجاوباً معي، واستمر بتزويدي بما يطلبه البكر من معلومات، وبتحليلاته الشخصية كأحد المطلعين على شؤون النفط. ولكن بالرغم من هذا الموقف المتجاوب، فقد قوبل بالجحود بعد تسلم حزب البعث الحكم عام 1968، بل إنه حورب في وظيفته مما اضطره إلى مغادرة العراق إلى أبو ظبي، حيث عمل وكيلاً لوزارة النفط في دولة الإمارات العربية وممثلاً لحكومتها في منظمة «أوبك».

ولعلها مفارقة أن تكون تلك المعاملة السيئة لعبد الله إسماعيل، التي اضطرته إلى مغادرة العراق، هي التي جعلت منه رجل أعمال ناجحاً. ورُبَّ ضارة نافعة.

* طاهر يحيى ومشكلة العاطلين

* في يناير عام 1968، جاءني في صباح أحد الأيام أحد موظفي كلية التجارة والاقتصاد (التي كنت أدرّس فيها) ليقول لي إن رئيس الوزراء طاهر يحيى يطلبني على الهاتف، وكان هذا الموظف في حالة ارتباك وعجلة، يحاول جرَّ أنفاسه لأنه، كما يبدو، جاء راكضاً من مكتبه إلى القاعة التي كنت أحاضر فيها.

سألته عما إذا كان رئيس الوزراء شخصياً على الهاتف، أم أن المتحدث هو السكرتير عدنان الجبوري؟ فأكد لي أن المتحدث قد أخبره أنه طاهر يحيى (أبو زهير)، وأنه يريد جواد هاشم فوراً.

توجهت مع الموظف إلى مكتبه ورفعت سماعة الهاتف لأسمع على الطرف الآخر طاهر يحيى وهو في حالة شبه عصبية ممزوجة بنوع من الغضب يقول: دكتور جواد، يبدو أن تخطيطنا التربوي لم ينجح في قبول خرّيجي الدراسة الإعدادية جميعاً في كليات الجامعة ومعاهدها. فكان جوابي أننا لم نبدأ بالتخطيط فعلاً، وأن الفترة الماضية ـ بقدر تعلق الأمر بالسكرتارية التي كنت أشرف عليها ـ إنما هي قصيرة جداً إلى الحد الذي لم أستطع فيه شخصياً تهيئة الكادر الفني المطلوب. ثم أخبرته أن السكرتارية لا تخطط، وأن مسؤولية التخطيط تنحصر في المجلس وانفجر طاهر يحيى ساخراً قبل أن أكمل جملة أخرى، وقال: يا مجلس... يا بطيخ، تعال فوراً إلى رئاسة مجلس الوزراء لنبحث أمر خريجي الدراسة الإعدادية العاطلين عن العمل، ولنرى كيف يمكن لسكرتارية المجلس تشغيل هؤلاء المتعطلين قبل أن تتلقفهم الأحزاب المعارضة ويشتغلوا بالسياسة.

سارعت إلى سيارتي لأقودها بأقصى ما أستطيع من سرعة، من منطقة الوزيرية، حيث كلية التجارة، إلى جانب الكرخ، حيث مبنى رئاسة الوزارة.

دخلت مبنى المجلس بخطى حثيثة متجهاً إلى مكتب سكرتير رئيس الوزراء، فمكتب الرئيس. كان طاهر يحيى يمسك بسماعة الهاتف متحدثاً. وبعد أن أنهى مكالمته ووضع السماعة، التفت نحوي قائلاً: تفضل بالجلوس. لقد كنت قبل لحظات أكلم وزيري المالية والنفط، حيث طلبت منهما إعداد حصر شامل لجميع الوظائف الشاغرة في المؤسسات النفطية، وبالأخص محطات تعبئة الوقود، وإرسال قائمة بتلك الشواغر وتوزيعها الجغرافي إليك.

سألته: وماذا أفعل بتلك القائمة؟

قال: تعلن في الجرائد طالباً جميع خريجي الدراسة الإعدادية لعام 1967 ممن لم يُسعفهم الحظ في دخول المعاهد والكليات إلى التقدم بطلبات تعيينهم، ثم تقوم أنت ومعاونوك في السكرتارية بتوزيعهم على الوظائف الشاغرة.

بعد صمت قصير، قلت لرئيس الوزراء إن مهمة التعيين، تقع ضمن صلاحيات مجلس الخدمة العامة، لأنه هو الجهة المخوَّلة بموجب القانون. التفت إليَّ طاهر يحيى وقال، بكل برود، إنه سيُصدر قراراً وزارياً يستثني هذه التعيينات من إجراءات مجلس الخدمة.

عدت إلى سكرتارية المجلس. وبدأت في عصر اليوم نفسه، في إعداد استمارة خاصة ليملأها المتقدمون من خريجي الدراسة الإعدادية.

أخذت الطلبات تنهال علينا مرفَقة أحيانا ببطاقات تعريف وتوصية من هذا المسؤول أو ذلك الوزير لتعيين فلان ـ «فقير الحال» ـ في محطة تعبئة الوقود القريبة من مسكنه في حي المنصور، أو حي الجادرية، أو زقاق الحيدرخانة.

وإذا تأخرت معاملة أحد هؤلاء المتقدمين أكثر من أسبوع، فإن مكالمة هاتفية من مسؤول آخر أو من سكرتير رئيس الوزراء، كانت تكفي للإسراع في تمريرها.

* تنشره «الشرق الأوسط» بالاتفاق مع دار الساقي