صدام: أنت الآن مستشار لي تجلس هنا بالقرب من مكتبي وأنت تعرف جيداً أين هو مركز القيادة ومركز اتخاذ القرار

دعوة إلى الموت: برزان استدرجني إلى بغداد وأودعني الزنزانة رقم 7 * عينت وزيرا للخارجية مع وقف التنفيذ * هكذا بدأ صدام بالسيطرة على السلطة

TT

يكشف الدكتور جواد هاشم، وزير التخطيط العراقي الاسبق في كتابه «مذكرات وزير عراقي مع البكر وصدام» سوء التخطيط الاقتصادي للعراق بسبب السياسات البعثية التي كانت سائدة. وفي الحلقة الثامنة من الكتاب يتحدث بإسهاب عن الاجراءات التي قام بها صدام حسين للسيطرة على القطاعين النفطي والاقتصادي، ومنها ابعاده عن وزارة التخطيط بعدما ابلغ رسميا بانه سيتولى حقيبة الخارجية، لكن هذا لم يحدث. ويروي كيف استدرجته المخابرات العراقية الى بغداد لتودعه الزنزانة رقم (7) التي أمضى فيها ايامه الصعبة قبل مغادرته العراق نهائيا.

الزمن: حزيران (يونيو): 1973 شهدت هذه الفترة ازدياداً مطّرداً في موارد العراق نتيجة ارتفاع أسعار النفط.

كان الوزراء من أعضاء مجلس قيادة الثورة يتسابقون في مفاتحة وزارة التخطيط لزيادة المبالغ المخصصة لمشاريعهم من دون دراسات للجدوى الاقتصادية. وعندما كانت الوزارة ترفض طلباً لهم يلجأون إلى إصدار قرارات من المجلس.

صارت لمفهوم التنمية العلمية المتوازنة مفاهيم جديدة لم أجد لها مقابلاً في قواميس الاقتصاد.

«التنمية الانفجارية»، مفهوم جديد، بل عبارات غير مفهومة يرددها بعض أعضاء المجلس في خطبهم واجتماعاتهم، موجِّهين التهم إلى الفنيين في وزارة التخطيط، و«المتعلمين في الخارج»، ويدّعون أن هؤلاء يعرقلون مسيرة التنمية: «التنمية الانفجارية»! كان صدام في هذه الفترة، رئيساً لمجلس التخطيط، وكنت ألجأ إليه لصد هذه «الهجمات القيادية» على الوزارة، غير أن بعض الوزراء يلجأون بدورهم إلى رئيس الجمهورية ليحاولوا تمرير مقترحاتهم «التنموية»... «الانفجارية»! وضعتني هذه التصرفات في موقف محرج جداً، فإن شكوت تلك التصرفات إلى صدام، فربما أكون خلقت حساسيات بينه وبين البكر، وإن سكتُّ عنها أساهم، بدوري، في هذه الفوضى الاقتصادية.

كانت الموازنة بين هذين الاختيارين صعبة ودقيقة، وتحتاج إلى جهد كبير لتفادي نقاط الخلاف بين البكر وصدام.

ومما زاد في تعقيد المسألة، أن لجنة المتابعة لشؤون النفط وتنفيذ الاتفاقيات التي كان يرأسها صدام ويدير شؤونها عدنان الحمداني عضو القيادة القطرية، بدأت تحصر الكثير من الصلاحيات الاقتصادية بيدها، بحيث أصبحت المشاريع النفطية الكبرى، وجميع مشاريع شركة النفط الوطنية، وإحالة المقاولات الكبرى، من اختصاص تلك اللجنة.

أخذ الحمداني يستغلّ موقعه القيادي أولاً، وعلاقته الخاصة بصدام ثانياً، ويوجه الفنيين في وزارتي النفط والتخطيط، ويوكل إليهم مهمات لا علم للوزيرين المختصين بها ولا سلطان لهما عليهم.

وعندما نفد صبري ولم أعد أحتمل الضغوط النفسية، ذهبت إلى صدام حسين لأخبره بأن أفضل شيء، في هذه المرحلة، هو تعيين أحد أعضاء القيادة القطرية وزيراً للتخطيط، وتعييني ـ إن رغب هو بذلك ـ سفيراً خارج العراق، لأسباب عائلية.

الزمن: تشرين الثاني (نوفمبر): 1974 في الحادي عشر من هذا الشهر، كانت الساعة تقارب الحادية عشرة صباحاً، وبينما أنا منهمك في مفاوضات مع بعثة من البنك الدولي، وإذا بالهاتف الحكومي يرن. لم أجب في بادئ الأمر، واستمر جرس الهاتف يرن ويرن ويرن. التقطت سماعة الهاتف. المتحدث على الطرف الآخر هو أمين السر لمجلس قيادة الثورة، شفيق الدراجي، يطلب مني التوجه فوراً إلى القصر الجمهوري لأمر هام.

أنهيت اجتماعي مع البعثة، وتوجهت إلى القصر الجمهوري، حيث التقاني الدراجي مبتسماً ويقول بالحرف الواحد: أهلاً بوزير الخارجية الجديد.

ـ ماذا تقول يا شفيق.

سألته وأنا أحاول إخفاء ارتياحي إلى هذا الخبر الذي لو صدق لكان فيه حل للضغوط النفسية التي كنت أعاني منها في علاقتي كوزير للتخطيط مع بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة من الوزراء.

لم يكشف الدراجي كثيراً عما يعرفه، بل أشار إليَّ بطريقته الخاصة وأدبه الجم، بأن مجلس قيادة الثورة قد عقد اجتماعاً مطولاً مساء اليوم السابق وصباح هذا اليوم، واتخذ عدداً من القرارات ذات الأهمية القصوى، ومنها قرار إجراء تعديل وزاري شامل سيذاع في المساء. ولكي لا يُفاجَأ الوزراء ممن يشملهم التعديل الوزاري، يقوم الدارجي بإبلاغهم على غير عادة حزب البعث السابقة، حيث كان الوزراء يفاجأون بتغير مواقعهم أو إعفائهم منها من دون علم مسبق.

واستطرد الدراجي قائلاً: إن من شأن القرارات الجديدة إعادة تنظيم ضوابط الدولة ومفاتيحها، مع تحديد واضح لصلاحيات الوزراء وصلاحيات رئيس مجلس قيادة الثورة وأعضائه.

بعد «استراحة» قصيرة في مكتب أمين السر لمجلس قيادة الثورة، عدت إلى وزارة التخطيط. كانت الساعة قد قاربت الواحدة بعد الظهر، ولم يبق من ساعات الدوام الرسمي سوى ساعة واحدة. سارعت فيها إلى عقد اجتماع مع كبار موظفي الوزارة لأعلمهم بأني سأعيَّن في «موقع آخر» في القريب العاجل، من دون إخبارهم أن الموقع هو وزارة الخارجية.

بدأت بعد ذلك جمع أوراقي وتصفية المعاملات المتبقية على مكتبي. وعند الثانية بعد الظهر تقريباً رن جرس الهاتف الحكومي. رفعت السماعة، فإذا بالمتحدث يحيى ياسين رئيس ديوان رئاسة الجمهورية والمسؤول عن صياغة المراسيم الجمهورية:

ـ دكتور، ستذاع عند الساعة الثامنة من مساء اليوم مراسيم جمهورية من شأنها تغيير مواقع المسؤولية لبعض الوزراء. موقعك سيتغير، وقد طلب مني رئيس الجمهورية إبلاغك حتى لا تُفاجَأ بالتغيير.

شكرته على إعلامي الخبر، ولم أقل له شيئاً عن حديثي مع أمين السر لمجلس قيادة الثورة.

بقيت في مكتبي حتى الرابعة بعد الظهر حتى أنهيت جميع المعاملات وغادرت إلى منزلي منتظراً إذاعة المرسوم الجمهوري بتعييني وزيراً للخارجية.

كنت أعتقد أن المنصب الجديد هو الخطوة الأولى نحو السفارة، فقد سبقني في ذلك وزراء الخارجية، فعبد الكريم الشيخلي أصبح ممثلاً للعراق في الأمم المتحدة، ومرتضى سعيد عبد الباقي عُيِّن سفيراً لدى إسبانيا.

أذيعت عند الساعة الثامنة مساءً المراسيم الجمهورية: تعديل وزاري كبير وتغيير في مواقع المسؤولية مع إسناد وزارات مهمة إلى أعضاء من مجلس قيادة الثورة.

لم يكن اسمي بين الوزراء الجدد، بل أُعفيت من منصب وزير التخطيط وعُيِّنت عضواً في مجلس التخطيط مع احتفاظي بمنصبي كمستشار في مجلس قيادة الثورة (مكتب الشؤون الاقتصادية)، ولم أُعيَّن وزيراً للخارجية كما أبلغني شفيق الدارجي، ولا سفيراً كما كان الاتفاق مع صدام حسين.

بعد أسبوعين من مباشرتي في وظيفتي الجديدة، دعاني شفيق الدراجي إلى العشاء في منزله. كنا وحدنا، وشرح لي في تلك «الخلوة» الملابسات التي رافقت تعييني في منصبي الجديد كعضو في مجلس التخطيط بدلاً من وزارة الخارجية، وقال إن البكر كان قد اقترح تعييني وزيراً للخارجية وإسناد وزارة التخطيط وكالةً إلى الدكتور سعدون حمادي مع إبقائه وزيراً للنفط ورئيساً لشركة النفط الوطنية. وقد وافق صدام على ذلك، وسُجل ذلك مع قرارات أخرى في محضر اجتماع مجلس قيادة الثورة. ويبدو أن ترتيباً آخر لموقع المسؤول قد حصل بعد اجتماع ثنائي بين البكر وصدام عند الخامسة من بعد ظهر يوم 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 1974، ولم يعلم شفيق بذلك، إلا بعد إذاعة المراسيم الجمهورية من الإذاعة.

واسترسل شفيق في تحليله لأسباب هذا التبدل المفاجئ ليعزوها إلى رغبة صدام حسين في السيطرة الكاملة على القطاع النفطي والتخلص من سعدون حمادي الذي كان يُعتبر من العناصر المشاكسة أولاً، والموالية للبكر ثانياً، وكذلك تشديد قبضته على كامل القطاع الاقتصادي عن طريق تعيين صديقه «المخلص» عدنان الحمداني وزيراً للتخطيط مع إبقائه سكرتيراً عاماً للجنة المتابعة لشؤون النفط وتنفيذ الاتفاقيات. بتعبير آخر: جاءت التشكيلة الوزارية الجديدة تلبية لرغبات صدام حسين في زرع الموالين له في المناصب والمفاتيح الأساسية للدولة، كخطوة أولى من خطوات تخطيطه بعيد المدى في تحقيق ثلاثة أهداف هامة:

أولاً، إكمال سيطرته تدريجياً على العراق بأجمعه، من دون منازع أو رقيب.

ثانياً، التخلص من البكر بحجة تخفيف العبء عنه في إدارة شؤون الدولة.

أما الهدف الثالث فهو التخلص من أعضاء القيادة القطرية من الحزبيين القدامى، وذلك بإسناد مناصب وزارية إليهم ينشغلون بها مع احتمال ارتكابهم أخطاء في عملهم أو استغلال نفوذهم مما يمهّد الطريق للتخلص منهم بسهولة، كما حصل فعلاً مع الدكتور عزت مصطفى، وتايه عبد الكريم، ونعيم حداد، وعبد الله سلوم السامرائي، وسعدون شاكر، وآخرين كثيرين.

* مركز اتخاذ القرار

* في اليوم التالي للتغيير الوزاري، أي 12 تشرين الثاني (نوفمبر)، باشرت عملي في مبنى المجلس الوطني في غرفة مجاورة لمكتب صدام حسين.

لم أعترض على هذا التعيين، بل لم يكن بالإمكان الاعتراض. فكيف يعترض أي إنسان على تعيين أقرته القيادة. التعيين الذي تنسبه القيادة أمر نهائي، و«قدَر» لا اعتراض عليه.

استدعاني بعد أيام صدام إلى مكتبه ليقول:

ـ دكتور، لم يُبحث تعيينك سفيراً في القيادة. أنت الآن مستشار لي، تجلس هنا بالقرب من مكتبي. وأنت تعرف جيداً أين هو مركز القيادة، ومركز اتخاذ القرار. السفارة ليست مهمة. ولكن إذا كنت راغباً في ذلك، خلافا لرغبتي، فسأنظر في ذلك مستقبلاً. وبالمناسبة، أية سفارة في ذهنك؟

ـ جنيف، يا سيادة النائب. وهذه ليست سفارة، بل ممثلية العراق في الأمم المتحدة، ولا تحتاج إلى موافقة الحكومة السويسرية.

خرجت من مكتب صدام بعد أن وعدني بالنظر في الأمر، واستمزاج رأي البكر.

مضت ستة شهور، ولم أسمع عن سفارة جنيف أي شيء. ثم مضت ستة شهور أخرى ولم أسمع من صدام إن كان قد «استمزج» رأي البكر في الموضوع أم لا.

وجاء عام 1976، ومضت منه عدة شهور. وفي ظهيرة أحد الأيام اتصل بي عدنان الحمداني ليخبرني بأن «السيد النائب» فاتح الرئيس البكر حول موضوع تعييني في جنيف، غير أن الرئيس لم يوافق وعين زوج ابنته منذر المطلك في ذلك المنصب. لذلك، فالأفضل الاستمرار في عملي مستشاراً في مجلس قيادة الثورة وفي مجلس التخطيط لفترة.

وهكذا كان: دوام يومي، دراسات عديدة، مقترحات متفرقة، في جو وظيفي خانق، وإجراءات أمنية مشددة في مبنى المجلس الوطني، حيث مكتب صدام ومكاتب أخرى مثل مكتب الشؤون الاقتصادية ومكتب الشؤون القانونية وسكرتارية لجنة المتابعة لشؤون النفط وتنفيذ الاتفاقيات. كانت الإجراءات تزداد شدة يوماً بعد يوم.

صباح السبت 17 تموز (يوليو) 1979، اذيع عن إجراء تغييرات في القيادة العراقية: يستقيل أحمد حسن البكر لأسباب صحية، ويُعيَّن صدام حسين رئيساً لمجلس قيادة الثورة، ورئيساً للجمهورية، ورئيساً للوزراء، وأميناً عاماً للقيادة القطرية لحزب البعث، وقائداً عاماً للقوات المسلحة... وسلسلة أخرى من التعيينات. وفي يوم 29 من الشهر نفسه، تلقيت دعوة في مقر عملي بالخارج من مسؤول مخابراتي للعودة الى بغداد لأمر عاجل.

بقيت برهة أتساءل بيني وبين نفسي: لماذا هذه الدعوة المفاجئة؟ أهي حقاً برقية من رئيس الجمهورية، أم من رئيس المخابرات برزان التكريتي؟ ثم إذا كان رئيس الجمهورية هو الذي يدعوني، فلماذا لم يأت الإشعار البرقي من وزارة الخارجية إلى السفير العراقي؟

أثارت فيَّ هذه الدعوة المفاجئة تساؤلات عديدة وهواجس كثيرة. لماذا؟ لست أدري، ولكني شعرت بأن الأمر غير طبيعي، وعليه لا بد من الاتصال بصدام حسين شخصياً. اتصلت بالقصر الجمهوري ببغداد، فقيل لي إن الرئيس غير موجود، وحُولت المكالمة إلى برزان التكريتي، الذي كان في منتهى الرقة في سلامه ورده. وعندما أشرت إلى التزاماتي الرسمية وضيق الوقت، رد برزان بكل مجاملة: «خذ وقتك في العودة».

وعلى الرغم من مجاملة برزان، لم يطمئن قلبي. المجاملات هي للتطمين، وهي أسلوب متعارف عليه في دوائر المخابرات.

ولم تمض سوى أسابيع قليلة على ذلك الاتصال، وإذا بوكالات الأنباء تنقل أخبار سلسلة التصفيات التي جرت في بغداد يوم 21 آب (أغسطس) 1979، حيث أُعدمت مجموعة من أعضاء القيادة القطرية من بينهم عدنان الحمداني وأصدقاء له ووزراء ومدراء عامون عملوا معه، بتهمة التآمر على حياة صدام حسين.

سمعت هذا الخبر، وأنا في لندن أقضي إجازة الصيف، وحمدت الله لأنني لم أذهب في حينه إلى بغداد تلبية لـ «دعوة» الرئيس، غير أن قلقي أخذ في الازدياد، وعادت التساؤلات في مخيلتي مرة أخرى: هل أتوجه إلى بغداد في هذا الجو المشحون؟ أم أنتظر فترة؟ وقررت في خضم هذه التساؤلات الاتصال بالدكتور فوزي القيسي وزير المالية، وكان وقتها في باريس للمعالجة، لأستشيره ولأتبين منه إذا كان على علم بدعوة الرئيس لي.

كان رد الدكتور القيسي بعد أن أعلمته بالأمر: «هؤلاء قد يضمرون لك شراً». واستمر قائلاً: «إذا لم يكن عندك ما تخافه، فتوجه إلى بغداد لأن عدم ذهابك قد يفسٍّر بأنك تتخذ مواقف معادية من العهد الجديد، مما يعني، إما العودة إلى بغداد أو اللجوء إلى بلد آخر».

غادرت لندن إلى بلغراد بعد ذلك بأسبوعين، لحضور الاجتماع السنوي لصندوق النقد الدولي، وبأمل لقاء الدكتور القيسي لبحث مسألة سفري إلى بغداد بشكل أكثر تفصيلاً. لم يأت الدكتور القيسي حيث توفاه الأجل في المستشفى بباريس.

توجهت يوم الخميس 18 تشرين الأول (أكتوبر) 1979 (...) الى بغداد.

حضر في مطار بغداد لاستقبالي وزير المالية ثامر رزوقي الشيخلي ومحافظ البنك المركزي العراقي حسن النجفي وثلاثة شبان آخرين لم أعرفهم، وكان ما يميزهم شواربهم المهدلة، وفي صالة الاستقبال، اقترب مني أحدهم ليقول: دكتور، خُصصت لكم بأمر من الأستاذ برزان سيارة خاصة إضافة إلى السيارة التي خصصها وزير المالية.

وبادرت السيد رزوقي، أستفسر منه عن سبب دعوتي، وإذا كان يعرف ماذا وراءها. وكم كانت خيبة أملي كبيرة عندما قال إنه يجهل الدعوة وأسبابها.

اتجهنا من المطار إلى فندق بغداد ضيوفاً على الحكومة العراقية. كان يوم وصولنا يوم الخميس، لذلك فقد اتفقت مع وزير المالية على زيارته صباح يوم السبت في مكتبه. ومن هناك اتصلت ببرزان التكريتي رئيس جهاز المخابرات لأعلمه بوجودي ولأشكره على تخصيص سيارة خاصة لي ولأستفهم عن موعد مقابلة صدام حسين، لتقديم المشورة التي استُدعيت من أجلها، ولأنني أريد العودة بسرعة لارتباطات سابقة.

قال برزان، بشيء من الاعتذار: دكتور، يجب أن يستمر بقاؤك في بغداد إلى حين انتهاء الأمور المطلوبة!! وهنا رأيتني أتساءل: ولكن ما هي الأمور المطلوبة؟ ولم أسمع الجواب.

وكما تقضي التقاليد، توجهت إلى القصر الجمهوري للتوقيع في سجل الزيارات، وأنا أحدث نفسي كم مسؤولاً عراقياً وقع في هذا الدفتر، ليقع في فخ المخابرات وينتهي به الأمر إلى السجن أو الإعدام؟

كذلك، التقيت بحامد حمادي، السكرتير الشخصي لصدام حسين، وقدمت إليه بعض الهدايا التي كنت قد جلبتها لصدام: ساعة يدوية، وبضعة أربطة عنق من ماركة «ليونارد» المفضلة لديه، ثم استفسرت منه عن موعد مقابلتي لرئيس الجمهورية.

بدا الاستغراب على حامد: أي موعد، لم يحدَّد لك موعد. الرئيس مشغول طوال الأيام العشرة القادمة. كما أوضح لي حامد أنه كسكرتير لصدام لا علم له حول مسألة استدعائي إلى المشورة.

أكدت له أن قدومي إلى بغداد هو بناءً على برقية من «الرئيس» وصلت إلى مسؤول المخابرات في سفارتنا في أبو ظبي.

ولكن أي رئيس؟ سأل حامد. قد يكن المقصود رئيس المخابرات!! زاد يقيني بأن أمراً ما قد دُبِّر، وقد وقعت في فخ المخابرات. غادرت القصر الجمهوري. كانت الساعة قد قاربت الثانية ظهراً، وتوجهت حيث أقام وزير المالية ومحافظ البنك المركزي دعوة غداء لي والوفد المرافق، وفي اليوم التالي، كررت الاتصال ببرزان، وقيل لي إنه غير موجود وسيتصل بي في وقت لاحق. كان واضحاً أنه لا يريد التحدث إليّ، طبقاً لأساليب المخابرات المعروفة.

* اختطاف في وضح النهار

* عند الثالثة بعد الظهر، قام بزيارتي في غرفتي بالفندق اثنان من موظفي المخابرات، وطلبا مني مرافقتهما إلى جهة لم يحدداها. وعندما أخذت أستفسر وأتلكأ بالذهاب، شهر أحدهما مسدساً. وبعد سيل من الشتائم، قال: من الأفضل أن تأتي معنا. وهكذا، خرجت منصاعاً من دون أن أتمكن من إعلام أي أحد بما حصل، أو أني مغادر، ولا مع من أنا مغادر، قادني ضابط المخابرات بسيارته إلى دار خلف «سينما النصر» التي تقع في قلب العاصمة وتطل على شارع من أهم شوارع بغداد التجارية: شارع السعدون.

ويبدو أن هذه الدار عبارة عن محطة انتقال، فهناك شُدَّت العُصابة حول عيني، وبلّغني الشخص الذي يتولى إعطاء الأوامر، أن اسمي أصبح الآن حسن عبد الرضا، وعلي أن أرد على هذا الاسم ولا أفصح عن هويتي أو اسمي الحقيقي لأي حارس أو مسؤول في المكان الذي أنا فيه. وقادني أحد الحراس في جولة طويلة بين صعود وهبوط، وذهاب وإياب بين يمين ويسار. ربما استغرقت الجولة دقائق، ولكني شعرت كأنها دهر لأجدني فجأة أقف وتُفك عن عيني العُصابة، وأرى نفسي أمام زنزانة كُتب عليها رقم 7 فُتح بابها وأُدخلت فيها ومن ثم أُوصد الباب.

كان من الطبيعي أن ألتفت حولي متفحصاً عالمي الجديد. كانت الزنزانة عبارة عن غرفة مساحتها أربعة أمتار مربعة، من دون شبابيك أو أثاث على الإطلاق، وتفوح منها رائحة البول، ويتسلل إليها نور خافت يأتي من مصباح «فلورسنت» معلَّق في السقف.

بعد حوالى نصف ساعة، أو هكذا بدا لي، فُتح الباب مرة أخرى وسلمني الحارس بيجاما نوم جديدة، وأخذ ملابسي وما كان معي: حقيبة يد وساعة. ومرة أخرى، بعد نحو نصف ساعة، فُتح الباب ليسلموني فراشاً من الإسفنج وإناءً فيه ماء. وعندما أحضروا الطعام، اعتذرت عن قبوله.

كانت ليلة طويلة، لم أذق فيها طعم النوم. تنتابني هواجس، وتتصارع في ذهني خيالات وأفكار غريبة.

في الصباح قُدِّم إلي الشاي، ورفضت مرة أخرى شربه، وذلك خوفاً من أن يكون قد دُس فيه مخدر، أو ما يشبه ذلك، وقُدِّمت إلي ملابسي وطلبوا مني الاتصال بعائلتي لتطمينها. واقتدت بعد ذلك إلى بناية المخابرات العامة، وكانت بناية «الحياة» في كرادة مريم، القريبة من القصر الجمهوري.

ومن غرائب الصدف، أنني وافقت على شراء هذه البناية من أموال الخطة الاقتصادية لتكون مقراً للمخابرات. وقد أشرفت وزارة التخطيط على تأثيثها وتنظيمها.

دخلت مكتب رئيس المخابرات برزان التكريتي، بحضور طاهر توفيق العاني، عضو القيادة القطرية ووزير الصناعة.

بادرني برزان، بعد عبارات المجاملة القصيرة، بأن لديه بضعة أسئلة يريد مني أن أجيب عنها جواباً صريحاً واضحاً. وكانت الأسئلة:

ـ اذكرْ ما كنت تردِّده في جلساتك الخاصة عن الوضع في العراق واتجاهات الدولة والحزب وعن كفاءة الحزبيين والرسميين مقارنة بكفاءتك؟

ـ اذكرْ ما كنت تقوله حول طريقة اختيار المسؤولين لاستلام المسؤوليات الحزبية والرسمية وكيفية خضوعها لمعايير طائفية؟

ـ تكلم عما كنت تتحدث به حول سوء التخطيط وعدم دراسة الجدوى الاقتصادية للمشاريع التي تُنفَّذ في البلد، وعن عدم الخبرة عند المسؤولين في الجانب الاقتصادي والتخطيطي في العراق، وأوضح بذلك الأشخاص الذين تقصدهم؟

ـ لقد ذكرتَ وتحدثتَ عن العمولات التي كانت تُؤخَذ نتيجة عدم الدقة في إحالة المشاريع الصناعية؟

أربعة أسئلة تشبه الأسئلة الامتحانية في المدارس الثانوية، وهي إن دلت على شيء، فإنما تدل على الأفق الثقافي والاجتماعي لمن وضعها، بحيث جاء السؤال الرابع غير مكتمل.

أربعة أسئلة علي الإجابة عنها... «بدون ترك»!! كان واضحاً أن الذي يقف وراء تلك الأسئلة وربما صياغتها، هو طاهر توفيق العاني عضو القيادة القطرية ووزير الصناعة. كان برزان هادئاً ومتزناً في كلماته، بل كان مجاملاً إلى أقصى الحدود، تاركاً الكلمة الشائنة والتعبير الفظ لـ «الرفيق» العاني، الذي اتهمني أولاً بأني قد سعيت إلى نقل مقر اللجنة الاقتصادية لغرب آسيا (الإكوا) التابعة للأمم المتحدة إلى بغداد، مع علمي بأن تلك المؤسسة هي مركز تجسس أمريكي!! ولما أعلمته أن الذي كان قد طلب جعل بغداد مقراً للمؤسسة هو صدام حسين، سارع إلى وصف صدام بالفارس العربي المقدام، وتغيرت ملامح وجهه.

وهنا تدخل برزان، قائلاً إنه لا يريد مني رداً مباشراً على الأسئلة، وناولني قصاصة ورق احتوت على تلك الأسئلة، وطلب مني أن أزوده بالرد مكتوباً.

عدت إلى المعتقل وفي جيبي ورقة الأسئلة، وهممت باتجاه الغرفة «رقم 7» غير أن الحارس اصطحبني إلى غرفة أخرى مؤثثة. وباتت المعاملة أحسن، حيث قُدم إلي طعام مقبول وسجائر، كما زُودت بأوراق وقلم لتقديم ردي على تلك الأسئلة.

كتبت الرد في صفحة كاملة، نفيتُ فيه نفياً قاطعاً ما قيل عني في تلك الاجتماعات، وجعلت الرد موجهاً إلى رئيس الجمهورية صدام حسين.

ولم تمض ساعات حتى فُتح باب الغرفة ليطل علي شخص سرعان ما عرفته: طويل القامة، مكفهر الوجه، وقال: هل عرفتني دكتور؟ أنا الذي كنت أعمل سائقاً في وزارة التخطيط، ولكني الآن، والحمد لله، أقوم بمهام وظيفية أخرى هنا: مهمة حماية الثورة والوطن من الخونة والمجرمين!! شد عيني بعصابة من قماش أسود، وقادني إلى مسافة ليست بالقصيرة، بين صعود وهبوط، حتى أدخلني إلى غرفة، وبدأ التحقيق معي من دون فك العصابة عن عيني.

كانت الأصوات التي تُسمع من الغرف المجاورة كافية لبث الرعب في النفس. فقد كنت أسمع صرخات التعذيب، ولا أدري إن كان المقصود أن أسمعها لتخويفي وبث الرعب في نفسي؟ أم أن هناك من يُعذَّب فعلاً؟

قام الشخص الذي يحقق معي بالتعريف برتبته العسكرية، «مقدم»، وقال: عندي أوامر من السيد الرئيس بعدم تعذيبك. وعليه أريد أن تعترف بشأن الأسئلة التي طُرحت عليك. وأخذ يسألني:

ـ كيف كانت علاقتك بالرئيس خلال استيزارك للتخطيط؟

ـ جيدة.

ـ من عُيِّن بعدك وزيراً للتخطيط؟

ـ عدنان الحمداني.

ـ تقصد المجرم عدنان؟!

ـ بطبيعة الحال، المجرم عدنان الحمداني.

ـ كيف كان التخطيط الاقتصادي في الفترة التي كنت فيها وزيراً للتخطيط!

ـ كان التخطيط جيداً.

ـ كلا، كان تخطيطكم «تخبيطاً»، ولكن حكمة الرئيس الفارس العربي هي التي أنقذت البلاد من مخالبكم أنتم الذين درستم في مدارس الإنجليز والأميركيين، أليس كذلك؟

ـ لا، التخطيط كان جيداً. والمؤتمر القطري لحزب البعث قد أشاد بذلك في مقرراته حينئذ.

ـ لا، لا، القيادة القطرية آنذاك كانت قيادة عميلة أمثال غانم عبد الجليل وعدنان الحمداني ومحمد عايش. كلهم أُعدموا. كلهم نالوا جزاء خيانتهم، أليس كذلك؟

وتوالت أسئلة أخرى، ولكن المحقق كان بشكل عام ينتقد جهاز التخطيط وأعماله. استمر التحقيق ما لا يقل عن الساعة، اقتدت بعده إلى غرفتي السابقة: الزنزانة «رقم 7»، وسحبت مني امتيازات الغرفة المؤثثة.

دخلت الزنزانة، والحارس يردد: ستبقى هنا إلى أن تتعفن وتموت!! وجاء يوم الأربعاء 24 تشرين الأول (أكتوبر) 1979. كانت الساعة تقارب الخامسة عصراً، فُتح باب الزنزانة ووقف أمامي مسؤول أمني قدم نفسه: العقيد مسؤول المعتقل. وبأدب جم، واهتمام بالغ، قال لي:

ـ أرجو أن تهيئ نفسك لمقابلة مهمة مع مسؤول مهم.

وطلب مني ارتداء ملابسي وحلق ذقني. والطريف أنه لم يكن هناك أداة حلاقة سوى آلة قديمة تستخدم الشفرات «الجيليت» القديمة، ولم يعثروا إلا على نصف شفرة، فأخذتها، ومع شيء من رغوة الصابون المعروف في العراق بـ«صابون الرقي»، حلقت ذقني قدر المستطاع متسبباً ببعض الجروح. وعدت ثانية إلى الزنزانة التي تُرك بابها مفتوحاً.

أقلتني عند الثامنة مساء، سيارة مرسيدس إلى مقر رئاسة المخابرات. أُدخلت مكتب برزان حيث استقبلني بالأحضان وهو يقول: أريد أن تعرف يا دكتور أن اعتقالك ليس بأمر مني. إنه بأمر الرئيس. أنت تعرف علاقتك بالرئيس وشعوره إزاءك. ألا تذكر مواقفه منك عندما كان نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة. ألا تذكر كيف أنه كان «يفرش لك العباية»، كلما أوشكت على السقوط بسبب المشاغبات ضدك وخاصة في الأيام الأخيرة للبكر. ولكن يا دكتور، نحن واثقون من الكلام الذي قلته ضدنا في أبو ظبي، غير أن الرئيس أمر بالإفراج عنك ونسيان الماضي.

بين شعور السرور بالانعتاق، ومحاولة رد التهم، قلت: يا أبا محمد، أنا لست عميلاً استعمارياً ولا خائناً، كما اتهمني طاهر العاني. وهنا قام برزان وقبلني، وقال: إن الوقاحة وقلة الأدب اللتين صدرتا عن طاهر هما تعبير عن رأيه الشخصي، وأرجو أن تحسبها علينا، وأن تعود الى مقر عملك وأنت تشعر بقوة أكبر. وتأكد من أننا سنبقى سنداً لك. وإذا رغبت في البقاء إلى الأحد القادم فيمكنني ترتيب موعد لك لمقابلة الرئيس.

خرجت الكلمات من فمي تسبق تفكيري: لا بد من العودة لوجود اجتماع السبت القادم، وإني كلي تقدير للسيد الرئيس.

أوصلني برزان إلى باب المصعد، ونُقلت منه إلى المعتقل مرة أخرى، لكن هذه المرة من مدخل ثان أكثر ترتيباً. أخذ المدير المسؤول في المعتقل يحدثني بشيء من المرح والمجاملة، وسلمني حقيبتي. وعند الساعة العاشرة والنصف مساءً، غادرت المعتقل بالسيارة إلى بيت عمي حيث وجدت أهلي وأقربائي مرحبين مبتهجين، ولكن من دون الشعور بالاطمئنان تماماً، إذ قد يغير «الجماعة» رأيهم ويعتقلونني في اليوم التالي. لذلك، قررت قضاء الليلة في منزل آخر.

صباح اليوم التالي، الخميس 25 تشرين الأول (أكتوبر)1979غادرت بغداد. ومن الطائرة أجلت بنظري على مدينة بغداد، لآخر مرة، وقلبي مليء بالمرارة والألم على بلد سُلِّمت مقدراته إلى مجموعة جاهلة، وتزداد جهلاً وعنفاً يوماً بعد يوم.

* تنشره «الشرق الأوسط» بالاتفاق مع «دار الساقي»