جولييت المير تروي حكايتها مع مؤسس الحزب القومي السوري (5) ـ احتكر جورج عبد المسيح بيتي وتسلط على أبنائي

المحكمة العسكرية عقدت جلساتها في بيت حسني الزعيم في دمشق * أكد لي قيادي حزبي أن اغتيال عدنان المالكي تم بمعرفة عبد المسيح * رفض هاشم الأتاسي توقيع مرسوم إعلان حالة الطوارئ رغم موافقة الحكومة والجيش عليه

TT

كنت اعطي افاداتي أمام قاضي التحقيق العسكري جلال عقيل منفردة، أي انني لم اجتمع برفقائي ولا مرة. وفي بعض الأحيان كان يحضر جلسات التحقيق بهجت مسوتي وغيره ممن لا اعرفهم. وكانت جلسة التحقيق تستغرق اكثر من ثلاث ساعات أحيانا، لكن المحقق لم يكن يدوّن كل الاجوبة، أما إذا فعل فقد كان التسجيل صادقا لا تحريف فيه. ولم اشعر مرة انه كان يستخفّ أو يهزأ بي مع العلم انه كان يحرجني في شتى الاسئلة الحزبية والعقائدية.

انتهى ذلك التحقيق، وقبل اقفاله دعاني المحقق لآخر مرة بحضور الأمناء كامل حسان وفؤاد الشواف وعصام المحايري وخالدة صالح وسألني ان كنت اريد اضافة أي شيء قبل اقفال التحقيق. وعندما رأيت الأمناء لأول مرة فرحت بهم على رغم علامات التعب والضعف البادية عليهم. قال لي المحقق: أنت تنكرين وجودك في البيت عندما وصل الخبر باغتيال عدنان المالكي، فهل هذا صحيح أم أنك كنت موجودة بالفعل؟ وأضاف: يجب ألا تخفي هذا الخبر لأن عواقبه ستكون وخيمة عليك. وتدخّل الأمين عصام قائلا: يصلح ان تغيّري افادتك لأن الموضوع بالنسبة لنا لا يتغير، فمن المحتمل ان تتذكري انك كنت في البيت حين اعلامنا بالخبر وهذا لا يربطنا بالحادث مطلقا! ولكني أصررت على انني لم أكن في البيت، ورفضت تغيير افادتي.

أُطلق سراح جورجيت الشيخ بعد اعتقالها لمدة عشرين يوما والتحقيق معها. كانت الشقة التي أُعتقلت فيها تضم اربع غرف، اثنتان منها تطلان على الشرفة الى خارج السجن والأخريان على الداخل ولهما نوافذ تطل على الباحة والادارة. واحدة من هاتين الغرفتين كانت لي. بعد اطلاق جورجيت سمعت حركة في الغرف الأمامية، ومع اني لم اعرف من كان فيها إلا انني كنت متأكدة انهن رفيقات قوميات. وفي آخر الممر الضيق كان يوجد حمام صغير يفصل بين غرفتي وغرفة أخرى أمامية، وكنت اركع على الأرض كلما سمعت وقع أقدام لأرى من تحت الباب وما إذا كان هناك أحد اعرفه. ولم يكن باستطاعتي مشاهدة أي شيء سوى القدمين فأحاول التخمين عن صاحبهما. وكلما سمعت حركة جديدة في الشقة، اركع واهمس بصوت منخفض: مَنْ هناك؟ في إحدى المرات كانت خالدة، وما ان سمعت صوتي حتى توقفت ونظرت من ثقب مفتاح الباب قائلة: أنا خالدة، مَنْ أنتِ؟ قلت: الأمينة. ردّت متسائلة: الأمينة؟ ثم اسرعت في سيرها. وعرفت لاحقا ان الحراس كانوا يراقبونها. وهكذا صرنا نتراسل بشتى الطرق. وأول رسالة رمتها لي من تحت الباب، وهي ذاهبة الى الحمام، اخبرتني فيها عن تفاصيل التحقيق معها في النظارة. وقالت ان العم (لقب جورج عبد المسيح) ترك معها مفاتيح الخزانات حيث الاسلحة، وفي التحقيق سألوها عن هذه المفاتيح فأخبرتهم الحقيقة. واضافت: العم نزل الى لبنان، وأنتِ لك اطفال صغار فقولي لهم إن الخزانات ليست لك طالما انه غائب وأنتِ في السجن.

استغربت لهذه الأكاذيب التي لم اعرف مغزاها، فلماذا يعطيها عبد المسيح مفاتيح لا تتعلق بخزاناتي التي هي مفتوحة في الأساس وليس لها مفاتيح باستثناء درفة واحدة تركت مفتاحها فيها! كتبت لها قائلة إن كلام عبد المسيح غير صحيح، إذ لا يوجد معه أي مفتاح خاص بخزاناتي.. بل وليس للخزانات مفاتيح! ولم افهم، حتى بعد المحاكمة، ماذا كان عبد المسيح يقصد بهذا الكذب. ولكني بدأت افكر كثيرا ولساعات طويلة، فأرى في بعض الاحيان ملامح من الغدر كنت احاول ابعادها عن ذهني مؤنبة نفسي على تلك الافكار.

في هذه الاثناء انشغلت الغرفة الأمامية لكني لم اعرف هوية المعتقلة فيها. وقد رغبتُ في رؤية ساكنة تلك الغرفة لمعرفة ما إذا كانت رفيقة أم لا، لذلك رحت أردد مقاطع من بعض الأناشيد القومية وانتظر فإذا سمعت متابعة لنفس الاغنية من الغرفة الأمامية تأكدت من انها رفيقة، فأركع على الأرض وانظر من تحت الباب الى باب الغرفة الأمامية التي يفصلني عنها أقل من متر. وبهذه الطريقة رأيت الرفيقة تيريز بلدي التي انتهزت فرصة غياب الحاجب وابتعاد الحرس عن الباب لتخبرني بصوت هامس ان البنات كلهن اصبحن في بيت مري. حينئذ تعمق شعوري بالاضطراب لأن اغلاط عبد المسيح واحتكاره هذا البيت وتسلّطه على بناتي ستدوم الى ما شاء الله، بينما أنا سجينة لا يدري أحد حقيقته، ولن يعرف أي انسان التفاصيل إذا ما قُتلت ذات ليلة. وقد قلت لتيريز في إحدى المرات: أنا لا أريد لبناتي ان يكنّ في بيت أي انسان كان.

لم تكن المقابلات مسموحة خلال الاشهر الثلاثة الاولى الى ان تم الانتهاء من التحقيق، وأظن ان ذلك كان بعد مرور 75 يوما على الاعتقال. أما تسلم أغراض من أهالينا فقد كان من المستحيلات في بادئ الأمر، لذلك بقيت بنفس الثياب التي أتيت بها الى السجن حوالي الاربعين يوما كنت خلالها اغسل كل ليلة قطعة لأعود وألبسها عند الصباح.. وهكذا. وفي نفس الغرفة ايضا كنت اطلب من عزت الماء الساخن حتى استحم في الليل، وكنت مضطرة لذلك ليلا لأنني كنت معرضة في النهار للزيارات الدائمة من قبل عناصر المكتب الثاني وبصحبتهم ضباط أو صحافيون وغيرهم كانوا يترددون عليّ بكثرة يوميا وكأنني صندوق الفرجة. لم اغضب منهم على رغم علمي بالخلفيات التي كانت تدفعهم لزيارتي، فكنت استقبل الجميع بابتسامة ورحابة صدر. لم أكن اعرف في ذلك الحين أحدا منهم حتى ولا بهجت مسوتي أو عبد المجيد جمال الدين. الكل كان يأتي وكأنه المنقذ، غير أنني كنت اعرف وجههم الآخر. فكنت اتجاهل ذلك طالما انهم يتعمدون اخفاء الحقيقة، بل يحدثونني بلطف وتهذيب الى حد انني لم اسمع في حياتي كلها عبارة ماذا تأمرين؟ و على عيني ورأسي بقدر ما سمعتها في ذلك الوقت.. لكن الأمر في النهاية كان أمرهم والعين ليست عينهم! أما الاسباب الحقيقية لهذه الزيارات فكانت الدعاية الصحافية للعهد الذي كان يطّهر البلاد من الشرذمة الذين هم القوميون! هذا العهد الذي ما نطق بكلمة واحدة صادقة عنا، ولا قدّم للأمة أية معلومة صحيحة، وما وزّع خبرا حقيقيا واحدا عني، ولم يكن يحمل إلا التناقض بين التكلم عني في الصحف والتكلم معي في السجن. هذه الأكاذيب كنا نعرف أولها ولا ندرك نهايتها. كانت آلات التصوير تدور في السجن لتلتقط الصور في غرفتي مرات عديدة لم اعد احصيها، لكن كلهم كانوا تجار أقلام! وعندما كثر التردد علينا من قبل الصحافيين، عمدت إدارة السجن الى استخدام الرفاهية المزيفة لدعم أكاذيبها في ما يتعلق بمعاملتنا. فكانت فرشة البولمان والحرامات الجديدة توضع على أسرّتنا حتى يتمكن المصوّرون من اظهار حسن معاملتهم لنا، لكن عندما انتهت المحاكمات سُحبت كل الحرامات والفرشات منا (هذا الأمر ارغمني على القول لمدير السجن ان هذه الأغراض أصبحت من حقي طالما انني ساهمت عبرها في صنع الدعاية لهم).

كيف جاءني قرار الاتهام؟

قبل ان يسمحوا لي بالزيارات، أتى عزت في احدى الأمسيات وهو يحمل جريدة مطوية. وقف يسألني عمّا اريد وحدّثني عن اشياء غير مهمة ثم ترك الغرفة. واستغربت أمره عندما ترك الجريدة وراءه. فتحتها، فإذا بقرار الاتهام وطلب الاعدامات يحتل الصفحة الأولى، وفي مقدمة الاسماء اسمي، وعلى رأس كل الحملات اسمي! وتبيّن لي ان كل شيء مهيأ ومركب من اساسه. وحتى ترك الجريدة في غرفتي كان مقصودا من قبل المدير. وعرفت بعد ذلك ان الملازمين بهجت وعبد المجيد سلماها لعزت ليدخلها الى غرفتي أو يُعطيني إياها، وكانا بانتظاره عند باب الشقة، حيث قالا له: خليّها تتسلى قبل النوم .

طبعا انفعلت، وكانت افكاري تدور حول بناتي، فبعد ان ينتهي دوري الآن يصبح بإمكانهم متى شاءوا اختراع رواية أخرى للقضاء على بناتي. وكنت مقتنعة بأن الهدف من كل هذه العمليات هو القضاء على أي أثر من بيت الزعيم.. لكني لم اعرف ان الفاعل هو عبد المسيح لأني لم اكن اطلعت بعد على افادات رفقائي المعتقلين.

بعد الانتهاء من التحقيق واقفال الملف واعطائنا قرارات الاتهام، سمحوا لنا بمقابلة أهالينا. جاء الى غرفتي أكرم الديري وابتسامة عريضة على وجهه وحيّاني باحترام وسألني إن كنت اريد شيئا لأنه أصبح مسموحا لنا بالمقابلات. قلت له: كيف أُخبر أهلي بذلك وأنا اعتقد بأن خط الهاتف في البيت قد قطع؟ وطلبت منه إن كان باستطاعته الاتصال بابنتي صفية في مدرسة الفرنسيسكان وابلاغها بأنه بات مسموحا لهم بزيارتي. فوعدني بابلاغها فورا، وهكذا كان. فقد أتت لزيارتي لأول مرة والدتي وشقيقتي ديانا، وعلمت منهما ان بناتي أصبحن جميعا في القسم الداخلي بمدرسة الفرنسيسكان تحت اشراف السفارة الارجنتينية كونهن من مواليد الارجنتين ويحملن جنسيتها. وعرفت ايضا ان أليسار نالت شهادة السرتيفيكا، وصفية نجحت الى الصف التالي. وطمأنتني والدتي الى اخبار راغدة التي كانت قد تهيأت لاجراء عملية اللوزتين عند الدكتور شاهين، لكن الجراحة تأجلت بسبب الاحداث ودخولي السجن. وقالت لي إن لورانس الخادمة أُعتقلت لأنها اعطت قطعة سلاح كانت في البيت لأحد القوميين.

بعد مرور اربعة اشهر حُددت أول جلسة للمحاكمة. ولم اعطِ هذا القرار اهتماما شديدا إذ تأكد لي ان المحاكمة ستكون علنية وذلك بعد ان زارني المحاميان سيف الدين مأمون وهاني البيطار لاكلفهما بالدفاع عني. وأكد لي سيف الدين انه لا توجد قضية ضدي ولذلك يجب ان لا اخاف من قرار الاتهام الذي سيسقط في المحكمة. وقال انه لن يتولى بنفسه الدفاع عني لأنه لا يوجد شيء مهم في قضيتي، بل سيسلّمها لهاني في حين يتولى هو الدفاع عن العسكريين لأن قضيتهم خطيرة.

وهكذا بدأت أول رحلة من الرحلات السبعين الى المحكمة العسكرية التي انعقدت في إحدى قاعات بيت حسني الزعيم الجديد في شارع الروضة الذي سكنه بعد تسلمه الرئاسة. وكانت القاعة ضخمة جدا وقد أُقيمت خصيصا في حديقة البيت الكبير لمحاكمتنا.

في هذه القاعة اجتمعت لأول مرة مع بعض الرفقاء ومن بينهم العسكريون. انتقلنا الى المحكمة في مصفّحة مع عزت حسين الذي جلس معي في المقعد الأمامي قرب السائق. وعند وصولنا الى باب المحكمة نزلت معه درج المصفّحة العالي، فإذا بجمهور غفير يتحلق على بعد أمتار منا في الشوارع والحدائق وعلى الشرفات والنوافذ، وقد خرجوا كلهم لمشاهدتنا عندما عرفوا بمجيء القوميين الى المحاكمة. وبين المحتشدين لمحت بعض الوجوه التي كنت اعرفها. دخلنا المحكمة، أو بالأحرى البيت، فوجدنا المحامين مجتمعين كلهم فأسرعوا إلينا لاخبارنا عن بعض الأمور والتفاصيل، ثم انتقلنا الى مكتب خاص برئيس المحكمة بدر الدين علوش الذي طلب اسماءنا. ولم أعد اذكر اسئلته في ذلك الوقت، لكن اللقاء كله لم يستغرق سوى دقيقتين. وهناك رأيت الرفيقين العسكريين منعم دبوسي وبديع مخلوف بين المتهمين ولم أكن اعرفهما من قبل، ولربما كنت رأيتهما سابقا ولكني لا أذكر ذلك. كان اللقاء منعشا جدا بعد ذلك التحقيق الطويل والعذاب المرير. كنا نتخيل ان رفقاءنا أموات اكثر منهم احياء، ولكن وجوههم لم تدل على أي انهيار معنوي أو عقائدي، فكانوا عندما يلتقون يرفعون أيديهم بالتحية القومية الاجتماعية في قلب قاعة المحكمة. ورأيت المحامي سيف الدين مأمون يتناقش مع الأمين عصام طالبا منه ان يغيّر افادته بحجة انه لا فائدة ترجى من الموقف الذي يتخذه، وفهمت انه يقصد تعديل الافادة التي اعطاها في المزة لصالح جورج عبد المسيح. وكان الأمين عصام يرفض هذا الكلام. أما أنا فلم أكن لافهم سبب موقفه، وكنت محتارة بسبب الهجوم الذي شنه على عبد المسيح، إذ انني حتى ذلك الوقت لم أكن متأكدة من معرفة عبد المسيح مسبقا باغتيال المالكي لأنني لم اتصل بأحد خلال فترة التوقيف ولم اطلع على افادات رفقائي. وذلك على رغم ان نفسي كانت مشمئزة من عبد المسيح وتصرفاته خصوصا في ما يتعلق بالأوراق الحزبية وغيرها من الاشياء التي تُركت في البيت، وحسبت الأمر اهمالا واستهتارا بي لا اكثر ولا اقل.

كان الأمين عصام، كما فعل معروف صعب قبله، قد وجّه رسائل الى رفقائنا في لبنان يتّهم فيها عبد المسيح بالاشتراك في تنفيذ هذه الجريمة. وجاء صحافيون الى غرفتي يسألونني ما إذا كنت أؤيد هذا الاتهام، فأجبتهم: أنا لا استطيع التعليق بشيء، وانني اجهل الأسباب التي دفعت الأمين عصام لتوجيه الاتهام الى عبد المسيح. ولعله يعلم اشياء اجهلها أنا. وبما انني اجهل كل ما يتعلق بالاغتيال، فكيف استطيع اعطاء رأي في ذلك؟

بدأ الاستجواب، وكنت أول من طُلب للمثول أمام المحكمة. طُرحت عليّ اسئلة اجبت عنها كلها وأنا متمالكة قواي العقلية والنفسية. ولا اذكر من تلك الاسئلة سوى: ما رأيك في اغتيال عدنان المالكي؟

أجبت: ان الاغتيال هو جرح بليغ في المجتمع ويترك ثغرة كبيرة فيه يصعب على الانسان تضميدها، فكيف يقوم السوري القومي الاجتماعي بهذا العمل وهو المكلّف من خلال مبادئه بأن يزيل الثغرات بين مختلف الفئات سواء كانت طائفية أو اقليمية أو عائلية.

س: ماذا كنت تفعلين يوم وقوع الاغتيال؟

ج: اشغال بيتية، إعداد طعام وترتيب ثياب وحمامات، وحضور اجتماع اذاعي.

س: هل أنت عضو في المجلس الاعلى؟

ج: نعم.

س: هل تَنتخبين وتُنتخبين؟

ج: نعم.

س: هل تأخذين مصروفك من الحزب؟

ج: كلا.

س: هل ان الحزب هو الذي قرر اعطاء أرملة ميشال الديك مرتبا شهريا بعد ان قتل رياض الصلح؟

ج: الأمين الياس جرجي كان يعيل شقيقته بعد وفاة زوجها، وعندما قرّر الزواج ولم يعد باستطاعته مساعدتها بعد ذلك لأنه لا يملك ما يكفي، عرض هذه المسألة على المجلس الاعلى الذي اتخذ قراره بناء على انها شقيقة الأمين الياس وليس بوصفها أرملة ميشال الديك.

س: من أين حصلت على المال لشراء المطبعة؟

ج: إن المكتب الثاني، وقد ضبط أوراق الحزب كلها ودفاتر المطبعة كلها وأرومة سندات الاسهم المعطاة للمشتركين، يستطيع ان يوضح كيف أتت هذه المبالغ. فأنا مديونة بخمسة وسبعين ألف ليرة لشراء الاسهم، وهي عبارة عن مبلغ خمسين ألف ليرة قبضتها لادفعها بعد خمس سنوات خمسة وسبعين ألف ليرة.. وهي واضحة.

س: في أي بنك كانت حساباتك؟

ج: في البنك العربي بدمشق.

وهنا تدخّل خليل كلاس من قبل الادعاء ليطرح السؤال التالي:

س: صرّح عصام المحايري بأن جورج عبد المسيح قام بعملية الاغتيال هذه، فهل هذا صحيح أم افتراء؟

ج: أنا لا اريد اتهام أحد من رفقائي، ويعود للمحكمة ان تكشف ما إذا كان هذا التصريح افتراء أم لا.

س: يعني انه افتراء؟

ج: قلت إن على المحكمة ان تقرر طالما ان الافادات بيدها.

تدخّل رئيس المحكمة قائلا لكلاس: ألا تسمع ماذا تقول، إنها لا تعرف وعلينا نحن ان نقرر.

وعاد خليل كلاّس يسأل:

س: هل يوجد خلاف بين المسؤولين في الحزب؟

ج: قد يقع خلاف بين اعضاء الحزب كما يحدث أي خلاف بين افراد العائلة الواحدة، لكن هذه الخلافات تبقى ضمن العائلة القومية الاجتماعية.

وبعد ذلك تقدم رفقائي واحدا واحدا حسب طلب المحكمة ليمثلوا أمام الهيئة. وكنا في قفص الاتهام حوالي الخمسين نواجه احكاما بالاعدام وغيره. كانت افادة منعم دبوسي وبديع مخلوف، حسب أوراق المحكمة، الاعتراف بتدبير المؤامرة والتصميم على القيام بها يوم عيد الجلاء، حيث كان عدنان المالكي يتهيأ ليلقي كلمته في مقهى قرب البرلمان على ما أذكر، وقال دبوسي في افادته إن العملية تأجلت.

وعند الساعة السادسة والنصف صباحا أتى اسكندر شاوي ليبلغهم انها غير مناسبة في ذلك اليوم لأنه عيد وطني.. وكان ذلك أول باب يفتح أمامي ليرتفع الستار عن تمثيلية جورج عبد المسيح.

وبعد ان تراجع دبوسي عن افادته لأنه وقّع اعترافاته تحت التعذيب، عاد ليجلس في قفص الاتهام فسألته: هل كان لرئيس الحزب معرفة بالعملية؟ اجابني: وكيف لا؟ فهل نقوم لوحدنا بهذه العملية؟ ولكن احفظي الأمر بيننا.

يا لها من جريمة! يا له من مجرم! وأخذت تتضح سلسلة الاعمال التي قام بها عبد المسيح وسبقت عملية الاغتيال. فإذا كان هذا الاتهام صحيحا، وكان مقررا تنفيذ الاغتيال يوم عيد الجلاء ثم تأجل، عندها ينكشف لماذا أتى جان عبد المسيح ليأخذ بناته من عندي يوم الأحد، يوم عيد الجلاء وعيد الفصح، إذ ان جورج أوعز اليه بهذا العمل خشية ان يكونوا في دمشق ساعة وقوع الحادث. وبات أكثر وضوحا أيضا وضع حقيبة هي طبق الأصل عن حقيبة أليسار يوم عيد الجلاء بالذات في احدى زوايا الغرفة حتى لا يشتبه بها أحد، وقد وُضعت دون علمي ودون سبب لانها لم تكن هناك في الأساس ولأن جورج لم يكن يعمل في بيتي الجديد مطلقا لا بتلك الأوراق ولا بغيرها.

وعدت اتذكر كيف غضب بشدة على شقيقته أنجال لأنها تأخرت عن موعد عودتها المتوقع عند الساعة الرابعة بعد الظهر، ولذلك تأجل العمل الاجرامي حتى لا تقفل الحدود أمام أنجال العائدة من القدس، كما ان عبد المسيح توتّر عندما أدرك انني علمت بوجود الحقيبة وقررت اخراجها من البيت، وهو الذي كان يأمل بأن يخدعني عندما قال لي: اتركيها فهي ليست هامة ، وراح يدور في البيت ذهابا وايابا قائلا بصوت مضطرب: اعطوني قنينة ماء، اعطوني رغيف خبز .. وظننت حينذاك ان الخوف على حياته أجبنه! بقي عليّ ان اعلم ماذا كان يقصد جورج عبد المسيح بتسليمي الى القوة العسكرية على طريقة الخيانة الكبرى؟ فهل يبقى مجال للدفاع ساعة أقع بين أيديهم في ظروف كهذه بعد عملية اغتيال؟ أيصدق احد انني لا اعلم بوجودها لو انها ضُبطت في بيتي؟ وهل دُسّت فيها أوراق خاصة بي أو بالزعيم؟ لا اعرف شيئا من ذلك لانني لم اطلّع على محتوياتها، فقد اقفلتها فورا عندما قرأت على احدى صفحاتها كلمة الجيش السوري .

قضيت أياما واشهرا وأنا اعيش مشاعر الصدمة من تلك الخيانة. كدت لا أصدق نفسي! ولكن كيف لا أصدق وأنا اعاني مع رفقائي مأساة تلك الخيانة والغدر. طيلة ساعات الليل والنهار كنت استرجع كل دقيقة من دقائق حياته في البيت، وفي تلك اللحظات كانت تهاجمني الاسئلة التي كنت ألقيها على نفسي البريئة وفيها الشكوك بصحة عقيدته، أسئلة تأتي الواحد تلو الآخر.. واضحة، صادقة، أليمة، لم يقع مثلها في تاريخنا. وبينما رفقاؤنا يذهبون الى الاعدام لا يزال هو يتظاهر بالبهلوانيات الفارغة! كيف استطيع ان اتجاهل ما علمته بنفسي ورأيته بعيني واعيشه الآن في السجون مع رفقائي الأبرياء؟

ولكن لماذا خطط عبد المسيح هذا المقلب الخطير للحزب؟

الاجوبة على هذا السؤال لا نهاية لها، فقد تكون وراء هذا العمل اشياء واشياء، القليل منها عرفناه والكثير لم نعرفه ولن نعرفه! فكيف نعرف أسباب جريمة هائلة كهذه؟

عندما افكر بالساعات الاخيرة التي اعقبت خبر الاغتيال، وكيف كان تعليقه الاول ان هذا دسّ من المكتب الثاني واستمر في الاجتماع حتى أتى فؤاد جديد شخصيا ليؤكد لهم صحة الخبر، وكيف انكر وجود أوراق سرية للحزب كنت بحثت عنها طيلة يومين ولم أجد لها أثرا. ترى أين كانت؟ ألم يعثر عليها عناصر المكتب الثاني خلال التفتيش؟ واعود لافكر ان من اراد هذا الشر بي، أليس من المعقول ان يكون دبّر سابقا خطة للقضاء عليَّ مع بناتي حين أصر على ذهابي في سيارته الى بيروت وكانت دون فرامل؟ من يدري؟ لكن الشيء الذي لن اعرفه هو ما إذا كان عبد المسيح قام بهذا الاجرام مدفوعا بهدف شخصي خاص أم كانت هنالك مؤامرة على الحزب تعاون هو في تنفيذها؟ لماذا اراد ازاحتي من الوجود وأنا لا انافسه على أي مكانة في الحزب؟ هل قرر عبد المسيح ضرب الحزب وشقه عندما شعر بأن المسؤولين يستعدون للتصدي له، وكان يشك في انني لن أكون في صفّه ولن اقف معه؟ ألم اقل له مرات عدة انه، هو وغيره، ليس الأهم في الحزب، بل ان وحدة الصف هي الشيء الضروري الذي اسعى له دوما؟

تابعنا في المحكمة جلسات لا نهاية لها. وعندما انتهى أول تحقيق وبدأ صدور الاحكام كان قد مر على اعتقالنا ثمانية اشهر صدر في نهايتها الحكم الذي كنا نعرفه كلنا، وهو يقوم على تُهم شتى لم تكن داخلة في قرار الاتهام. صدر حكم وجاهي بالاعدام على دبوسي ومخلوف وجديد الحاضرين في قفص الاتهام، وغيابي على الهاربين عبد المسيح وغسان جديد واسكندر شاوي وسامي الخوري وغيرهم. وكان الحكم بالسجن 17 سنة مع الاشغال الشاقة للأمناء فؤاد الشواف وعصام المحايري وكامل حسان وأنا، مع زيادة الاقامة الجبرية في تدمر مدة خمس سنوات ثم النفي والابعاد الجبري.

عندما دخلنا السجن كان العسكريون من الأحزاب المعادية قد قرروا ابادة الحزب واعدام جميع المسؤولين فيه، خصوصا الأمناء. ولذلك ارتأوا، بعد الاعتقالات والاضطهادات وبعد ان ملأوا السجون بالقوميين الاجتماعيين، ان اعلان الاحكام العرفية يساعدهم في تنفيذ الاعدامات بالجملة، فأعلنوا الحكم العرفي ووافق عليه كل من رئيس الاركان شوكت شقير ووزير الدفاع ورئيس مجلس الوزراء صبري العسلي، أما التصديق النهائي عليه فكان لرئيس الجمهورية في ذلك الوقت المرحوم هاشم الأتاسي. ولكن عند وصول القرار اليه رفض ان تخضع البلاد للحكم العرفي لمجرد وقوع حادث اغتيال، واعتبر ان العدالة تستطيع ان تأخذ مجراها من دون تصعيد الأمور ووضع البلاد كلها تحت الاحكام العرفية التي ستؤدي الى عواقب وخيمة، وبالتالي امتنع عن التصديق على القرار. فاضطر العسكريون للعودة الى المجلس الوزاري، حيث تقرر تعيين هيئة محكمة جديدة مكلفة خصيصا بالنظر في قضية اغتيال عدنان المالكي وما تفرع عنها. وكانت الهيئة مؤلفة طبعا من اخصام الحزب اللدودين وهم عسكريان ونائب عام عسكري ورئيس المحكمة المدني والعسكريون المستشارون، على اليمين كان عفيف البزري الشيوعي المعروف، وبشير الطباع الصديق الحميم لعدنان المالكي على اليسار، والنائب العام محمد الجراح المشهور بحملته علينا اثناء الاعتقالات وخلال المحاكمة، وكان القاضي المدني بدر الدين علوش رئيسا للمحكمة.