من أوراق وزير خارجية السودان قبل مغادرته منصبه (1)

مصطفى عثمان إسماعيل: البشير كان ضد احتلال الكويت والترابي مع العراق

TT

رغم صيرورة الزمن وتواتر التغيرات وتنوع الاحداث وتربعها على المسرح الدولي، إلا ان احداثا بعينها تبقى في ذاكرة الشعوب عصية على النسيان.

تناول الدكتور مصطفى عثمان اسماعيل في مذكراته قبل مغادرته لمنصبه في وزارة الخارجية القرارات والتصريحات الخطيرة التي اتخذت في بدايات حكم «الانقاذ» وافضت لضربات موجعة للسودان واهله، ولكن أحدا وقتها لم يكن على علم من وراءها، هل هو الحاكم في القصر؟ أم الذي يتوارى خلفه ويرسم السياسات ويدفع بها للامام من دون تحوط أو حذر من نتائج قد تكون صعبة ووخيمة؟ ويكشف الدكتور مصطفى عثمان لـ«الشرق الأوسط» ملابسات القرار السياسي الرسمي لحكومة «الانقاذ» في السودان حول أزمة الخليج والاختلاف في الرأي بين الرئيس عمر حسن البشير ونائبه السابق الدكتور حسن الترابي حول احتلال الكويت والموقف المؤيد للعراق. ولعل ضرب مصنع «الشفاء» للأدوية في الخرطوم يتدرج تحت هذه القائمة وان سقوط صواريخ كروز على هذه المؤسسة الانسانية قد حمل في مضامينه اشعارا بسقوط اسطورة راسخة في أذهان الكثيرين بأن اجهزة المخابرات الاميركية بلغت مدى من امتلاك ناصية المعلومات.

* القرار الأخطر في بدايات حكم «الانقاذ» والذي الحق الضرر والأذى بالسودان تمثل في التعامل مع حرب الخليج مطلع التسعينات، وظل الغموض التام يلف هذا القرار ومبرراته ودوافعه، وأحيط بالسرية والكتمان بالنسبة للجهة التي اتخذته.

وبعد أكثر من عشر سنوات حادة وصعبة، وفي مارس (آذار) 2002 كشف مفكر وقيادي إسلامي بارز «الدكتور الطيب زين العابدين» جانبا من السر عندما روى انه في لقاء بعد أداء صلاة الجمعة في منزل قيادي إسلامي بأمدرمان التقى فيه نخبة من قيادات الحركة الاسلامية وذلك بعد اجتياح العراق لدولة الكويت عام 1991 وأنه تصدى في ذلك اللقاء بالنقد لسياسة الحكومة بتأييد العراق، ودافع الدكتور حسن الترابي بقوة عن تلك السياسة التي كان عرابها من وراء الكواليس.

وكان الترابي واضح الرؤية في انها ستجر على السودان غضب الولايات المتحدة وقال: ينبغي ان نحتاط لذلك الغضب بسياسة نبع، زرع، رفع، وأوضح ذلك بقوله: ندرب آلاف الشباب على حمل السلاح للدفاع عن النظام في السودان والذي تطور لاحقا لفكرة قوات الدفاع الشعبي، وتكثيف زراعة القمح حتى لا يعتمد السودان على دقيق أو قمح يأتي من الخارج وبالتالي جاء مقترح زراعة القمح في مشروع الجزيرة الذي انشيء قبل أكثر من ثمانين سنة خصيصا لزراعة القطن وتصديره، ومن وقتها لم تقم للمشروع قائمة بالنسبة لشهرته في زراعة القطن. ونجتهد في استخراج البترول حتى يتمكن الاقتصاد من تحمل تبعات الحصار المتوقع على السودان، ولقد كان مثيرا للانتباه ان الدكتور الترابي عرف مبكرا مغبة القرار وأثره على السودان بما فيه الاقدام على محاصرته، وقال الأكاديمي في شهادته: انه لم تكن تنقص الشيخ الرؤية الثقافية لمآلات السياسة، لكنها اختلطت بقدر غير قليل من التهور والغرور.. سامحه الله وعافاه في محنته الحاضرة ـ وكان في فترة الاعتقال التحفظي ـ هكذا سجل المفكر الاسلامي.

صراع الشعارات الرسمية والشعبية

* قال الدكتور مصطفى عثمان في شهادته، انه في تلك الفترة 1990 ـ 1991 كانت الخرطوم تعبر عن الشعارات الرسمية والشعبية، حيث كان هنالك تداخل شديد بين ما هو رسمي وما هو شعبي، وما هو مطلوب وما هو متجاوز، وما كانت الفواصل في الحكم الجديد قد وضعت بصورة واضحة، وبالتالي فإن القيادة السياسية غير المعلنة ممثلة في الدكتور حسن الترابي وأعضاء الجبهة القومية الاسلامية غير المشاركين في الحكومة، أو الاطار الرسمي الممثل في رئيس مجلس قيادة الانقاذ الفريق عمر البشير وأعضاء المجلس العسكري وكانوا معاً يشكلون أساس القرار السياسي في القضايا المختلفة، ولكن الدكتور الترابي باعتباره المفكر الذي وقف وراء النظام كانت لديه دائما اراء ورؤى خاصة في القضايا الفكرية التي تطغى على سواها وتتجاوز أحيانا الموقف الرسمي المطلوب.

انسجام الموقف مع الرئيس البشير

* ويذكر الدكتور مصطفى في مذكراته «جاءت قناعتي واضحة بعدالة قضية الكويت وأهل الكويت الذين احتلت أرضهم وأخرجوا من ديارهم من دون وجه حق وفي سابقة خطيرة ليست لها نظير في المنطقة».

كما ان هذا الموقف كان منسجما تماما مع الموقف الذي اتخذه الرئيس عمر البشير في قمة القاهرة العربية والذي طالب فيه بخروج القوات العراقية من الكويت وعدم الاعتراف بأي نظام أو حكم في الكويت سوى النظام الشرعي القائم بقيادة الشيخ جابر الصباح حاكم الكويت، وكان من رأي الرئيس البشير في القمة العربية إتاحة الفرصة لامكانية معالجة القضية عربيا، وسحب القوات العراقية فورا ومن دون إبطاء من الكويت في اطار ومفهوم البيت العربي، وبمعنى آخر إعطاء الأسبقية للمعالجة العربية برفض الاحتلال وانسحاب القوات العراقية وعودة الشرعية الحاكمة وعودة أهل الكويت الى أرضهم وبيوتهم والحيلولة دون التدخل الأجنبي في المنطقة، وفي هذا الاتجاه طرح قادة آخرون رؤيتهم ومنهم الملك حسين عاهل الأردن والرئيس الليبي معمر القذافي، ولكن طبيعة الظروف والتطورات آنذاك والتداخل الاقليمي والدولي بدا كأنه في سباق لحسم الموقف من الغزو العراقي.

رفض احتلال العراق للكويت

* ورغم الاشارات التي نبهتني لخروجي على القرار السياسي، لكني في الواقع انسجاما مع الحق والشرعية والمبدأ ورؤية الرئيس عمر البشير وهي مغايرة تماما لرؤية وموقف الدكتور حسن الترابي، اتخذت ثلاثة مواقف، أولها انني شاركت في مؤتمر نصرة الكويت الذي عقد في الشارقة بعد أشهر قليلة من احتلال العراق للكويت، وألقيت خطابا عبرت فيه باسم شعب السودان عن المعاني التي ذكرتها برفض الغزو العراقي واحتلال الكويت ووجوب انسحابه وعودة الشرعية الكويتية للوطن الكويتي.

ثانيا: بعد اقل من شهرين من انعقاد مؤتمر نصرة الكويت في الشارقة، دعوت وفدا كويتيا شعبيا وكان يضم وزير الدولة بالخارجية سعود العصيمي، والنائب في البرلمان الكويتي خالد الدويلة، وقد استقبل الوفد الكويتي استقبالات شعبية حافلة لدى وصوله للخرطوم، وأقيم له احتفال في المجلس الوطني في أمدرمان حضره ألوف السودانيين وخاطبه رؤساء نقابات سودانية وهي نقابات الأطباء، والمهندسين، والأدباء، والمعلمين، وجاءت كلماتهم داعمة لرفض الاحتلال العراقي ومطالبة بجلائه ومساندة الشرعية الكويتية والشعب الكويتي، ورتبت لهذا الوفد الكويتي لقاء مع المسؤولين الرسميين ومع النائب الأول اللواء الزبير محمد صالح والعميد عثمان احمد حسن رئيس اللجنة السياسية لمجلس قيادة الانقاذ في ذلك الوقت، وكذلك بصفتي وزيرا برئاسة الجمهورية وأمينا عاما لمجلس الصداقة الشعبية العالمية استقبلت وفد الأسرى الكويتيين وتبنيت قضيتهم وشكلت لجنة برئاسة المشير عبد الرحمن سوار الذهب رئيس المجلس العسكري السابق، والسيد أبيل الير نائب رئيس الجمهورية الأسبق وغيرهما من الشخصيات الوطنية البارزة وظللنا نعمل باستمرار لمعالجة قضية الأسرى الكويتيين، وهي التي كانت وراء زياراتي للعراق في محاولة لاقناع صدام حسين باطلاق سراح الأسرى الكويتيين وتسليم القوائم الخاصة بهم، وقد تسلمت القوائم بعد جهد كثيف وصبر أشد كثافة، وقد رفضت وقتها الاستماع لما نقله لي مسؤولون عراقيون بأن هذه الملاحقة أخذت تضايق صدام حسين وقد تنجم عنها أثار سالبة، ولكن في نهاية الأمر حصلت على قوائم الأسرى الكويتيين وسلمتها للأمانة العامة للجامعة العربية في القاهرة.

الترابي قاد المحور الآخر

* وكانت تلك الجهود بارزة للعيان في تلك الفترة بينما قاد الدكتور حسن الترابي محورا آخر خاصا بالعلماء ورؤساء الحركات الاسلامية حيث قاموا بجولة في المنطقة للتعبير عن رفضهم لدخول القوات الأجنبية، الأمر الذي لم يكن موضع رضى او ارتياح او قبول من جانب حكومات دول الخليج، وجاء تفسيرها آنذاك ان موقف السودان هو بجانب العراق وليس مع الموقف الخليجي والكويتي ولأنهم لم يكن يقبلون بأنصاف الحلول أو انصاف المواقف «فإما معهم وإما ضدهم»، ولذلك اعتبروا السودان من دول الضد.

المنطق الأخرس في حادث ضرب مصنع الشفاء

* لقد أقدمت الولايات المتحدة، دونما ادنى مسحة شرعية او سند قانوني معلوم بقصف مصنع الشفاء للادوية بالسودان في امسية الخميس الموافق العشرين من اغسطس 1998م بصواريخ كروز وعللت الولايات المتحدة تصرفها ذلك بأن الغرض منه تدمير مصنع يقوم بانتاج الاسلحة الكيماوية لصالح اسامة بن لادن، (بينما الواقع هو ان المصنع ليس له صلة البتة بالمذكور، وانه مصنع ينتج الادوية البشرية والبيطرية). هذا بالطبع استنادا الى معلومات مشكوك في اصلها ومصدرها، وعلى خلفية انه قد سبق للولايات المتحدة ان قامت بوضع السودان في قائمة الدول الراعية للارهاب وفرضت عليه جزاءات اقتصادية بما في ذلك منع صناديق التمويل الدولية من التعامل معه.

لم يكن بين يدي الادارة الاميركية ادنى دليل يبرر حتى مجرد الشك، ناهيك عن معطيات وحيثيات وقرائن وادلة دامغة تبرر القيام بعمل عسكري انفرادي لمحو مؤسسة انسانية بحالها من الوجود. والسؤال هو: هل كان هذا التصرف الأميركي الاحادي يسنده القانون الدولي؟ وهل كان دفاعا عن النفس في اطار المادة الحادية والخمسين من ميثاق الامم المتحدة؟

اننا اذا افترضنا جدلا تطبيق الضوابط والشروط المتعلقة بحق استخدام التصرف الفردي من قبل الدولة وفقا للميثاق وللقواعد العامة للقانون الدولي، فان ذلك التصرف الاحادي لا يمكن منحه سندا قانونيا اذ ان المادة الحادية والخمسين تقر ذلك اذا حدث اعتداء مسلح على الدولة بصورة مباشرة.. فهل اجتازت جيوش السودان الاقاصي والمحيطات وغزت ارضا اميركية؟

صحيح انه وقع اعتداء مسلح على الولايات المتحدة ممثلا في (تفجير سفارتيها في نيروبي ودار السلام)، لكن هذا الاعتداء لم يثبت اي ضلوع للسودان فيه.. كما انه لم يكن يوجد ما يثبت ان هناك مجرد احتمال هجوم وشيك من السودان على دولة تفصلنا عنها محيطات وبحار. كما ان الولايات المتحدة لم تلجأ لمجلس الأمن لكي تعالج المسألة عن طريق السلطات المخولة للمجلس وكان لديها القدرة والوقت الكافي للقيام بذلك، يضاف الى ذلك انها لم تطلب من (السودان) تصحيح الوضع او الاجابة على شكوكها وتساؤلاتها او حتى تقديم دفاعاته واسانيده حول التهم الموجهة اليه.

هذا بالطبع بالاضافة الى ان الولايات المتحدة لم تقم بتوظيف ثقلها الاستخباري الضارب بتجميع المعلومات الاستخبارية المقنعة التي تؤكد ايلولة المصنع المذكور لاسامة بن لادن (المتهم بان تنظيمه كان وراء تفجيرات نيروبي ودار السلام)، بحيث انه سرعان ما تهاوت حججها وتبريراتها لقصف المصنع امام تيار الحقائق الجارف ممثلا في مرافعات الدبلوماسية السودانية.

ان لجوء القطب الاوحد المتكرر الى التصرفات الاحادية يمثل في تقديرنا خللا كبيرا في القيام بالتزاماته التي يفرضها وضعه الريادي في العالم، حسب ما تذهب اليه نظريات الهيمنة التي يروج لها المنظرون الأميركيون، علاوة على ان ذلك خروج صريح على اهداف الامم المتحدة التي رعت وتزعمت قيامها الولايات المتحدة، وقد لخص ذلك الرئيس فرانكلين روزفلت في مخاطبته للكونغرس بعد عودته من مؤتمر يالطا في نهاية الحرب العالمية الثانية حيث قال: ان اتفاقية يالطا والتي كان احد مهندسيها، رسمت مبدأ حق النقض (الفيتو) لمجلس الأمن (تعلن عن انتهاء نظام التصرف الاحادي) وها نحن نرى العالم يقف صامتا كشواهد القبور امام تصرف احادي طائش تقوم به الولايات المتحدة التي كانت بالامس تنادي بعكسه تماما وبالطبع فان هذا من شأنه اضعاف النظام العالمي وبالتالي انتشار التصرفات الاحادية من قبل القوى الكبرى (دولية واقليمية) وان الخاسر الاكبر في ذلك هو الدول الصغيرة والمستضعفة، فاذا ما اردنا نظاما عالميا يحقق العدالة والسلم والاستقرار فلا بد من الوصول الى تفاهم يحد من قدرة الدول القوية الى اللجوء الى التصرف الاحادي، والى تعاهد يمكن من مساءلة الدول القوية سواء بسواء مع الدول الضعيفة والتي تنتهك اسس العدالة وبغير ذلك فان النظام والمجتمع الدولي سينزلق الى فوضوية لا تحمد عقباها وستكون الانسانية جميعا الخاسرة بقويها وضعيفها، لكن تتجاوز القضية مستوياتها القطرية وحتى الاقليمية عندما نطرح السؤال الاكبر والاهم وهو:

دور المنظمات الدولية

* ان تأسيس المنظمات الدولية على اختلاف انواعها ومستوياتها ووظائفها، جاء باعتبارها الآليات الامثل لعلاج قضايا تحديات العالم المعاصر، بعد ان قطع شوطا بعيدا على صعيد النهوض العلمي والتقني، بل حتى على الصعيد النظري، خاصة اذا ما نظرنا الى الكم الهائل من النصوص والاتفاقيات والمعاهدات التي تؤطر لعالم متحضر يسوده العدل والاستقرار والسلم وتقوم فيه مقامات الدول من خلال موقعها من هذه المنظمة او تلك او من خلال معايير السيادة الوطنية ولعل القرن الماضي وبرغم تنامي بؤر الحروب والنزاعات فيه، وشهوده حربين عالميتين، الا انه قد اتسم بدور ملحوظ للمنظمات الدولية في كل ما يتصل بأعضاء الجماعة الدولية، وطبيعة موازين القوى القائمة وقتذاك، وقد تساءل كثير من الساسة والمراقبين عن ماهية الدور الذي سيسمح به النظام الأحادي للمنظمات الدولية وبخاصة الأمم المتحدة، بل ذهب البعض الى ان الأمم المتحدة ربما تتحول الى مجرد (وكالة كبيرة للغوث الانساني وعمليات حفظ السلام) مع دور محدود على صعيد القضايا العالمية مثل حقوق الانسان، التنمية المستدامة، محاربة الفقر الى غير ذلك. ولعل أصحاب هذه المدرسة يجدون قدراً من التبرير في كل ما ذهبوا اليه اذا ما أخذنا في الاعتبار الطريقة التي تم بها ضرب مصنع الشفاء بعمل انفرادي من دولة هي الأقوى في العالم، وضد دولة عضو في الأمم المتحدة ودونما غطاء شرعي أو حتى مبرر منطقي، وقد جاء هذا العدوان ليكمل الصورة تماماً فيما يتعلق بتشكيل واقع دولي جديد ينحسر فيه دور المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة، ويعلو فيه صوت القوة العسكرية على صوت القانون الدولي والانساني وسائر الاعراف الدولية الاخرى.

ان دور الأمم المتحدة، ومدى حضورها وفعاليتها في كافة القضايا والنزاعات قد مر عبر ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: وتمتد من عام 1945 تاريخ انشاء المنظمة وحتى عام 1985م ويرى بعض المفكرين ان هذه المرحلة يمكن التمييز من خلالها بين مرحلتين هما:

* مرحلة القطبية الثنائية الجامدة من (1945 ـ 1971).

* مرحلة القطبية الثنائية المرنة من (1971 ـ 1985).

المرحلة الثانية: وتبدأ منذ وصول الرئيس الروسي السابق غورباتشوف الى سدة السلطة وحتى اندلاع حرب الخليج الثانية (1990 ـ 1991) وما تلاها من تداعيات كان حظ السودان منها كفلاً مقدراً على صعيد علاقاته الخارجية بصفة عامة، وعلاقاته مع دوائر انتمائه المباشر العربية والاسلامية والأفريقية بصفة خاصة.

المرحلة الثالثة: وتبدأ بإنهيار القطبية الثنائية وانفراد قطب واحد بمقاليد الأمور في الكوكب هيمنة ونهياً وأمراً.

ومن خلال قراءتنا لدور الأمم المتحدة خلال المراحل الثلاث المشار إليها نجد ان ثمة انحسارا، بل غيابا كاملا في كثير من الاحيان للأمم المتحدة في قضايا تمس شرعية الدول، ومع تسليمنا بأهمية قضايا البيئة، والأمراض المستوطنة، وحقوق الانسان، إلا ان الدور المحوري للأمم المتحدة في تقديرنا هو صون الأمن والسلم الدوليين حتى لا يحتكم الأقوياء الى قانون الغاب ضد الضعفاء، ولعمري فقد جاءت ضربة مصنع الشفاء بمثابة اماطة اللثام عن الوجه الحقيقي للنظام الدولي الجديد. وصحيح ان الأمم المتحدة، وحتى في فترة الثنائية القطبية قد وقفت عاجزة أمام العديد من القضايا التي ظلت مدرجة على جدول أعمالها منذ ذلك التاريخ وحتى اللحظة، لكن عجزها لا يعني غياب دورها بالكامل، مثلما شهدناه في نهايات الألفية الثانية وبواكير الألفية الثالثة.

كذلك فقد انعكس تضاؤل دور الأمم المتحدة على صعيدها الداخلي، فبرزت قضايا داخلية في ظل تدخل الدول الكبرى في الاختصاصات الفنية والادارية للمنظمة ومؤسساتها الفرعية مثل أزمة تنازع الاختصاص بين الجمعية العامة ومجلس الأمن في القضايا التي تتعلق ببعثات حفظ السلام وصون الأمن الدولي، بل بدأت بعض الأصوات لا تتردد في التشكيك في مشروعية القرارات التي اصدرتها اجهزة الأمم المتحدة تحت بنود حفظ الأمن والسلم الدوليين (ولعلي اشير هنا الى موقف الولايات المتحدة من قرارات الأمم المتحدة حول قضية فلسطين وآخر ذلك كان استخدامها لحق النقض ضد قرار يشير الى الممارسات الاسرائيلية التي تمس حقوق الانسان للشعب الفلسطيني ويشير الى خرق اسرائيل لاتفاقية جنيف الرابعة).

وبالرغم من أن في ذلك تحديا صريحا لقرارات عديدة صدرت من الجمعية العامة في السابق مؤكدة على هذه المضامين، الا انه وفي ظل القطبية الأحادية يصبح يسيراً جداً ان تجرؤ الولايات المتحدة على مثل ذلك، وبالطبع لا أحد يستطيع أن يعترض.

انها (سطوة القوة وليست سلطة القانون)، وطالما ان المنظمات الدولية بكافة مستوياتها تقوم مبدأ على سلطان القانون واحترام الاتفاقيات والمعاهدات، فمن الطبيعي جداً ان يصبح مفهوم الشرعية الدولية غير ملتفت اليه بالرغم من بروز عدد من المخالفات الصريحة والصارخة لقواعد القانون الدولي واحكام ميثاق الأمم المتحدة، ولعلنا اذا ما عدنا الى الوراء ثمانية اعوام فقط من حادثة ضرب مصنع الشفاء وجدنا ان العالم بأسره قد تداعى في تحالف عريض بغرض تطبيق قواعد الشرعية الدولية بصورة جماعية وتحت رعاية الأمم المتحدة حرب الخليج الثانية ولعلنا نقول ان انتهاك الشرعية الدولية في عرف القانون الدولي صريح ولا يحتمل المداراة أو التمويه فماذا نسمي استخدام القوة العسكرية في ضرب بلد وانتهاك سيادته ودونما ادنى سند قانوني أو غطاء شرعي؟ انه انتهاك الشرعية الدولية في أوضح صورة، ولكن يبدو أن الموازين قد تعددت، وأصبح للقوي مكيال بقدر قوته، وللآخرين مكاييل بحسب قدراتهم، وقد شهدت تلك الفترة اصواتاً تنادي (بدور جديد لمجلس الأمن وتوسيع صلاحياته) ولعلها شعارات قصد من خلالها تسخير المجلس لخدمة أهداف ومآرب الدولة الكبرى، وبالطبع فإن بقية الأجهزة التابعة للمنظمة لن تسلم مستقبلاً من التدجين والتطويع حتى لا يعلو صوت على صوت القوة العظمى في شتى القضايا العالمية.