مذكرات شريف بسيوني الحلقة (2): الهروب الكبير نحو أميركا

لم يكن لدي جواز سفر وكنت ممنوعا من المغادرة فأنقذتني المصادفة وبحار إيطالي

صورة خاصة أهديت لبسيوني من قبل أربعة رؤساء جمهورية سابقين في أميركا من اليسار: رونالد ريغان وريتشارد نيكسون وجورج بوش (الأب) وجيرالد فورد
TT

عندما سألت البروفسور محمود شريف بسيوني أول مرة، عن الحادثة التي خلفت العلامة الأعمق في حياته، ولا يمكن أن ينساها أبدا، قال ومن دون تردد، إن عزله وحبسه الإجباري الذي استمر لسبعة أشهر في شقته، ترك أثرا عميقا في نفسه، وعلمه الدرس الأول في مجال حقوق الإنسان، وأفهمه معنى التعذيب وقسوته. كما جاء في حلقة أمس. وذكر بسيوني أن هذه التجربة علمته أن التخويف النفسي تعذيب أيضا. بعد خروجه من هذه التجربة وجد نفسه وحيدا معزولا، في عالم واسع، وموانع جعلته مقيدا، إلى أن التقى برجل أعمال فتح أمامه الباب نحو استثمار علمه وخبرته في مجال التجارة، ومنها تحول الى الزراعة، إلى أن دعته والدته المصابة بالسرطان للالتحاق بها في أميركا ليكون إلى جانبها حيث كانت تستعد للخضوع لعملية جراحية صعبة. تمكن من الحصول على جواز سفر وتسلل الى باخرة وهرب إلى نيويورك. في هذه الحلقة يروي بسيوني التفاصيل.

في يوم ما، بينما كنت أتجول بمفردي في المنطقة التي أعيش فيها وهي «غاردن سيتي» في القاهرة، ينتابني شعور بالوحدة والعزلة، توقفت سيارة كبيرة سوداء بمحاذاتي، وفتحت النافذة الخلفية لها، ونظر إلي شخص أجنبي وقال: «ألست شريف ابن إبراهيم وأمينة؟»، أجبت بنعم. وذكرني بنفسه. وكان رجل أعمال اسمه برونو بنتو، كان من عائلة إيطالية من كبار رجال الأعمال في مصر. كانوا يمتلكون ثالث أكبر شركة لإنتاج القطن في مصر وتصديره، وخامس أكبر شركة للاستيراد لأنواع مختلفة من المواد والسلع من الخارج. وسألني: «ماذا تعمل؟»، أجبت: «لا شيء»، فنزل من السيارة وقال: «كيف؟ أنت من عائلة جيدة، وتتحدث لغات أجنبية عدة، ودارس في أوروبا، ولديك كل الإمكانيات، أليس من العيب أن تبقى بلا عمل؟». كان يظن أن الأمر اختيار بالنسبة لي وأنني من الشباب المدللين، فلم أستطع أن أبرر أو أجيب، فقال إنه يحتاج من يساعده في شركته التي كانت وقتها كبيرة ويعمل فيها 165 موظفا. ولم أتمكن من الرد أو توضيح أنني ممنوع من العمل، ولم يترك لي مجالا للرد، وقال إنه سيمر ليأخذني في طريقه صباحا إلى العمل، وعلمت بعدها أنه يسكن على بعد شارعين من منزلي.

نزلت صباح اليوم التالي أمام بيتي الساعة الثامنة والنصف صباحا، كما تواعدنا، واصطحبني إلى مكتبه. وكنت أتكلم وقتها ست لغات، وسافرت إلى جميع أنحاء العالم مع والدي ووالدتي، فكان لدي رؤية مفيدة لشركة تقوم بالاستيراد والتصدير، ولها اتصالات مع أناس في الخارج. فبدأت العمل، لكن بعد يومين دعاني صاحب الشركة لمكتبه وقال لي إن شخصين زاراه وأبلغاه أنهما من جهة حكومية معينة وقالوا إنني ممنوع من العمل. ولأنه إيطالي ومولود في إيطاليا وعائلته من ثلاثة أجيال موجودة في مصر فلم يكن يفهم ما يحدث، فطلب أن يرسلوا له خطابا كتابيا يفيد بأنني ممنوع من العمل ليفصلني، لكن لم يقبل بالقيام بذلك اعتمادا على مجرد قول.

ثم سألني عن السبب، فكرت بماذا سأجيبه، وأحرجت من التحدث في موضوع التعذيب، ليس لأي سبب بل لأني كنت أرى في ذلك إهانة لبلدي، فلم أستطع التحدث إلى شخص على الرغم من أنه عاش عمرا في مصر لكنه أجنبي، لكن الشيء الوحيد الذي خطر لي وهو شيء رأيت أنه بسيط جدا هو أنني عندما كنت ما زلت مرتديا الزي العسكري أثناء وبعد الحرب، كانت مصر تقوم بترحيل اليهود الموجودين في مصر مع الإنجليز والفرنسيين، فبغض النظر عن الأشخاص الإنجليز أو الفرنسيين، كان الكثير من اليهود المصريين مزدوجي الجنسية، أو أقارب في دولة أخرى أو لم يستخرجوا جوازات سفر أو لم يقوموا بالخدمة العسكرية، كانوا يرحلون. وكان لي وعائلتي العديد من الأصدقاء اليهود لأن المجتمع المصري كان مجتمعا منفتحا، ونتذكر أنه حين قامت الثورة في 1952 في الإسكندرية والقاهرة كان هناك عدد كبير من اليونانيين والأرمن والإيطاليين، ومن ودول عربية كثيرة، لم يكن هناك شعور بالتفرقة في المجتمع.

وكان من الذين تعرضوا لمحاولة الترحيل أستاذي هارون حداد الذي كان أستاذا للتاريخ، ودرسني في مدرسة «الجيزويت»، وأتذكر أنني رأيته في الشارع يبكي ويقول: «يا ابني أنا لي مقابر في مصر تثبت أن عائلتنا كانت في مصر منذ 300 سنة وطلبوا مني الآن إثبات مصريتي، ولا أستطيع ذلك فلا جواز سفر لي لأني لم أسافر قط، ولم أقم بالخدمة العسكرية لأن وقتها لم يكن هناك سؤال عن هذا، ولدت في مصر وأبي وجدي»، وأجبته باندهاش لأني لم أكن أعلم أن هارون يعني آرون وهو اسم يهودي و«ما علاقتك باليهود؟». فقال: «أنا يهودي»، ولأنه أيضا كان عضو الحزب الوفدي، لم أتصور أنه يهودي، وتدخلت بعد أن أمروه بالرحيل خلال أسبوع استطعت أن أؤجل ذلك لشهر، ثم اتصلت بي والدتي للتدخل لإحدى صديقاتها، فطبعا لأني كنت ضابطا وقتها وبالزي العسكري الفدائي للحرس الوطني والشارة العسكرية كان لها احترامها وكيانها وكانت بعد حرب بورسعيد حيث وقفنا أمام البريطانيين فكانت لنا بعض الهيبة. المهم أنني تمكنت من تأجيل الترحيل لثلاث عائلات يهودية مصرية، وأنا على علم أنه وقتها فتح لي ملف في المخابرات على أنني محب لليهود.

أنا قلت إن أيسر شيء أبرر به لصاحب الشركة الأجنبي قرار منعي من العمل هو أني تدخلت لصالح بعض العائلات اليهودية لمنع ترحيلها.

فوجدت الرجل يتفاعل بحماس ويقول: «طالما أنا موجود في هذا المكان، أنت لك عمل لدي».

بعد ثلاثة أشهر من هذه الحادثة، وفي الصيف وعلى عادة العائلة، توجه صاحب الشركة وعائلته لإيطاليا لقضاء العطلة الصيفية، وترك المدير العام مصريا يدير الشركة، لكن في يوم من الأيام دبت حركة كبيرة في المكان ودخل عدد كبير من ضباط الشرطة للشركة، ووكيل النيابة الذي كان لديه أمر بإغلاق الشركة والقبض على العاملين فيها، فدخلنا المكتب والمدير العام الذي كان قبطيا كان متحفظا بعض الشيء فأخذني إلى جانبه على أساس أنني كنت ضابطا سابقا أملا في أن أحظى ببعض الميزات لهذه الصفة، وكذلك لأني مسلم.

تحدثت مع وكيل النيابة وسألته عن الأسباب فأجاب بأن أصحاب الشركة هم عائلة يهودية. فنفيت قائلا إنهم كاثوليك. قال إنهم كانوا يهودا حتى سنة 1948، ولما تحولت فلسطين إلى إسرائيل وبعد حرب 1948 تحولوا إلى كاثوليك. فقلت له: «هل عداؤنا مع ديانات الناس؟». أجاب: إنهم كانوا يهربون أموالهم إلى إيطاليا. وقال إنه سيجري التحفظ على الشركة للنظر في تهريب الأموال. قلت له: حسنا ما دام الأمر كذلك، فاترك لي 24 ساعة للاتصال بهم، وهنا أرى كيفية إغلاق الحلقة، فتذكرت عندما سألني عن أسباب منعي من العمل وأجبته أن ذلك بسبب وقوفي إلى جانب اليهود، وهو كان يهوديا ولم أكن أعلم، فلذلك اتخذ الموقف الشهم معي. لذلك أردت أن أرد على ذلك وتحدثت مع العائلة في إيطاليا الذين أعلموني أنهم سيرسلون لي توكيلا شاملا لإدارة الشركة، فأخذت هذا التوكيل وعينت نفسي رئيس مجلس إدارة ورئيسا للشركات ومديرا عاما، وكان سني 22 عاما، وأصبحت أتعامل مع الحكومة وهددت بالقبض علي، لكني أردت أن أثبت لصاحب الشركة أن هناك أناسا مصريين ومسلمين لا يقبلون هذا التصرف.

بعد سنة من هذا التصادم اتفقوا على تأميم الشركة، أخذتها الدولة، وقانون التأميم في مصر يقول إن الشركة المؤممة في مصر تدخل القطاع العام وكل موظفيها يصبحون موظفين حكوميين، وبما أنني كنت قد عينت نفسي مديرا عاما ورئيسا لمجلس الإدارة ورئيس الشركة فأصبحت موظفا حكوميا وأنا من المفترض أنني في الوقت نفسه ممنوع من العمل.

دخلت المؤسسة الاقتصادية في مجال الشركة وهو الاستيراد والتصدير، وكان لي نوع من الابتكار في هذا المجال، وأسهمت في حل مشاكل كبيرة خاصة أن مصر وقتها كانت تعاني صعوبات كثيرة في الاستيراد والتصدير؛ حيث إن أذونات التصدير والاستيراد من المفترض أن تختلف من سلعة إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر، وتختلف كذلك إذا كان البيع والشراء بعملة صعبة أو محلية، وكانت هناك عمليات كثيرة مما تسمى بالعمليات الثلاثية، أي العمليات التي تبيع لدولة سلعة معينة بعملة معينة ثم تأخذ الدخل وتطبقه مع دولة أخرى إلى آخره. وهذا ما لفت انتباه الجهات الرسمية لي وكنت مسؤولا عن العمليات الثلاثية الصعبة، وقمت بعمليات مهمة، وتغيرت الظروف بالنسبة لي، وكنت أزرع أرضنا الزراعية وهذا ما كان يمنحني نوعا من الشعور بالاطمئنان. وكانوا وقتها أعادوا ممتلكاتنا بعد أخذ جزء منها حسب القانون العقاري وقتها، مثلا والدي ورث 250 فدانا، وأنا 50 وتدرج القانون إلى أن أصبح لي 100 فدان، وكانت زراعتي مصدر سعادة كبيرة فزرعت القطن، والقمح والذرة، وأدخلت البطاطا. وكنت أشعر بتواصل مع الأرض والطبيعة. طبعا إلى جانب العمل. كان هذا بين عامي 1958 و1962.

سنة 1962 كنت قد أتممت دراستي في جامعة القاهرة وفي الوقت نفسه تركت والدتي مصر وانتقلت إلى أميركا، سبب هذا أن والدي كان سنة 1938 نائب قنصل في نيويورك، فقد تركني والداي مع جدتي لأمي، وهي نمساوية، وكان عمري وقتها عاما. وتوجها الى نيويورك، وكانا قد تزوجا قبل سنتين ويبحثان عن أوقات جميلة في أميركا، وبالفعل استمتعا كزوجين سعيدين، فظروفهما من الجانبين كانت جيدة.

في نيويورك عرض عليهما أحد معارفهما، وهو محام، قطعة أرض فيها أربعة مساكن، ولم يكن لوالدي اهتمام بمجال الأعمال، فرفض، لكن والدتي تحمست للموضوع واشترت الأرض، وصادف أن كانت هذه الأرض في شارع مهم جدا في نيويورك اسمه شارع لكسنغتن، واشترت الأرض وتركتها، وعادت الى مصر.

وبعد فترة من الزمن أصبحت هذه الأرض مهمة جدا، وقطعة الأرض المكونة من جزأين على شارع لكسنغتن وشارع 53 الذي فيه اليوم «سيتي بنك أوف نيويورك» فباعت الأرض بملايين عدة، وعاشت حياة مرفهة. وأذكر أن والدي انفصلا عندما كان عمري عشر سنوات. ثم تزوجت أمي بطبيب أسنان في نيويورك. ثم أصيبت بسرطان، فطلبت مني حضور العملية الجراحية التي ستجرى لها، وحتى تلك الفترة ورغم مضي السنوات لم يكن لدي جواز سفر وكنت ممنوعا من السفر، فاتجهت إلى الجهات الرسمية، لكن رفض طلبي.

لكنني جددت المحاولة، وفي يوم ما تقدمت بطلب جواز سفر بشكل عادي، وذهبت إلى مكتب إدارة الجوازات، ووجدت أن الجواز ختم وطبع وكان جاهزا، وكان فقط في انتظار ختم ما يسمى بضابط الاتصال، وهو الذي كان على اتصال مع المخابرات وهو الذي يضع الخاتم ويوقع وإلا يكون الجواز غير صالح.

وأثناء الانتظار أعطيت «إكرامية» كانت معتادة لـ«صول غلبان» لكنه قال: «لا أضمن»، فرجوته أن يدخل الجواز لضابط الاتصال لأني مضطر للسفر «بعد غد». وشاءت الظروف لسبب أو لآخر أن ضابط الاتصال وصل متأخرا، وأعطاه (الصول) كوما من الجوازات، ولا أعلم كيف خرج جوازي من مكتبه مختوما وموقعا.

اتجهت لشركة السياحة اشتريت تذكرة السفر، لكني في الوقت نفسه تنبهت إلى أنهم قد يوقفوني في الميناء ويمنعوني من السفر بما أني على القائمة السوداء، وكانت الرحلة من الإسكندرية إلى إيطاليا ثم من إيطاليا إلى نيويورك.

لكن من حسن حظي أني تعرفت يومها على بحار من الطاقم الإيطالي الذي يعمل على الباخرة في شركة السياحة، ووجدت أن موظفي الباخرة لهم بطاقة تسمح لهم بالخروج من الباخرة ليتجولوا في الإسكندرية ثم يعودون ليلا، فتواعدت معه أن نعود معا الساعة الثانية بعد منتصف الليل آملا أن يكون الضابط المسؤول عن الميناء نائما أو متعبا وغير منتبه، وفعلا ذهبت معه على أني أعمل على متن الباخرة وكلمته بالإيطالية، ولما سألني عن بطاقتي قلت إنها ضاعت مني. وكنا نتمايل وكأننا في حالة سكر، وكان الشخص الثاني يحمل بطاقته، فسمح لنا بالدخول.

اختبأت في الباخرة إلى أن خرجت من الحدود الملاحية المصرية، ثم توجهت للقبطان وأعلمته أني نمت في الخارج، بدا أنه فهم الموضوع لكن لأن لي تذكرتي وجوازي وغرفتي محجوزة لم يكن أمامه إلا أن يسمح لي بالدخول.

نزلت في إيطاليا حيث قابلت أشخاصا أعرفهم، واشتريت بعض الثياب. وبعد أيام ركبت الباخرة نحو أمي. غدا: علاقتي بالسادات ومبارك وكامب ديفيد.