الخلفية الفكرية ومبادئ العروبة والإسلام هي التي جمعتني بالغنوشي

بدأت بالبحث عن الهوية من فرنسا عندما كنت طالبا

الجبالي أثناء إعلان استقالته من رئاسة الحكومة
TT

قراءة مذكرات شخصية ما، كانت وما زالت من أكثر المجالات التي تشدني، لأني أجد فيها الجانب السردي الروائي، في حين أنها تختلف عن الرواية نظرا لكونها حقيقة، و أجد الجانب التاريخي التوثيقي، وتختلف عن التوثيق التاريخي المعمول به عادة وهو أن يكتب التاريخ أناس من خارجه، كما تشمل الجانب الإنساني والذي يهمني الإبحار في أعماقه.

أما كتابتها، فرغم اختلافهاعن قراءتها، فإنها تشترك في الكثير من النقاط، أهمها أنني أبحث عن قيمة الشخص وفاعليته في صنع التاريخ ومدى تأثير ما قام به على واقعنا، ويبقى الجانب الإنساني مهما جدأ، والبحث فيه من اجل التوصل لدوافع تكوين الشخصية التي أحاورها، أو بالأحرى أستمع إليها.

حمادي الجبالي وصف أو صنف على أنه «مهندس» حركة النهضة التي كانت قبل أن يلتحق بقياداتها جماعة إسلامية تعمل بأسلوب، لا خطوط واضحة له، وخلال محاورته لفت انتباهي أنه كان حريصا جدا على التفاصيل بمافيها طريقة الجلوس والتحاور أثناء الاجتماعات التي كانت تعقد في بداية الحركة، وتدور بطريقة عفوية وكان كل يجلس على سجيته، ويجري تبادل الأفكار من دون معالم واضحة.

وخص رئيس الحكومة الأسبق حمادي الجبالي «الشرق الأوسط» بتفاصيل لم يتحدث عنها من قبل، وتعرض خلال جلساتي معه إلى أن الخلفية الفكرية ومبادئ العروبة والإسلام جمعته بالغنوشي، وإلى نشاطاته في فرنسا وكيف بدأ مع جماعة التبليغ التي لم تكن بمستوى طموحاته حسبما ذكر، وكيف أن الحركات الإسلامية في الغرب نفرته بسبب طريقة عملها، وعن مغادرته لتونس عبر البحر ولجوئه إلى إسبانيا بعد أن صدر حكم بالإعدام عليه زمن حكم الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، ثم مفاوضات بن علي وعودته إلى تونس سنة 1988 لـ«استدراجه» للسجن بحكم 16 عاما في قضية «براكة الساحل» التي قال الجبالي إنه لم يكن يعلم عنها شيئا.

كما خصنا بتفاصيل عن حياته في الزنزانة الانفرادية التي قضى فيها 10 سنوات، وما تعلمه من السجن الذي عده «عالما آخر».

وفي المرحلة الأخيرة من الحلقات التي سننشرها تحدث الجبالي عن طبيعة الخلافات في حركة النهضة ودوافعه للاستقالة منها، كما عرض تفاصيل عن تجربته في حكومة الترويكا.

كل عمل تنظيمي هو تجسيد لفكرة قبل الإطار التنظيمي، وليس التنظيم هو الذي يأتي بالفكرة، بل الفكرة هي التي تأتي بالتنظيم، فعندما يكون لديك فكرة تبحث عن تجسيدها في إطار معين وبوسائل محددة وأنا بدأت حياتي بالبحث، كانت لدي أفكار وأبحث عن تنظيم لتجسيدها.

التزامي بالصلاة أعدّه نوعا من الاستفاقة، لم أفكر فيها أو أخطط لها أو أتأثر بأي كان، ففي يوم ما فجأة، ومن دون سابق تفكير، قررت أنا وأخي الهاشمي، أن نبدآ الصلاة، مع أننا ننتمي لعائلة غير معتادة على الصلاة، فلا والدي ولا والدتي كانا يصليان، وهنا أتحدث عن عام 1966، حين كان لا وجود لأي توجهات أو حركات إسلامية في تونس. لما بدأت الصلاة كنت في السنة الخامسة من التعليم الثانوي (الإعدادي)، أي كان عمري 15 أو 16 عاما، وكانت أول صلاة لنا في مدينة سوسة، في جامع الرباط، وكنا يوم الجمعة نذهب للمسجد الذي لم يكن فيه غير الشيوخ كبار السن، وخطبة الإمام كانت مملة جدا، وكنت غالبا ما أتساءل بيني وبين نفسي عما يتحدث هذا الرجل.

كنت مسيسا ومطلعا، أسير في اتجاه النشاط والبحث، وتربيتنا في البيت، كانت تربية تقليدية، كان غير مسموح لنا بأن نبقى في الشارع لوقت متأخر، أو أن نتبع طرق ما يسميه والدي «الفساد»، وأعتقد أن المنعرج في حياتي بدأ مع التزامن بالصلاة، بالإضافة إلى تربيتي المحافظة ومطالعاتي لكثير من الكتب وأزمة 1967، كل هذا بنى شخصيتي.

* الانتقال إلى فرنسا

* غادرت تونس عام 1969 إلى فرنسا للدراسة، وكان اختصاصي تقنية علوم (math technique). انتقلت إلى فرنسا لكلية العلوم في مدينة رانس، حيث درست سنتي اختصاص في الطاقة المتجددة التي تشمل الشمس والرياح.

يمكن القول إن نشاطي في فرنسا لم يبدأ سياسيا أو لا يمكن تصنيفه وقتها كذلك، حيث كان مجرد نشاط في إطار الجالية العربية المسلمة أكثر منه تنظيما سياسيا، وبطبيعة الحال عندما يتغرب الإنسان يشعر بهويته أو يبحث عنها أكثر، فكنا وقتها نلتقي في مدينة رانس في المساجد، ووقتها بدأت فرنسا تشهد ظاهرة تكاثرها، ولم يكن سبب تكاثر المساجد التنظيم السياسي، أو حركة إخوانية أو إسلامية، بل كانت جماعات التبليغ الذين كانوا يأتون إلى فرنسا من كل أنحاء العالم، وخصوصا من باكستان والهند، وباكستان وآسيا عموما، وكان همهم الجاليات الإسلامية في الغرب وكيفية احتوائها وإرجاعها إلى الصلاة والمساجد، وكانوا حريصين على ترسيخ مظاهر الدين حتى من خلال لباسهم، كانوا يرتدون العمامة والزي الإسلامي، وقلائل منهم يزورون البلدان العربية لأنه غير مسموح لهم بالنشاط داخلها من طرف البلدان نفسها، لكنهم انتشروا في أوروبا وأميركا.

وأين أجد هذا الإطار في رانس التي لم يكن فيها مسجد كبير، كما في باريس مثلا في الدائرة الخامسة.

بالنسبة لي وبفضول، أردت الالتحاق بجماعة التبليغ الذين كانوا يشترون قاعات كبيرة ويحولونها لمساجد، وما كان يميزهم أنهم لا يتكلمون في السياسة، وحسب تجربتهم كانوا يرون أن السياسة ستفرق، فكانوا في كل الاجتماعات يذكرون أنه من غير المسموح التكلم في السياسة، وكانت هذه أول تجربة لي رأيت فيها علاقة تقارب تجمع هؤلاء الناس وكان العمل خاصة على مستوى الطلبة.

وبالنسبة لتواصلي مع التونسيين في تلك الفترة، كان لنا طلبة في كلية العلوم، وأذكر أن أول من اجتمعت بهم كان زياد الدولاتي، الطالب في كلية الصيدلة بينما كنت انا ادرس في كلية العلوم، لكن كنا نتقابل باستمرار ونصلي معا، خاصة لقاءاتنا في الاقامة الجامعية، لكننا بطبيعة الحال مهتمان بالسياسة وبالحياة الفرنسية.

وكانت طريقة جماعات التبليغ التي تعتمد على تشكيل جماعات صغيرة، تعتمد على التجول في الشوارع والمقاهي والاقامات الجامعية للدعوة للصلاة، مختلفة عما نريد، فهم يعملون فقط على الجانب الإيماني، لكن بالنسبة لنا كنا نريد نشر معالم الإسلام، أي الإسلام بالمفهوم الشامل : دينا ودولة. كنا نريد العمل بطريقة مخالفة للمفهوم الكنائسي للدين.

جماعة التبليغ يقولون إنهم يريدون البدء بالصلاة ولا تهمهم السياسة، لكننا نحن كنا شبابا مسيسا. الإسلام بالنسبة لنا منظومة كاملة، ما تقوم به جماعات التبليغ يرضي فقط البسطاء، فهو يقتصر على الصلاة ومظاهر الإسلام الخارجية مثل اللحية.

في آخر سنة لي في رانس، عام1973 تقابلت أنا وزياد الدولاتي الذي هو أحد قياديي «النهضة» الآن، وتونسي آخر، وشخص مصري، وبدأنا نجتمع ونتبادل الأفكار حول العالم العربي وعن أسباب تأخر العرب، وعن شؤون بلادنا. ينتمي زياد الدولاتي لعائلة عريقة، ومن ضمن المواضيع التي نتطرق إليها المواضيع السياسية عموما وأوضاع المسلمين، ونتكلم عن السياسة الفرنسية، وعن القضية الفلسطينية.

داخل المجال الطلابي في تلك الفترة كان جل الطلبة، إما من اليساريين أو ممن جاء لفرنسا للدراسة فقط، وهناك منهم المؤمنون الذين يقومون بفروض الإسلام مثل الصلاة، لكن لا تهمهم المسائل الأخرى. بالنسبة لمجموعتنا نحن لم نقبل أن نبقى على الهامش ولم نقتنع أيضا بالاقتصار على التبليغ.

بعد أربع سنوات من الدراسة في رانس انتقلت إلى باريس، وقد كنت في الفترة السابقة منقطعا عن كل ما يجري في تونس ايام الحبيب بورقيبة والأزمة في الحزب والتعاضد، (تطبيق التنظيم الاشتراكي) وبعد مجيء الهادي نويرة بدأت الحياة السياسية تتدهور، والمعارضة الوحيدة في الجامعات التونسية كانت من اليساريين، وأنا لم أمر بهذه التجربة في الجامعة التونسية، وحتى تركيبتها الطلابية لا أعرفها.

* التجربة مع جماعة التبليغ

* في باريس، حيث واصلت دراستي في مجال الطاقة، قررت الدخول في تجربة مع جماعة التبليغ ،وخرجت معهم في سبيل الله، وتحت مجموعة قيادية باكستانية، وكان فيهم عرب مغاربة، وكنت أنا المثقف الوحيد بينهم، وكان أغلبهم من العمال، وكان بين ثلاث وأربع مجموعات يخرجون ليقنعوا الناس بالصلاة مثلا، فكان يجب عليك امتلاك الجرأة لتتحدث للناس وتقنعهم، ثم من فرنسا خرجنا مرة إلى بلجيكا، وكنت أنا الخطيب فيهم، ثم ذهبنا أيضا إلى الدنمارك.

في بلجيكيا كنت مقتنعا بأن الجماعة أناس بسطاء طيبون، لكن أغضبوني في موقف، لأنني أتذكر أنني قابلت طالبا مغربيا وتحدثنا معا، فاقترب مني الأمير وقتها وذكرني أن لا حديث في السياسة، قلت له إننا لم نكن نتكلم في السياسة، بل كنا فقط نتحدث، لكنه أصر على أننا تكلمنا في السياسة، لم أرد مناقشته، لكن اخترت الانسحاب منهم.

عام 1972 بدأت أبحث عن دور آخر، تعرفت على شخص جزائري اسمه أبو بكر، لكنه كان حركيا يعمل ضد الحكومة الجزائرية، كانت لدي رغبة في التعرف على المسلمين الفرنسيين، ومن هناك تعرفت على شخص ترك بصمة في حياتي، هو عالم صالح زاهد اسمه حميد الله من أصل هندي ، باكستاني ، كان صوفيا طاعنا في السن يسكن في شقة صغيرة بأحد المباني المتواضعة بباريس، كان يتقن 12 لغة ويدرس في الجامعات العالمية، وفسر القرآن وترجمه إلى الفرنسية. تعرفت على مجموعة من الشباب الفرنسي الذي دخل الإسلام، وكان هؤلاء الشباب يتعلمون في مسجد باريس،وينظمون دروسا ومحاضرات في العقيدة، وخدمتني الظروف بأن أصبحت ألقي دروسا بدوري، لكن أبو بكر كان يمنع كل كلام في السياسة وقتها.

وواظبت على إلقاء الدروس بعد كل صلاة في مسجد باريس، وبعد فترة اكتشفت أن حميد الله يلقي دروسا في جمعية الطلبة المسلمين في العاصمة الفرنسية، فالتحقت بهم. هنالك تعرفت على منصف بن سالم (وزير التعليم العالي) وطلبة آخرين.

كانت جمعية حميد الله الذي كان يمتنع عن التطرق لأي مواضيع سياسية هي المهد الأول الذي جمع مجموعة من التونسيين منهم المنصف بن سالم الذي كان يعد شهادة الدكتوراه وقتها، وكان البقية كلهم في المرحلة الثالثة من التعليم العالي، وكنا نجتمع بشكل أسبوعي، ومنا من هو مغرم بالشعر والأدب.

يمكن أن نعد أن مهد تنظيم سياسي بدأ في ذلك الوقت في باريس، وكنا نعمل بالتوازي مع راشد الغنوشي وصالح كركر اللذين كانا يعملان في تونس. وأنشأنا وقتها مجموعة اسمها «لقاء» دون أن يكون لها ارتباط بالبلد الأم، وكان عددنا خمسة أو ستة أشخاص، وبدأت عام 1973 في باريس وبقيت هناك سنتين للدراسة وسنة للتخصص، أي ثلاث سنوات عدت بعدها إلى تونس.

كان ما يجمعنا ليس تنظيما فقط، بل أفكار نتبادلها، وكذلك انضم الشيخ راشد(الغنوشي) مثلي أنا، إلى جماعة التبليغ عندما زار فرنسا بعدما كان يدرس في سوريا، ولكنه مثلنا جميعا ميال إلى فكرة القومية والفكر الإسلامي، ورغم أن الشيخ راشد من الجنوب التونسي بينما أنا من منطقة الساحل، وثمة فارق في السن بيننا، فهو يكبرني سنا، وكذلك المنصف المرزوقي الرئيس الحالي لتونس الذي كان والده يوسفيا(أي من أنصار صالح بن يوسف)، وإحميدة النيفر وصالح كركر وعلي نوير، رحمه الله، رغم اختلاف التوجهات فإن الخلفية الفكرية جمعتنا بما فيها مبادئ العروبة والإسلام وجمال عبد الناصر والثورة.

واليوم أرى أن نشاطنا في تلك الفترة جاء كرد فعل سياسي اجتماعي فكري على فشل بورقيبة، وكانت وقتها أمراض الحزب الحاكم بدأت تبرز ومؤتمر الحزب والتعاضد الذي فشل، والأزمة في تونس وخطابات بورقيبة. وأيضا يعد نشاطنا رد فعل على الفكر الماركسي- اللينيني الذي استأثر بالجامعات التي كانت مسيسة.

هكذا بدأت نشأة هذا الفكر الإسلامي وعندما كنت في فرنسا كنا كطلبة نأخذ وجباتنا في «السيتيه إنترناشيونال»، فكنا طلبة إسلاميين، وآخرين من اليسار التونسي يدعمهم اليسار الفرنسي نلقي خطابات، ولكن في ذلك الحين كنا نعمل باحتشام.

وبدأ التواصل بالعمل في تونس، وكنا نتعاون مع اليسار كمعارضة، وفي البداية وجدنا تجاوبا من العمال البسطاء أكثر من النخب التي لم يكن يعنيها اليسار والثورية، فلم نكن بالنسبة لهم غير شباب متحمس.. فهذه كانت أول خطوة للاتصال بتونس.

* بروفايل: من زعيم «إسلامي سري» إلى رئيس للحكومة ومرشح محتمل لرئاسة الجمهورية

* عرف المهندس حمادي الجبالي عند تخرجه من جامعات العلوم في فرنسا أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات من القرن الماضي بهدوئه ومشاركته عن بعد في الأنشطة السياسية والثقافية، بما في ذلك أنشطة حزب «حركة الاتجاه الإسلامي» الذي أسس رسميا في تونس في السادس من يونيو (حزيران) 1981 وذلك بعد أن أعلن الرئيس التونسي آنذاك الحبيب بورقيبة عن موافقته على تعدد الأحزاب.

لكن رفض بورقيبة الاعتراف بهذا الحزب الذي اتهمه بـ«التستر بالدين» تطور في العام نفسه إلى محاكمات للقيادة التاريخية للحركة وزعاماتها الطلابية والنقابية ومطاردة القيادات التي تسلمت منها المشعل سرا وجرى إصدار إحكام غيابية ضدها.

في هذا الظرف، وتحديدا في خريف 1981، عاد الجبالي إلى تونس وتسلم قيادة «حركة الاتجاه الإسلامي» من الجيل الثاني للقيادة الذي انسحب بدوره بسبب المطاردات والمحاكمات.

وفي 1982 انتخب الجبالي من قبل الجيل الثالث من القيادة رئيسا جديدا للحركة وعرف طوال سنوات بنجاحه في «العمل التنظيمي» وفي «مراوغة البوليس السياسي» حتى إبرام قيادة الحركة صلحا مع محمد مزالي الوزير الأول (رئيس الوزراء) لبورقيبة في صيف 1984، الذي أنهكته الإضرابات الاجتماعية والصدامات الدامية في يناير (كانون الثاني) من نفس العام بين عشرات آلاف المتظاهرين وقوات الأمن والجيش ضمن ما عرف بـ«ثورة الخبز».

خلال مرحلة 1984 - 1987 خرج الجبالي من السرية وأصبح من أبرز قياداتها العلنية مع مؤسسيها الخارجين من السجن والعائدين من المنفى مثل راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو وصالح كركر والفاضل البلدي.

لكن اندلاع مواجهة جديدة بين بورقيبة وزعامات حركة الاتجاه الإسلامي منتصف عام 1987 دفع الجبالي وقياديين بارزين من الحركة مثل كركر إلى مغادرة البلاد نحو فرنسا ثم اسبانيا في حين انتقل قياديون آخرون مثل مورو إلى السعودية. ومن فرنسا تابع الجبالي الإدلاء بتصريحات صحافية وإجراء مقابلات لفائدة رفاقه الذين أصدرت ضدهم محكمة أمن الدولة ومحاكم حق عام أحكاما قاسية وصلت إلى حد الإعدام.

إلا أن التغيير في أعلى هرم السلطة في نوفمبر (تشرين الثاني) 1987 ، الذي قاده رئيس الحكومة ووزير الداخلية آنذاك زين العابدين بن علي أوقف مسار المحاكمات وأدى إلى الإفراج عن غالبية زعامات الحركة وعودة المنفيين ومن ضمنهم الجبالي إلى تونس مطلع 1988.

وتسلم الجبالي منذ عودته إلى تونس الإشراف السياسي الفعلي على الحركة ومؤسساتها العلنية والسرية، و أصبح عضوا رسميا في قيادتها العلنية الجديدة التي تغيرت تسميتها منذ فبراير (شباط) 1989، وأصبحت حركة «النهضة» حتى تتلاءم مع قانون الأحزاب الجديد الذي يمنع «الأحزاب التي تعتمد أساسا على الدين أو اللغة أو الجنس».

كما عين الجبالي مديرا للصحيفة الأسبوعية الناطقة باسمها «الفجر» التي تعرضت للإيقاف بعد إصدار بعض أعدادها، وكانت السبب المباشر لإعادة اعتقاله ومحاكمته في 1991 بتهم انتهاك قانون الصحافة في فصول «الثلب ونشر الأخبار الزائفة».

وبعد انتخابات عام 1989 شنت حملة محاكمات شاملة ضد آلاف من نشطاء الحركة وقياداتها. وكان نصيب الجبالي في تلك المحاكمات عشرات السنين سجنا وقع تخفيضها تدريجيا، لكنه لم يغادر السجن إلا بعد أن قضى زهاء 16 عاما منها وبعد سلسلة من الاضرابات عن الطعام. استأنف الجبالي نشاطه السياسي السري منذ 2006، وأسهم في حوارات غير مباشرة أجرتها قيادة الحركة مع بن علي إلى أن وقعت الإطاحة بالنظام في يناير 2011 فاعترفت السلطات المؤقتة الجديدة بالأحزاب المحظورة وبينها حركة النهضة، مما مكنها من المشاركة في انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) 2011 التي أسفرت عن تعيين الجبالي رئيسا للحكومة الائتلافية الأولى.

لكن اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد في فبراير 2013 ، واندلاع تحركات للمطالبة بإقالة الحكومة ثم فشل جهود الجبالي في تشكيل حكومة ائتلافية من «المستقلين» و«التكنوقراط» من بين العوامل التي تراكمت وعقدت الأوضاع في تونس، فاستقال من رئاسة الحكومة، لكنه ظل يحافظ على عضوية قيادة حزب النهضة رغم مقاطعته لأنشطته وتقدمه باستقالة من الأمانة العامة للحركة.