كيف ولماذا طغت كتابة المقال على جميع الفنون الصحافية الأخرى في السعودية؟

TT

يشكو أحد مديري التحرير في صحيفة سعودية من أن جميع من يتقدم للعمل لديه يرغب في أن يكون «كاتباً»، ولا أحد يتقدم للعمل بقوله «أريد أن أصبح صحافياً»، ويوضح أن «كتابة المقال» أصبحت هوساً اجتماعياً، وتحول العمود في الصحيفة أو المجلة إلى أحد أوجه الـ«وجاهة»، أكثر من كونه أحد أركان الصحافة التي تقتصر على عدد قليل من الموهبين في كتابته. ولكن السؤال هو لماذا هذا الانجذاب الشديد نحو كتابة المقال على حساب الفنون الصحافية الأخرى؟ حيث تزخر الساحة بالـ«كُتّاب» وتكاد تخلو من الصحافيين المتخصصين والمتمرسين في شتى القطاعات، وهؤلاء ـ إن وجدوا ـ سريعاً ما يجذبهم التيار فتراهم يتحولون ايضاً إلى المقالات بعد عدد من سنوات العمل، وكأن الانتقال من المراسلة أو التحرير إلى كتابة المقال هو ترقية! يرى الدكتور عبد الله الطويرقي، أستاذ الإعلام في جامعة الملك سعود، أن كتابة الرأي لم تعد تحتكم لمعيارية (من يقول للناس ماذا يجري لهم؟)، والتي ظلت إلى وقت قريب مسألة غير قابلة للمجاملات، أو الحسابات التجارية في الصحافة الجادة، قد تكون مفهومة، قدر اعتمادها على معايير سوقية ـ كتوجهات القراء مثلاً ـ أو حسابات تجارية أو سياسية، فهي مسألة لا غرابة فيها، لكونها تعكس ذكاء مهنيا، وخطوط إنتاج تتماهى وظروف البيئة.

أما أستاذ الإعلام ومدير عام العلاقات العامة والإعلام بالهيئة العليا للسياحة في السعودية، الدكتور محمد الحيزان، فيرى أن كتابة المقالة الصحافية ليست مهمّة سهلة، ومع ذلك، فإنها تمثل أحد أهم المداخل السهلة لمن يرغب الدخول إلى عالم الصّحافة في السعودية. فمن الصعب ولوج عالم الصحافة من خلال الأشكال الصحافية الأخرى، كالخبر أو التحقيق أو التقرير ونحوها، فالمشاركة بمقال أحياناً تتم بغض النظر عن قدرة الكاتب على صياغة مقال متكامل، منضبط بمعاييره الأساسية من عدمه; ولذلك لا تتضح جوانب القصور ـ فيما يطلق عليه «مقال» تجاوزاً ـ للجميع، إلا من خلال المتخصصين، ثم إنه ليس بالضرورة تصنيف كل مادة صحافية، أعدت ونشرت في زاوية أو عمود، على أنها مقالة مكتوبة بشكل مهني، ولذلك فإن المقال الصحافي من الأشكال التي أسيء فهمها، بل أصبح الاعتقاد السائد، هو «أن كل من هو قادر على الكتابة، هو قادر على صياغة مقال».

بينما رأى الدكتور صالح الربيعان، أستاذ الإعلام المساعد في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أن الصحافي المبتدئ، كغيره من الناس، يتطلع إلى تحقيق تطلعاته في الشهرة والبروز، والخروج من عتمة العمل المضني خلف الكواليس، كما يرغب في التخلص من متاعب العمل الصحافي الميداني، ولذلك فهو يحاول أن يجد لنفسه مكاناً في الوسط المضيء من الساحة الصحافية، فيتجه لكتابة المقال; لأنه يحقق له الهدفين معاً، ولا يلام الصحافي على هذه الرغبة، لكنه بلا شك يلام على استعجال تحقيقها، بسبب شكه في أن كتّاب الصحف، وضعوا هناك فجأة وبمجرد الرغبة، وبأن استضافة بعض الكتاب البارزين في الفضائيات لتحليل الأحداث والتعليق عليها، اختيار غير موفق، لأنه أولى بالاستضافة منهم، كونه أقرب إلى تلك الأحداث منهم، وأكثر تعاملاً مع شخصياته، ويعتقد الربيعان أنه «ربما كان مصيباً بعض الشيء، لكن الفضائيات وبرامجها تحتاج إلى الشخصية البارزة المعروفة، ذات التأثير على الرأي العام، أكثر من حاجتها إلى من يعتقد أنه يعرف أكثر، لكن لا أحد يعرفه، وبالتالي لا أحد يهتم بما يقول».

ويعود الدكتور الطويرقي ليقول إنه يعتبر أن الصحافة السعودية لم تعرف المدرسية بالمعنى الدقيق، إلا أنها، وربما دونما قصد، ظلت تحتكم في كتابة الرأي لمزاجية وحسابات قيادات التحرير اللامهنية في المجمل، بل كثيراً ما تجد تناقضات صارخة بين البضاعة الخبرية والتحقيقات والتقارير، ومواد الرأي اليومية والأسبوعية، وهذا يكشف غياب نظام التفكير والإنتاج، والذي يعد الحد الأدنى في المهنة، ولذلك، لا غرابة في عدم وجود سقف معياري لنوعية الأفكار، وللمواصفات الشخصية والمهارات والقدرات الذاتية للكاتب، وعلاقتها بسياسة الصحيفة، مضيفاً أن صحافة السعودية «لم تعرف الكثير عن صناعة الرأي العام، وأجندة الأولويات في التأثير على اتجاهات وقناعات القطاع العريض من جمهور الإعلام، كما أن كتّاب الرأي لا يعرفون أجواء الصحيفة اليومية، لأن معظمهم يكتب عن بعد، وبذلك لا يعايشون عملياً ترمومتر المزاج المهني، ولا يدركون الثقل النوعي والكمي; للقضايا والموضوعات المدرجة على جدول أعمال التحرير في الصحيفة التي يكتب لها، ربما هناك صحيفة أو اثنتان على الأكثر، تتعامل بأسلوب مهني مع كتّابها، فتدعوهم لحضور اجتماعات تحرير أسبوعية أو دورية، لصنع ألفة مع طبيعة وتوجهات العمل التحريري للصحيفة، بشكل يعزّز فاعلية المواد التي تقدم للجمهور في الشق الخاص بالرأي أو بالخبر».

وصف الدكتور الحيزان أن على الصحيفة السعودية، للمحافظة على نجاحها، مراعاة بُعد المقال الصحافي وجودته، فليس كل ما ينشر يقرأ، وبخاصة فيما يتعلق بالمقالات، ومن هنا تأتي أهمية تقييم المقالات التي تنشرها الصحف، ومعرفة درجة إقبال القراء عليها، ودرجة تفاعلهم معها، مضيفاً أن «الصحافة السعودية أسهمت بشكل كبير في تقديم مجموعة من الكتاب والكاتبات المتميزين إلى الساحة الصحافية، وهي مطالبة بالأخذ بيد الآخرين، وفق المعايير المعتبرة في الكتابة الصحافية، وأعتقد بأنها قادرة على تحقيق ذلك».

فيما يقترح الدكتور الربيعان على الصحف أن تفرد للصحافيين المبتدئين صفحة أو جزءً منها، لتنمية مواهبهم، ومنحهم دعماً نفسياً ومهنياً، وهي تفعل ذلك مع القراء، وقال «لعلّ صحافييها أولى بالمعروف».

أما حول مستقبل كتابة المقال في الصحافة السعودية فيعتبر الدكتور الطويرقي أن كتابة الرأي لن تكون مؤثرة في وسطها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ما لم تتحوّل المؤسسات الإعلامية في السعودية عن تفكير وممارسات الإعلام الوظيفي، إلى الإعلام المهني، ولن ترتفع قيمة كتابة الرأي بين الجمهور، ولدى صانع القرار، إلا عندما تنحسر مساحات حركة الصحافي «الجوكر»، الذي يصلح لكل تفريعات الصحيفة الرئيسة، وهو أخطر ما في الصحافة السعودية من مشكلات، فالصحافي المتخصّص، وكاتب الرأي المتمكن في مجال بعينه في الصحيفة، قد يكونان الشيء الوحيد المتبقّي للصحيفة، لفرض وجودها في مرحلة طرق المعلومات فائقة السرعة، وبدون مزية الاختصاص هذه لدى كوادر وكتاب الصحف، ستجد الصحف نفسها خارج حسابات القارئ والسياسي ورجل المال والأعمال، ممن تتوافر لديهم وسائط إخبارية ومعلوماتية عبر الإنترنت والفضائيات والواب سيرفس، مضيفاً أن «وجود كتابة رأي محترفة، ونشطة ومتابعة في الاختصاص، يسهم في رفع سقف توقعات الجمهور من كتّاب الرأي في الصحيفة، ويطرد، بشكل غير مباشر، كتابات رأي الفضفضة والخدماتية، أو بالأصح صحافة العلاقات العامة».

وبحسب وجهة نظر الدكتور الربيعان فإن الصحافي يحتاج إلى وقت طويل (وليس إلى عدد محدد من سنوات الخبرة)، حتى يتحول من مجرد ناقل للحدث، إلى مفسر له، وسابر لأبعاده، ومتنبئ بتبعاته، كما أن العمل الصحافي المهني لا يقل أهمية عن الكتابة الصحافية، بل إن الكتابة تعتمد، في معظم الحالات، على الأخبار والتقارير التي يرصدها ويعدها الصحفي الميداني، وقد يملك الكاتب المهارات المهنية للصحافي، أو العكس، ولكن القليل جداً تمكنوا من إجادة المهمتين بالمهارة المهنية نفسها.