تلفزيون «أرامكو» .. قناة ما قبل الفضائيات

كانت أول محطة خليجية .. والثانية عربيا

TT

في 16 سبتمبر (أيلول) عام 1957 بثت الموجة رقم 2 لتلفزيون الظهران، أول بث تلفزيوني في منطقة الخليج العربي، وثاني بث تلفزيوني على مستوى العالم العربي والشرق الأوسط، بعد العراق، وشكل هذا الظهور التلفزيوني نقلة نوعية وثقافية لأبناء المنطقة، وتأتي أهمية هذه القناة لأبناء الخليج من حقيقة أنها شكلت وعي جيل خليجي بأكمله في حقبة كانت نسبة الأمية فيها مرتفعة ومصادر المعلومات قليلة ووسائل الترفيه متواضعة ومحدودة.

وبالرغم من الدور المهم الذي لعبه تلفزيون ارامكو في حياة المجتمعات الخليجية تثقيفا وترفيها، فإن الدراسات الخاصة بالقناة وهياكلها وبرامجها، فضلا عن فكرة انشائها وأهدافها وتأثيراتها الاجتماعية والثقافية، تكاد تكون معدومة، وهو الأمر الذي سعى من أجله الدكتور عبد الله المدني لمحاولة سد فراغ كبير وتوثيق جزء من الذاكرة الخليجية حول بداية ظهور الاعلام المرئي وما رافقه من ارهاصات وطرائف وحكايات وإثارة، قد لا يعرف الكثيرون تفاصيلها الدقيقة. وفي كتابه الخليج والتلفزيون، يحاول الكاتب سرد القصة الكاملة لأول محطة تلفزيون في الخليج، خاصة وهو أحد الأشخاص الذين عاشوا تلك المرحلة من تأسيس تلفزيون ارامكو.

وحسب الكاتب فإن ارامكو سعت لتعزيز دورها الاعلامي والثقافي بالمنطقة عن طريق إنشاء هذه القناة، التي تبث من الظهران ويغطي ارسالها كافة أرجاء المنطقة الشرقية من السعودية، بالإضافة إلى البحرين وقطر ودبي، و«خلافا لما قد يتبادر إلى الذهن، وعلى العكس مما روجه البعض انطلاقا من رؤى ايديولوجية أو من نظريات المؤامرة، من أن جهاز تلفزيون ارامكو قد أسس لنشر الثقافة الأمريكية وتغريب المجتمعات الخليجية، فإن واقع الحال أكد على أن دور المحطة انحصر في ثلاثة أهداف»، يعددها الكاتب على أنها كانت تتركز في الترفيه عن مجتمع لم يكن وقتذاك يعرف من أدوات الترفيه سوى الجلوس على المقاهي الشعبية أو متابعة مباريات كرة القدم أو الاستماع إلى أجهزة الراديو، إضافة إلى لعب «الكوتشينة» سرا في أماكن مغلقة بفعل فتاوى التحريم الدينية، كما أن من الأهداف أيضا تثقيف المجتمع بإنجازات العصر ومظاهر المدنية والحضارة وصورة الآخر وما يدور في عوالمه من حراك وإنجازات واكتشافات، إضافة إلى الارتقاء بوعي المشاهد لجهة قواعد السلامة والنظافة وكل ما يقيه من شرور الإصابة بالعاهات والأمراض، أما الهدف الثالث في إطلاق ارامكو لقناتها التلفزيونية فقد كان لتسليط الأضواء على أعمال الشركة وأخبارها واسهاماتها في برامج التنمية المحلية والتعريف بأهدافها وانجازاتها.

وكانت فكرة إنشاء المحطة التلفزيونية قد نبعت من ذهن الأميركي هارولد تالبوت الذي كان قد أنتدب في عام 1955 لزيارة مرافق ارامكو وتفقد أحوال موظفيها الأميركيين وتلمس احتياجاتهم، فأوصى، ضمن أمور أخرى، بإنشاء محطة تلفزيونية، إلا أن ارامكو سرعان ما طورت الفكرة لتصبح الفكرة موجهة أساسا للمواطنين وليس الموظفين الأجانب، وأكبر دليل على ذلك بثها باللغة العربية، مع ترضية غير الناطقين بالعربية بإذاعة الأصوات الأصلية للمسلسلات والأفلام والبرامج الأجنبية من خلال محطة fm خاصة بالشركة، وبهذا الحل السحري، على حد وصف الكاتب، أصبحت عيون الأجانب مصوبة على شاشة التلفزيون بينما آذانهم على المذياع.

ولعل ما يدحض أن القناة التي أسستها الشركة الأميركية، في ذلك الوقت، لم تستخدم هذه الأداة في الترويج للثقافة الغربية، أن النسبة العظمى من برامج المحطة كانت محلية ومن صنع أياد وطنية وعربية أو كانت عبارة عن أفلام سينمائية مصرية بمعدل أربعة أفلام في الأسبوع، أما ما تبقى من برامج، فقد كان عبارة عن أفلام الاكتشافات والرحلات والحياة الفطرية، إلى جانب الصور المتحركة من إنتاج والت ديزني، وكان كل الإنتاج الأجنبي يتعرض قبل بثه إلى مقص الرقيب الذاتي لحذف المشاهد والعبارات غير اللائقة مع العادات واستبدال كلمات النبيذ والبيرة بالعصير أو القهوة أثناء عملية الدبلجة.

ويوجه الكاتب المدني انتقادا حادا للرقيب الذاتي في تلك الفترة، مشيرا إلى أنه لم يكتف بحذف وتغيير بعض المشاهد والعبارات في الأفلام والمسلسلات الأجنبية، وإنما حرص أيضا في بداية انطلاق البث التلفزيوني على نزع الأغاني ومشاهد الرقص الشرقي مما كان يعرض على الشاشة من أفلام سينمائية مصرية، وذلك من باب تفادي رجال الدين وذوي النزعة المحافظة. إلا أن تحولا طرأ فيما بعد على سياسة الرقيب، وهنا يقول المدني: «حينما قرأ الناس في قائمة البرامج الأسبوعية في عام 1962 خبرا عن قرب عرض المحطة لفيلم الوسادة الخالية من بطولة عبد الحليم حافظ الحافل بالاغاني العاطفية، توقعوا أن يكون الفيلم مملا وقصيرا جدا، تعويلا على استقطاع تلك الأغاني منه كما جرت العادة، لكن المحطة كانت تخفي مفاجأة لجمهورها، اذ بثت لأول مرة فيلما غنائيا بكل ما احتوت إليه، و:انها تريد جس نبض ومعرفة ردود أفعاله، ولما لم تجد معارضة من رموز المؤسسة الدينية آنذاك، واصلت عرض الأفلام المصرية دون إعمال لمقص الرقيب فيها إلا في حالات احتوائها على الرقص الشرقي الكاشف للعورة».

أما نهاية المحطة فكانت عندما قررت ارامكو في بداية عام 1970 أن توقف بثها بالعربية، وذلك على إثر بدء الارسال التلفزيوني السعودي الرسمي من الدمام في نوفمبر 1966، وحولت محطتها العتيدة إلى قناة لبث المسلسلات والأفلام الأجنبية فقط تحت مسمى «القناة الثالثة»، ويصف الكاتب هذا القرار «هكذا خسر المشاهد في منطقة الخليج قناة تلفزيونية محترمة، لم يكن فيها اسفاف أو سخافات، ولا فقرات دعائية باعثة على الغثيان من فرط سطحيتها وتفاهتها، ولا نشرات أخبار حول من وصل أو غادر، ولا تعليقات سياسية فارغة تسبب الصداع والمرض، ولا فيديو كليبات تحرق الأعصاب ببذاءتها، على نحو ما انتشر لاحقا من محطات التلفزة الفضائية».

ومع نهاية عام 1989 أسدلت شركة ارامكو الستار نهائيا على محطتها التلفزيونية من بعد أكثر من أربعين عاما متواصلة من الارسال. حيث تقرر إنهاء البث باللغة الانجليزية أيضا بسبب تزايد المنافسة من القنوات الأخرى وانتشار البث الفضائي المتنوع عبر القارات.