الإعلام.. هل من واجباته التذكير بالتاريخ أم نقل الخبر فحسب?

التغطية المكثفة للانسحاب من غزة تطرح سؤالا مهما

TT

كتب أحد قراء صحيفة «مترو» اليومية، التي توزع مجانا على راكبي قطارات الأنفاق في العاصمة البريطانية لندن، لقسم «بريد القراء» في الصحيفة الثلاثاء الماضي الرسالة التالية: « لماذا تعطى كل هذه التغطية (الإعلامية) لإزالة المستوطنات اليهودية من قطاع غزة، هؤلاء الناس كانوا يعيشون في شقق فخمة.. في أماكن تحتلها اسرائيل بصفة شرعية تحت القانون الدولي». ويبدو أن القارئ كان يعلق على طغيان صور المستوطنين والإخلاء على قنوات التلفزيون والصحف بشكل كبير الاسبوع الماضي. ومن الواضح أن القارئ كان على دراية بتاريخ المنطقة وسياستها، حيث ذكر في رسالته أن اسرائيل احتلت هذه الأراضي بغير حق. لكن من يراقب بعض ردود الفعل الأخرى لمن تابع هذه الصور، يلاحظ ان هناك من شعر بالألم لما لحق بالمستوطنين ومنازلهم، ويلاحظ أن هناك فئة كبيرة من الناس لا يعلمون لماذا يتم سحب هؤلاء بالقوة؟ وبالتالي فإن السؤال الذي يطرح هنا هو هل دور الإعلام يقتصر على تغطية حدث معين كأمر مستقل؟ أم هل من واجبات الإعلام إعطاء خلفية تاريخية لحدث مثل هذا؟ وأيضا هل من واجب الإعلام الترويج لثقافة السلام؟ بمعنى أن نرى عناوين الصحف تقول «اسرائيل تبدي جديتها في رغبتها بالسلام» أو«السلام يتطلب تنازلات» أو«عودة الارض لاصحابها»، بدلا من العناوين المثيرة التي تصدرت الصحف الأسبوع الماضي، مثل «الرحيل: غضب وألم يرافق خروج الاسرائيليين من غزة» (عنوان صحيفة «ذي انديبندنت»، الذي أرفق بصورة طفل يهودي يبدو عليه الحزن يوم الخميس 18 أغسطس)، و«تحد، غضب ودموع في الوداع القسري لغزة» (عنوان صحيفة «ذي غارديان» في اليوم نفسه الذي ارفق بصور طولية لمستوطنين اسرائيليين يبكون داخل منزلهم، فيما يعلقون العلم الاسرائيلي)، أما عنوان صحيفة الـ«انترناشونال هيرالد تريبيون» في ذلك اليوم فكان «القوات الاسرائيلية تبدأ بإخلاء الغزاويين». اللافت كان عنوان صحيفة الـ«ديلي نيوز» النيويوركية، الذي جاء على الشكل التالي «بالصراخ والركلات، مستوطنو غزة يخلون في سبيل سعي اسرائيل للسلام». وعلى الرغم من أن مثل هذا العنوان قد يخدم المصلحة العامة، ان كانت المصلحة هي السلام بين الشعبين الفلسطيني والاسرائيلي، الا ان القليل جدا من الصحف هي التي عنونت اخبارها في هذا السياق. يقول بيتر بيومونت، محرر الشؤون العالمية في صحيفة «ذا اوبزرفر»، انه لا يشعر شخصيا بأن الانسحاب من غزة أو أي من سياسات (رئيس الوزراء الاسرائيلي) شارون لها علاقة بخطة السلام. «أشعر أن الأمر متعلق أكثر باسرائيل» يقول بيومنت، ويضيف «ولكن مهما كانت مشاعري فإن صفحات الأخبار ليست المكان المناسب لعرضها، هناك أماكن أخرى في الصحيفة، مثل صفحات الرأي، لهذه الأمور». أما عن ضرورة وجود خلفية تاريخية مع التقارير الإخبارية، يقول بيومنت «نحن نفعل ذلك»، وقال «اعتقد ان كانت قصتك مؤلفة من 700 كلمة يمكن ان يكون لديك مقطع او مقطعان يعطيان خلفية تاريخية.. الأمر متعلق بالمساحة». ولكنه يضيف «إلا أن التذكير بما جرى في الـ48 والـ67 ووعد بلفور في كل مرة فيه القليل من السذاجة». ويلفت بيومنت إلى نقطة أخرى متعلقة بالتاريخ المعقد للمنطقة، معتبرا أن سرد خلفية تاريخية لن يجعل فهم الموضوع أكثر سهولة، وذلك لأن «هناك روايتين واحدة اسرائيلية وأخرى فلسطينية». أما توني باربيري، الأستاذ في كلية الصحافة بجامعة ميرلاند الأميركية، فاعتبر أنه من المهم معرفة الصحافي للخلفية التاريخية لأي موضوع يعمل عليه. وليس ذلك فحسب بل من المستحسن أن يلم الصحافي كذلك بثقافة ولغة المنطقة التي يغطي الأحداث فيها.

وأضاف باربيري إنه عمل مراسلا صحافيا لأكثر من عشر سنوات في روسيا وآسيا، ووجد أنه من الصعب جدا أن يفهم المراسل الحدث ما لم يعرف تاريخ المنطقة، لكنه يرى أن منطقة الشرق الأوسط بالذات ذات تاريخ معقد وصعب، علاوة على أن الناس هناك مشحونون بالعاطفة، ويرى أنه مع ذلك يجب على الصحافي الذي يغطي حدث انسحاب إسرائيل من غزة أو أي حدث آخر، أن يلم بتاريخ المنطقة وأحداثها الماضية كي يصبح قادرا على تقديم خلفية مناسبة لقرائه.

التغطية التلفزيونية

* خصصت معظم القنوات التلفزيونية الإخبارية فترات طويلة لتغطية الانسحاب طوال الأسبوع الماضي، وفيما اعتذرت الـ«بي بي سي» عن الرد على اسئلة «الشرق الأوسط» حول هذا الموضوع بسبب «عدم توفر أي من المختصين في الوقت الحالي»، جاءت اجابة شبكة الـ«سي ان ان» عبر البريد الالكتروني عن طريق مكتبها في لندن على الشكل التالي:

«يعتبر الانسحاب من غزة القصة الرئيسية لـ«سي ان ان» حاليا.. ونحن مهتمون بشدة بالجانب الانساني للانسحاب، العناصر الشخصية التي ستتأثر بهذا الانسحاب، إلى ذلك قمنا بإجراء مقابلات مكثفة مع مختصين في اسرائيل والأراضي الفلسطينية وحول العالم، وذلك لنضمن ان كل جوانب القصة غطيت.. وقد بدأت الـ«سي ان ان» تغطيتها الكبرى قبل اسبوع من بدء الانسحاب، وذلك من اجل توفير السياق والخلفية التاريخية إلى جانب القصص الشخصية من جميع الأطراف». وعادت «الشرق الأوسط» واتصلت بمسؤولة العلاقات العامة في الشبكة، كلوديا كول، للحصول على رد محدد بشأن ضرورة وجود خلفية تاريخية في التقارير الاخبارية، فأجابت كول «كما هو مذكور في ردنا، فنحن نقوم بذلك فعلا». أخبار سيئة.. من إسرائيل

* وكان الدكتور غريغ فيلو، مؤلف كتاب «أخبار سيئة من اسرائيل»، دعا في ندوة عن «الإعلام والشرق الأوسط» عقدت في 28 مايو (ايار) الماضي في لندن، إلى ضرورة أن يتم تضمين التقارير الإخبارية المتعلقة بالصراع العربي الاسرائيلي على الدوم بخلفيات تاريخية. وأوضح فيلو في ذلك الوقت أن هناك انحيازا كبيرا لصالح اسرائيل في التغطية التلفزيونية، وجهلا رهيبا لدى الكثير من الناس بحقيقة ما يدور في الاراضي المحتلة، مستعينا بأمثلة حصل عليها خلال بحثه مثل «البعض يعتقد أن كل الحق هو على الفلسطينيين لأنهم يتركون ابناءهم يخرجون في الليل لالقاء الحجارة على الجنود الاسرائيليين». «الشرق الأوسط» حاولت الاتصال بالدكتور فيلو في مقر عمله في اسكوتلندا، إلا انه كان غير موجود لاجراء المقابلة.