كابل.. أنت المسؤول عن رأسك والدولار سيد الموقف

أطباء ومهندسون تحولوا إلى مترجمين بعد الهجوم الإعلامي على العاصمة الأفغانية

TT

كان اللقاء الاول بين مجموعة من الصحافيين الاجانب مع خبير امني من الـ «سي أي اي» في مضيفة «باباساليس» بوسط شارع شهرانو بالعاصمة كابل منتصف شهر اغسطس (آب) الماضي يكشف عن طبيعة المخاوف الامنية بافغانستان الموجهة ضد الصحافيين وموظفي الهيئات المدنية غير الحكومية. وضمن تحذيرات الخبير الامني الذي جاء بصحبة مايكل ماسي مدير «العلاقات العامة» في السفارة الاميركية بكابل ورفض ان يكشف عن اسمه، هو عدم ركوب سيارات التاكسي الافغانية في المقاعد الامامية بجوار السائق وخلفك افغان اخرون لا تعرفهم. واكد الخبير الامني الذي كان يتمنطق بمسدس مربوط على الجزء الاعلى من فخذه الايمن ويقف خلفه حارس يمسك في يديه ببندقية مشرعة، ان السفارة الاميركية في كابل لن تدفع فدية لاحد من الصحافيين مقابل الافراج عنه بل سيدفع الفدية عائلته او الجهة التي يعمل فيها. وخارج المضيفة المتواضعة الاساس كانت سيارة مصفحة تنتظر الخبير الامني الاميركي الذي انطلق بها الى المجهول بعد انتهاء محاضرته او تحذيراته، وسط تأكيدات اطلعنا عليها بعد ذلك من مسؤولي الجيش والشرطة والحكومة الافغانية ان البلد بخير ولا تأثير لتهديدات حركة طالبان الاصولية التي تسعى الى ضرب الانتخابات البرلمانية المقبلة يوم 18 سبتمبر «الجاري».

كنت اسرح قليلا والخبير الامني يقف بعيدا عن الضوء من المصباح الكهربي المتدلي من سقف الدور الارضي في مضيف باباساليس بكابل وهو يتحدث بسرعة عن التهديدات الموجهة للصحافيين والموظفين المدنيين الذين يزورون العاصمة كابل، وهو يقول من واقع خبرته ان الرهينة المختطف يباع في معظم الاحوال لجهات اخرى مثل طالبان او جهات خارجة على القانون عندما يعرف الخاطفون بحيثية الرهينة. ورغم التحذيرات التي اصابت الصحافيين الذين يزورون افغانستان للمرة الاولى بالخوف والهلع والتي كانت تصب في مصلحة مطالبتهم بالالتزام بالبرنامج الموضوع من قبل السفارة الاميركية بكابل وعدم الخروج عن النص بالخروج الى الشارع الافغاني ومحاولة التقاط صور سياحية للمبرقعات والمحجبات والجيل الجديد من السافرات الافغانيات اللاتي يتجولن في المراكز التجارية الحديثة بشارع «شهرانو» ومتاجر حي «وزير اكبر خان» بحثا عن خطوط الموضة والعطور النسائية التي تفوح من البوتيكات الصغيرة، الا انني كنت اتذكر الايام الخوالي التي زرت فيها افغانستان ايام طالبان قبل سقوط الحركة الاصولية بنحو ستة شهور، حيث ركبت تاكسيا «بالنفر» من وسط العاصمة كابل عند الفجر واتجهت مع افغان اخرين ركبوا خلفي السيارة التويوتا الصفراء متجهين الى قندهار مركز الملا عمر التي وصلتها في التاسعة مساء بعد رحلة عناء وشقاء على الطريق الممتلئ بحفر اشبه بحفر المريخ. كان الخوف من سطوة طالبان يردع المجرمين عن السرقة والخطف. اما اليوم فالخروج من العاصمة كابل بالنسبة للصحافي الاجنبي يعتبر مغامرة غير محسوبة النتائج. ولا يتحرك احد من الصحافيين دون صحبة المترجمين او افراد الحماية المخصصة، وكان زميلي الصحافي الاسترالي ينظر لي بعجب او ببلاهة عندما عرف اني ذهبت الى افغانستان بدون شراء تأمين خاص على حياتي قبل القدوم الى كابل، ويقول لي انه الجنون بعينه. كنت اقرب لتصديق قوله عندما كان لوفنتور المتحدث الاعلامي باسم السفارة الاميركية يبدو مترددا في ركوب الحافلة الصغيرة التي ستأخذ مجموعة الصحافيين الى مطار كابل في طريق العودة الى بلادهم، لانه على حد قوله مسموح له بموجب الاعراف الدبلوماسية ركوب سيارات مصفحة فقط وتحت حراسة مشددة داخل العاصمة الافغانية. وكنت اتفهم موقف وشجاعة لوفنتور وهو صحافي اميركي سابق عمل بوكالات الانباء والتليفزيون قبل ان يستهويه العمل الديبلوماسي، في اصراره على توديع الصحافيين بنفسه بمطار كابل رغم المخاطر التي تحيط به باعتباره هدفا اميركيا بالنسبة لعناصر طالبان. وهناك كثير من الدبلوماسيين العاملين في السفارات الغربية العاملة في كابل لم يغادروا حي السفارات وزير اكبر خان المقر السابق «للافغان العرب» الذين كانوا يقيمون في فيلل فخمة، منذ عامين او ثلاثة اعوام بسبب المخاوف الامنية.

وداخل السفارة الاميركية بكابل تتوفر جميع وسائل الراحة للعاملين والدبلوماسيين، وفي كافتيريا السفارة توجد انواع من الطعام تضاهي مطاعم خمسة نجوم في اوروبا، وباسعار رخيصة للغاية. اما الشاي والقهوة والماء المثلج فمجانا وبلا حرج، ومعظم انواع الاكل بحسب مصادر السفارة تأتي رأسا من الولايات المتحدة. وعندما انتقلت بالسيارة من مضيفة «باباساليس» بشارع شهرانو باتجاه السفارة الاميركية للقاء السفير الاميركي الجديد رونالد نويمان بعد المرور على مراكز التفتيش المدججة بالسلاح خارج حي «وزير اكبر خان» كنت اشعر اني انتقل الى عالم اخر بعيدا عن مناظر الفقر في كابل والمجاري التي تطفح على جانبي الشوارع والاطفال المساكين الذين يجرون وراء الاجانب بحثا عن صدقة او احسان، وما ان وطئت قدماي ارض السفارة الاميركية من الداخل كدت احس بالاحرى اني في لويزينا او كاليفورنيا من كثرة الورود المصفوفة بعناية على جانبي البيوت المتنقلة المخصصة لسكن الدبلوماسيين حتى قرب الانتهاء من افتتاح السفارة الافغانية بحلول نهاية العام الحالي، كما اشار مايكل ماسي مدير العلاقات العامة بالسفارة الاميركية في رسالة الكترونية تلقتها «الشرق الاوسط» اول من امس. ودورات المياه في السفارة الاميركية بكابل نظيفة للغاية ومعقمة وعلى جدرانها صور زيتية انيقة من التراث الافغاني واخرى تعبر عن الطبيعة الافغانية خلال اشهر الصيف من قمم مكسوة بالثلوج وصور لانهار وشلالات تتدفق من بين الجبال، أي انها بالفعل كما يقول المصريون «بيت الراحة»، مقارنة بدورات مياه مضيفة بابا ساليس التي كنت اقيم فيها او مطاعم العاصمة كابل فهي بلااستثناء «بيت العذاب والشقاء». والحديث لا ينقطع بين زوار العاصمة الافغانية من الاجانب عن التطعيم ضد الملاريا، خلال اشهر الصيف، حيث الناموس الزائر ليلا بلا استئذان لغرف الفنادق الفخمة او حتى المتواضعة المستوى، والبعض كان اكثر حرصا فأحضر معه «ناموسية» وهي شبكة توضع فوق السرير لمنع زيارة الناموس. وبينما كان فندق الانتركونتيننتال الذي كان يحتله «الافغان العرب» في عهد طالبان هو الملاذ الوحيد بأمر الملالي لزوار العاصمة من الاجانب حتى يكونوا تحت اعينهم، ولا يمكن الخروج من الفندق الذي يشرف على حراسته اصحاب العمامات السوداء في الصباح الباكر دون صحبة المترجم الذي يعتمر نفس العمامة حفاظا على حياة الصحافي، او بعبارة اوضح لوضع عين لصيقة على تحركاته هنا وهناك حتى لا يلتقي احدا من رموز المعارضة او النساء اللاتي حرمن من التعليم. اما اليوم ففي عصر الحرية والديمقراطية الذي تعيشه العاصمة كابل في عهد الرئيس كرزاي فهناك عشرات الفنادق من بينها فندق الانتركونتيننتال الذي تحسن كثيرا وزادت اسعاره ايضا، وهناك ايضا فندق «مصطفى دوت كوم» في وسط العاصمة وهو تقريبا ملجأ معظم الصحافيين الاجانب وسعر الغرفة فيه نحو 60 دولارا في اليوم الواحد، بالاضافة الى فنادق اخرى تعود لقادة المجاهدين الذين اكتشفوا بعد سنوات من القتل والتدمير ان الضيافة مهنة مربحة في عهد تموج فيه العاصمة الافغانية بزوارها من الاجانب من صحافيين وموظفين دوليين. والوضع في شوارع العاصمة الافغانية لم يختلف كثيرا عما كانت عليه بين ايام طالبان وبين اليوم، فتصريف المجاري ما زال على جانبي الشوارع حتى في حي السفارات الانيق، باستثناء حركة نشطة من رصف الشوارع اطلت بوجهها على بعض الاحياء، بالاضافة الى عمارات زجاجية انيقة تطل على الميادين وتعود الى لوردات المجاهدين ومافيا المخدرات، والجميع يعلم وكأنه من المسلمات، واشار لي مترجم السفارة الاميركية على فيللا فخمة مبنية بالطوب البني والزجاج الملون وقال انها تعود الى صبغة الله مجددي احد اقطاب المجاهدين. والوضع المالي لم يختلف كثيرا بين ايام طالبان والوقت الحاضر في العاصمة الافغانية، فالذاهب اليها يجب ان يأخذ معه اكبر كمية من الدولارات، لان كابل لا تعترف «بالاميركان اكسبريس» او الفيزا او البطاقات البلاستيكية، لا شيء سوى «المعلم» او سيدة العملات «الدولار الاخضر»، ويليه الافغاني او العملة الورقية الافغانية وكذلك الروبية الباكستانية حيث توجد حركة تجارة نشطة عبر كويتا وبيشاور مع كابل.

ويقف العشرات من تجار العملة بالقرب من سوق الحمام او شارع تشيكن ستريت بوسط العاصمة كابل، واحيانا يجلسون على الارض وامامهم رزم مالية مختلفة ويقفزون من هنا وهناك وفي ايدهم رزمات كبيرة من «الافغاني» و«الروبية الباكستانية» بحثا عن الصحافيين ورواد العاصمة من الاجانب لتغيير العملة لهم. وبينما كانت الهواتف المربوطة بالاقمار الصناعية ايام طالبان هي وسيلة الاتصال الوحيدة بين كابل والعالم الخارجي، الا ان اليوم هناك اجيال من هواتف الجوال تربط كابل عبر شبكة قوية بالعالم الخارجي، وفي واجهة المطار اعلانات ملونة جميلة بجانب صور احمد شاه مسعود زعيم التحالف الشمالي الذي اغتالته «القاعدة» قبل يومين من هجمات 11 سبتمبر (ايلول) 2001 تعلن عن اسعار جذابة لشرائح الجوال مع خدمات افضل للزوار الجدد. وفيما كان الصحافي الزائر للعاصمة الافغانية ايام طالبان في حاجة الى مترجم «طالباني» يرافقه على مدار اليوم، والمترجم يرتدي عمامة سوداء ومعين من قبل وزارة الخارجية التي كان يشرف عليها وكيل احمد متوكل الذي تصالح مؤخرا مع الحكومة وترشح للانتخابات عن دائرة قندهار، ومرتب المترجم انذاك كان يبلغ نحو 30 دولارا في اليوم بالاضافة الى تاكسي للتنقلات يستلم نحو 25 دولارا عن اليوم الواحد، اما اليوم فان مهنة الترجمة تعتبر من افضل المهن في عاصمة يبلغ مرتب الطبيب فيها نحو 40 دولار في الشهر فان مرتب المترجم اليوم يتعدى 100 دولارا بكثير في وقت تزدحم فيه العاصمة الافغانية بالعشرات من الصحافيين من جميع الجنسيات لتغطية الانتخابات.

والمترجمون الافغان من الجيل الجديد اليوم يعتبرون عملة صعبة، وهناك العشرات منهم يعملون في السفارات الغربية بسبب اجادتهم للغات الاجنبية، وهناك اطباء ومهندسون واعلاميون تركوا المهنة من اجل عيون الدولار الاخضر.