الصحافة المكتوبة في بريطانيا تجدد نفسها تحت تأثير ضغوط عصر السرعة

«الغارديان» تنتقل إلى «بيرلينر» غدا

TT

بعد أكثر من 180 سنة منذ تأسيسها، تنتظر صحيفة «الغارديان» البريطانية ولادة جديدة غداً لتبدأ مرحلة مميزة في علاقتها مع قرائها. وتأتي هذه الولادة بانتقال «الغارديان» الى حجم «بيرلينر» المصغر عن حجمها الكبير التقليدي. وربما يبدو التغيير بسيطا، الا أنه يأتي ضمن جملة من التطورات في عالم الصحافة المكتوبة في المملكة المتحدة خلال السنتين الماضيتين. وعلى الرغم من ان اجمالي مبيعات الاعلانات في الصحافة البريطانية المكتوبة عام 2004 فاق 1.9 بليون جنيه استرليني، إلا ان اجمالي الاعلانات في الصحف اليومية الجدية في بريطانيا لم يتعد 335 مليون جنيه استرليني. وأصبح من المعروف عالميا ان الصحافة المكتوبة تواجه تحديات حقيقية في وجه انتشار الاعلام المرئي، عبر قنوات التلفزيون الاخبارية ومواقع الإنترنت، مما يجبرها على البحث باستمرار عن جديد.

الغارديان غدا < وفي اتصال مع «الغارديان»، قال نائب رئيس تحريرها بول جونسون لــ«الشرق الأوسط» ان تغيير حجم «الغارديان» من فصال «برودشيت» الى «بيرلينر» هو أول ما سينتبه اليه قراء الصحيفة غداً، لكنه ليس التغيير الوحيد. وينتقل عدد يوم غد من «الغارديان» من حجم «برودشيت» (60 ـ 75 سنتيمترا) الكبير التقليدي، والذي استخدمته الصحف الجدية في بريطانيا، الى حجم «بيرلينر» الاصغر(31.5 ـ 47 سنتيمترا)، لتصبح الصحيفة الوحيدة في المملكة المتحدة بهذا الحجم. وتعتمد صحف اوروبية مثل «لوموند» الفرنسية و«لا ريبابليكا» الايطالية على حجم «بيرلينر»، ولكن لم يعتد القارئ البريطاني على هذا الحجم من قبل.

ولكن حجمها ليس وحده الذي سيجلعها «فريدة من نوعها» بحسب جونسون، فهي ستكون الصحيفة الوحيدة التي تطبع جميع صفحاتها بالالوان. وكان قرار الانتقال الى الحجم الجديد جعل من الضروري بناء مطابع جديدة للصحيفة، الأمر الذي كلف حوالى 50 مليون جنيه استرليني. وأوضح جونسون ان القائمين على الصحيفة قرروا «استخدام افضل التقنيات للطباعة، مما يجعل صفحاتنا الملونة اشبه بصفحات المجلات». ولفت جونسون الى ان «العصر الجديد للصحافة المكتوبة يعني انه واجب علينا تقديم صفحات شيقة وجذابة، في وقت نواجه منافسة شديدة من الصحف المحلية ووسائل الاعلام الأخرى مثل التلفزيون». وأضاف ان استخدام «الصور الذكية» ضروري لأن «الغارديان تعتبر نفسها صحيفة ذات جودة عالية وقراؤها أذكياء يريدون الصورة التي تخاطبهم». وسيكون التغيير الثالث على «الغارديان» انها ستصبح «صحيفة مجزئة» بحسب جونسون. فستنشر الصحيفة ملحقا رياضيا كل يوم من 12 صفحة، بالاعتماد على بعض المحررين الجدد لتقديم اخبار الرياضة «بطريقة مغرية ومبتكرة». وبالاضافة الى الملحق الرياضي، تحول ملحق «جي تو»G2 المعروف لدى «الغارديان» الى شبه مجلة يومية للمواضيع المنوعة. ولفت جونسون الى ان «جي تو» سيكون نصف حجم الصحيفة مما يجعله سهل الحمل والاحتفاظ به خلال النهار. تغيير لا بد منه < ويأتي التغيير في حجم «الغارديان» في اعقاب انتقال صحيفة «الانتدبندنت» من «برودشيت» الى «كومباكت»compact وهذه تسمية اطلقتها الصحيفة على نفسها، على رغم من ان الحجم المصغر (29.7 ـ 42 سنتيمترا) هو تقليدياً معروف بـ «تابلويد» وهو الحجم الذي تعتمده الصحف الشعبية. وكانت الصحف البريطانية منقسمة تحت تسميتين، «برودشيت» وهو الحجم الأكبر والذي اعتمدته الصحف الجدية و«تابلويد» وهو الحجم الصغير للصحف الشعبية. ولكن «اندبندنت» قررت شق الصف، والانتقال الى الحجم الاصغر، لكنها رفضت استخدام الاسم التقليدي، متمسكة بلقب «الصحيفة اليومية الجيدة». وفي بريطانيا خمسة صحف تتمتع بهذا اللقب، هي: «انبدندنت» و«الغارديان» و«ذا تايمز» و«ذا ديلي تيليغراف» و«ذا فاينانشال تايمز». الا ان من بين الصحف الخمس، لم تبق، سوى الأخيرتين تحتفظان بالحجم التقليدي. وبعد انتقال «الانتدبندنت» شهر اكتوبر (تشرين الأول) عام 2003، التحقت «ذا تايمز» بها شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام ذاته. وبعد سبعة أشهر من نشر طبعتين «كومباكت» و«برودشيت» يوميا، استقرت «انتدبندنت» على الحجم الصغير، بينما استغرقت «ذا تايمز» عاما كاملا حتى تتخلى نهائيا عن «رودشيت» شهر نوفمبر 2004.

وقال رئيس قسم «الصحافة والنشر» في جامعة سيتي اللندنية البروفيسور ادريان مونك لـ «الشرق الأوسط» لقد «كان على الغارديان ان تفعل شيئا في وجه الاحصاءات التي بينت تراجع نسب بيعها بالمقارنة مع الاندبندنت التي بدأت تقلل من خسائرها بحلتها الجديدة». واعتبر مونك انه «بعد اتجاه انتدبندنت الى حجم كومباكت، اضطرت جميع الصحف البريطانية إلى ابداء رد فعل». واعترف جونسون بأن «الغارديان» صممت فصالين على شاكلة «تابلويد»، الا انها اتخذت «القرار الصعب» واختارت حجما جديدا كليا على القارئ البريطاني. وأوضح جونسون: «ان الانتقال الى تابلويد عادة ما يعني ان الصحيفة تركز على موضوع واحد في صحفتها الأولى ـ ومن غير الممكن ان يكون هناك موضوع واحدا فقط كل يوم لتركز عليه الصحيفة». وكانت اشارة جونسون الى «انتدبنتدنت» واضحة، فمنذ ان انتقلت الى الحجم الاصغر، ركزت الصحيفة على موضوع أو صورة واحدة في صفحتها الرئيسية. وأردف جونسون قائلا: «حجم التابلويد يضطر المحرر الى المبالغة في تكبير بعض المواضع واختصار غيرها». وأضاف انه لو اتبعت «الغارديان» فصال «تابلويد، لاضطرت الى اصدار صحيفة بـ 250 صفحة للحفاظ على جميع موادها المعروفة. عصر السرعة < واتفق جونسون مع مونك بأن عصر السرعة يعني ان الصحف يجب ان تقدم اخبارها بطريقة حديثة. وهنا الاعتماد على الصور الجذابة والمقالات المصغرة يسيطر على اغلبية الصحف البريطانية.

وقال جونسون ان «الغارديان» بحثت مع وكالات الاعلانات اقتراحات التغيير قبل المضي قدماً، «لكي نتأكد من تقديم أفضل الخدمات للقراء والمعلنين». وأكد مونك ان «صحيفة «الغارديان» تعتمد على الاعلانات ذات الحجم المتوسط، والاعلانات عن الوظائف التي ينبغي ان تكون أكبر من الكومباكت، وذلك أثر على اختيارنا النهائي للحجم الجديد». ومع انتشار المواقع الإلكترونية لتزويد الاخبار، بالإضافة الى قنوات التلفزيون الاخبارية، اصبحت الصحف في القرن الحادي والعشرين تواجه تحديات كثيرة للاستمرار في جذب القراء والمعلنين. ولقد تقدمت جميع الصحف البريطانية ذات الجودة بتأسيس مواقع إلكترونية تنقل اخبارها. وقال جونسون ان «الموقع الإلكتروني لـ «الغارديان» ناجح جدا، فلديه 11 مليون قارئ، وقد نال جائزة أفضل صحيفة على الإنترنت عالميا. ولذلك، أكد جونسون ان «محتوى الصحيفة لن يتغير، فهو يعجب القارئ، وانما ما نحتاجه هو تسهيل قراءة الصحيفة في عصر السرعة». ولذلك، اصبح الحجم الأصغر ضرورياً للقراء البريطانيين الذين عادة ما يقرأ ون الصحف اليومية وهم يتنقلون في وسائل النقل العام. واشار مونك الى ان «التغيير في الحجم جاء في المقام الأول من أجل تزويد القراء بصحيفة يتنقلون بها بسهولة، فالعامل الأهم بالنسبة الى القراء البريطانيين هو الراحة. وكان بعض القراء في الماضي يبتعدون عن الصحف الكبرى بسبب حجمها، لكنهم الآن ينجذبون الى صحف مثل اندبندنت».

هل الحجم هو سر النجاح؟

< خلال الاسابيع المقبلة سيراقب المحررون والمراقبون رد فعل القراء البريطانيين تجاه حلة «الغارديان» الجديدة. وستبين الاستطلاعات العامة مدى توفيق اختيار حجم «بيرلينر» لصحيفة «الغارديان». وقال مونك انه متأكد من ان «الغارديان ستقدم تصاميم رائعة ومثيرة للانتباه». ولكنه تابع: «هذا التغيير يعطي الصحيفة أفضلية لدى القارئ لفترة محددة، فبعد تغيير الحجم مرة واحدة، لا يمكن تغييره مرة ثانية». وقال نائب رئيس تحرير «الغارديان» بأن طاقم التحرير يعلم مدى أهمية الاستمرار بالإبداع بعد التغيير الأولي. واضاف: «الحملة الاعلانية خلال الاسابيع المقبلة ستثبت هوية الغارديان الليبرالية ولكن باطار حديث ومشوق». وخلص مونك إلى القول بأن «الصحف البريطانية جميلة المظهر ومتجددة، لكنها في سوق يتقلص باستمرار». ولفت الى ان مراقبة وسط الصحافة المكتوبة البريطانية مفيد «لأن ساحة الصحافة المكتوبة في بريطانيا هي الاكثر امتيازاً ومنافسة في العالم». وعلى رغم من ان جونسون ابدى تفاؤله بأن «هوية الغارديان الفريدة تعني انها ناجحة ومستمرة في تألقها»، الا انه يجب انتظار احصاءات مبيعات الصحيفة خلال الأشهر المقبلة لمعرفة نتيجة مغامرة «الغارديان» الأخيرة.