صحافة في مواجهة الموت.. مراسلة من بغداد

TT

ذات يوم اخبرتني امرأة عجوز في مدينة النجف ابان المعارك التي اشتعلت هناك بين القوات الاميركية والعراقية من جهة وبين انصار الزعيم الشيعي المتشدد مقتدى الصدر، بأن الولوج في عالم تلك المدينة في ذلك الظرف الصعب كالولوج في عالم القبور وسراديبها التي عرفت بها، وقالت في حينها بلهجة عراقية محببة اذهبي الى بيتك قبل ان تقتلي وتدفني بين تلك القبور! لكني والسائق الذي رافقني على مضض في تلك الفترة اصررنا على البحث عن حقيقة ما جرى اثناء وبعد تلك المعارك الطاحنة، التي راح ضحيتها الكثير من الابرياء، وعدنا الى بغداد بعد ان امضينا ساعات صعبة بين الموت والموت ولا ثالث لهما، وفي صبيحة اليوم التالي كانت صورة النجف وتقريرنا يتصدر طبعة بغداد والطبعة الدولية، نسينا لحظتها فحيح الموت الذي واجهناه في تلك المدينة، ورحنا نبحث عن حكاية اخرى تمسح الدمع عنا.

ومن هنا بدأت الرواية والتجربة التي مضت بين الفلوجة والنجف وكركوك وبغداد والحلة ومدن عراقية اخرى، فما ان تدق ساعة بغداد في احلأمنا معلنة الصباح، حتى تبدأ رحلتنا و كل الزملاء ممن يعمل في الصحيفة، محاولين ان نجد لنا مكانا وسط زحام السيارات المفخخة، وانقطاعات التيار الكهربائي الذي يحول في احيان كثيرة بيننا وبين التواصل مع زملائنا في لندن.

اول خطوة نحو أي مكان في بغداد تتطلب منا ان نعد انفسنا قبل ثلاث ساعات من الموعد الذي قد نحدده مع أي شخص في أي مكان، تحسبا لإغلاقات الطرق التي تحدث فجأة بعد أي انفجار، الذي عادة ما نتنبأ به عندما يفتتح الصباح بانفجار مدو يهز اركان العاصمة، وفي لحظتها نقول لبعضنا البعض احذر فاليوم يبدو مشحونا بالإنفجارات وفعلا تتحقق نبوءتنا المشؤومة التي غالبا ما تؤخر العمل ساعات جديدة مضافة الى ساعات حسبناها قبلا، وتبدأ سلسلة الاعتذارات من الشخص المنتظر، ونجده ايضا محاصرا في طريق آخر، بفعل الحواجز الكونكريتية التي انتشرت بشكل لافت للنظر في كل مكان ببغداد، حتى اصبحت احد معالمها التي اعتاد المواطن على رؤيتها يوميا وهي في تزايد مستمر. الشوارع مزدحمة واحدنا يبلغ الثاني عبر المحمول انه لن يصل إلى الموعد المحدد، وغالبا ما يكون الزميل نعمان الهيمص في طريقه الى قصر المؤتمرات عندما يفاجئه انتحاري في مطار المثنى، ليقتل جموعا من المتطوعين للجيش ويقول في حينها لقد حملوا الجثث بالاكياس يا هدى وسأسلك الطريق الاخر علّي اصل الى قصر المؤتمرات في وقت انعقاد الجمعية الوطنية.

وفي مكان آخر يكون الزملاء مهدي العامري او حيدر نجم او نصير العلي يبحثون في شوارع بغداد عن منفذ يوصلهم الى اهدافهم في وزارات الدولة، وفي تلك اللحظة يتصل زميلنا من البصرة جاسم داخل او نبز كمال نوري من كردستان العراق، ليقولا اين انت يا هدى وأرد انا في الشارع، وغالبا ما تكون هذه عبارتي لكل الزملاء، لان الحقيقة دائما في الشارع ولان الشارع مزدحم وحتما البقاء فيه من ضرورات الحياة في بغداد، ثم اقول سأصل الى المكان الذي ارومه وأتوجه الى مقهى الإنترنت لتسلم المواضيع منكم، احيانا يكون طريقي عبر مكان المكتب الذي بدأنا بتأسيسه قبل عامين وأغلقناه بسبب التهديدات من قبل المسلحين، وكل العراق مهدد وليس صحيفة الشرق الاوسط فحسب، فكل يوم نواجه السيارات المفخخة والعبوات الناسفة وتهديدات تطلق بعد أي موضوع، قد لا يعجب أي جهة كانت في العراق، حتى وان كان الموضوع قد كتب في لندن، او عبر مقال جاء عبر الإنترنت، نتلقى التهديدات المعلنة والخفية التي تصلنا عبر بعض الزملاء، الذين يحضرون تجمعات معينة لتلك الجماعات، احدهم يقول سنذبحكم كما تذبح النعاج وآخر يقول قررنا نحن محكمة (...) ان ننسف مقر الصحيفة، وآخر يعلن بأننا كفار ولا نعرف كيف يقول مثل هذا الكلام عبد مسلم، وآخرون في الحكومة وخارجها لا تعجبهم التقارير الصادرة عن بغداد، ويؤكدون عبر البعض «علينا ان نعرف كل كلمة تصدر منكم قبل وصولها الى لندن»، وجهة ثانية تقول «عليكم ان ترفضوا طبع الصحيفة اذا وجدتم فيها ليلا، كلاما يسيئ الينا، وعليكم ان تعتذروا منا قبل ان..». والتهديدات لها اول وليس لها آخر، وكانت اجابتنا اما وجها لوجه او عن طريق من يمثلهم او ينقل الخبر والتهديد الينا، اذ نقول نحن صحافيون وسنلتزم بميثاق شرف الكلمة ولن توقفنا التهديدات، ونحن لا نعمل لجهة معينة ولا نمثل حزبا بعينه، وكانت اجاباتنا تثير البعض احيانا وتوقف آخرين احيانا اخرى، لكنها مستمرة لان الجماعات كثيرة في العراق، وانتماءات الاشخاص داخل او خارج الحكومة كثيرة هي الاخرى، المهم ان في كل ما يحصل، ان جميع الزملاء في العمل قد تخيفهم بعض تلك التهديدات ان وصلت الى التخويف بالقتل، لكن الامر الاكثر اهمية هو ان حبهم للمهنة يتغلب في احيان كثيرة على شبح الموت، الذي يهدد به البعض هنا. وقد اتفقنا ذات يوم مع احد الزملاء للذهاب الى احدى المحاكم التي انشئت بفتوى من احدهم، لنعرف حقيقة الامر ولنقول لهم كفى فحياة الناس ليست ملكا لأحد، ولكن احد المواضيع التي كلفنا بها من مكتب لندن اضاعت حماستنا للذهاب هناك، ومواجهة من يهددنا لننسى الامر، بل انه تلاشى تماما في اليوم التالي عندما كان الموضوع الذي كلفنا به على الصفحة الاولى من الشرق الاوسط.

والقضية لا تنتهي عند التهديد والوعيد بل تتعدى ذلك الى ان البعض ممن نلتقيهم يقول ما يريد بحق من يريد، ثم يعود ويغير كلامه بعد ساعات، او بعد النشر ونحن نعرف جيدا ان التهديد، لا يصلنا نحن فقط بل كل من يقول عكس ارادة الاخرين، وأحيانا تحصل مساومات على ما يقال وما يصرح به، وكل الصحافيين يقعون في هذه الفترة العصيبة بهذا المطب، وهو تناقض التصريحات لشخص واحد، ولكننا في كل مرة نخرج من المطبات عبر العين الاخرى هناك في لندن. ونعرف ان الاوضاع السياسية والأمنية غير المستقرة تؤدي الى كل ذلك. اللقاءات بيننا اصبحت اقل من السابق، بعد اغلاق المكتب، لكننا نتواصل بطرق ابتكرناها وأصبحت لازمتنا اليومية، ونجددها كل يوم وعندما يحين موعد الارسال الى مقر الصحيفة في لندن، تبدأ معاناتنا الجديدة وهي الوقت ومقاهي الإنترنت والكهرباء غير الودودة معنا ابدا، اضافة الى الطرق التي لا تتوانى عن ازعاجنا في الوصول الى المكان الذي نرومه، ونبدأ بالإرسال والاستلام من الزملاء لننظم عملية الارسال الى لندن، بعد ان كنا صباحا قد اتفقنا اين يذهب كل واحد منا، وأحيانا نرافق بعضنا في تلك المهمات، وتدور بيننا كاميرا واحدة قد نتصارع عليها من اجل التقاط صورة لمكان او شخصية، وبين لحظات الارسال والاستلام لا تنقطع اتصالاتنا مع بعضنا، اين هذا الموضوع ماذا فعلنا حول تلك الشخصية، وأين سنذهب في اليوم التالي وكل واحد فينا يظن ان الصحيفة ستفرد لكل مواضيع العراق، وننسى ان هناك مئات المواضيع قادمة من كل دول العالم الى مقر الصحيفة في لندن، لكن تعب اليوم ومعاناته تجعلنا نظن اننا وحدنا من يعمل ويعاني، وننسى ان لنا زملاء في كل مكان قد يواجهون ذات الصعوبة وان كانت بشكل آخر، وربما تكون مواضيعهم اكثر اهمية وقوة من مواضيعنا في العراق هذا البلد الساخن بأجوائه وأحداثه.

تبدو الصورة قد انتهت للقارئ عند هذا الحد، لكننا نعود الى بيوتنا محملين بالحكايات والمعاناة، التي ربما نقلها لنا طفل صغير مات مع والدته وهو في احضانها بفعل سيارة مفخخة، نحمل حكايانا ليوم آخر، ربما سيكون افضل ممن سبقه لكننا نفاجأ باليوم التالي وإذا بنا نحاول ان نضيف وقتا إلى اوقاتنا لنصل الى الحقيقة في الوقت المحدد، والذي تفصلنا عن دقات ساعة لندن.. اربع دقات فقط ويطلب منا الزملاء في لندن حتى وان لم يتم الاتصال بيننا جديد هذا اليوم.