هل دخلت جوديث ميلر السجن دفاعا عن مبدأ صحافي .. أم دفاعا عن صديقها؟

المصادر الخاصة.. والتحقق من صدقية الخبر

TT

قالت جوديث ميلر، الصحافية في جريدة «نيويورك تايمز»، انها ستكتب كتابا عن تجربتها في فضيحة «بليمغيت». وعلق صحافي اميركي بأنها تخطط ليتحول الكتاب الى فيلم سينمائي. وقال ان ميلر تريد ان تكون «جون آرك» الصحافة الاميركية (اشارة الى الفتاة الفرنسية التي دافعت، قبل اربعمائة سنة، عن حرية فرنسا، ثم احرقت، ثم اعتبرت شهيدة، ثم اعلنت قديسة). اذا تحول كتاب ميلر الى فيلم، ربما سيعيد الى الاذهان كتاب وفيلم «رجال الرئيس» عن دور الصحافيين بوب وودورد وكارل بيرنشتاين، من جريدة «واشنطن بوست»، في فضيحة «ووترغيت» التي اسقطت، قبل ثلاثين سنة، الرئيس نيكسون.

اذا كتبت ميلر الكتاب، لابد ان تحاول زيادة الاقبال عليه بنشر معلومات لم تنشر حتى الآن عن فضيحة «بليمغيت». هذا هو الاسم الجديد لفضيحة كشف اسم «فاليري بليم»، الجاسوسة في وكالة الاستخبارات المركزية (سي آى ايه)، والتي كشف اسمها للصحافيين «لويس لبي»، مستشار نائب الرئيس الاميركي «ديك شيني»، حتى استقال في الاسبوع الماضي، عندما ادين وقدم الى المحاكمة لأنه كذب خلال تحقيقات الشرطة معه في الموضوع.

وتستغل الصحافية ميلر كل فرصة لزيادة شهرتها. تحدثت في الاسبوع الماضي في مؤتمر جمعية الصحافيين الاميركيين المتفرغين، وستشهد في الاسبوع القادم في الكونغرس الذي يناقش اصدر قانون لحماية الصحافيين الذين يرفضون كشف اسماء مصادر اخبارهم.

لكن نجاح او فشل ميلر في ان تصبح «جون آرك» الصحافة الاميركية يعتمد على نقطة هامة، وهي: هل سجنت ثلاثة شهور لتحمي «لبي» لأنه مصدر خبر نزيه؟ او لتحميه لأنه مصدر خبر «جريمة»؟ (يعتبر القانون الاميركي كشف اسم جاسوسة اميركية جريمة).

«ستيفن انغلبيرغ»، كان مسؤولا عن التحقيقات في جريدة «نيويورك تايمز»، والآن مدير تحرير تنفيذي في جريدة «اورغونيان» في بورتلاند (في ولاية اوريغون)، من المتخصصين في موضوع مصادر الاخبار الخاصة. وقال، في مقابلة مع دورية «كولمبيا جورناليزم ريفيو»، ان الناس في الماضي لم يهتموا بالتأكد من كل «مصدر خاص» او «مصدر مسؤول» او «مصدر مجهول» الخ... لكن، خلال السنوات العشر الماضية، زاد اتهام الاميركيين للصحافيين بأنهم غير صادقين. وادى ذلك الى زيادة الشفافية في الصحافة الاميركية، والى زيادة نشر الاخبار اعتمادا على مصادر توافق على نشر اسمائها ووظائفها.

وقال «انغلبيرغ» ان الحرص على نشر الاسم والوظيفة يزيد مع زيادة اهمية الخبر، مثل: «قال مصدر خاص ان مستر سميث لص كبير». هذا اتهام خطير، وعلى الصحافي ان يفعل واحدا من شيئين.. اولا، يصر على نشر اسم ووظيفة المصدر. ثانيا، يبحث عن مصادر اخرى، تؤكد الاتهام، وتوافق على نشر اسمائها ووظائفها.

ونصح «انغلبيرغ» الصحافيين الذين لابد ان يعتمدوا على «مصدر خاص» بان يتأكدوا من الخبر من «مصدر خاص» ثان، او ثالث، او رابع. وان زيادة عدد «المصادر الخاصة» يزيد مصداقية الخبر، حتى اذا لم توافق المصادر على نشر اسمائها ووظائفها.

مثلا «قال مصدر خاص ان القوات الاميركية في العراق عددها كذا». يقدر الصحافي في هذه الحالة على التأكد من الرقم من البنتاغون، الذي ربما يؤكد الرقم او ينفيه. وفي الحالتين يبرئ الصحافي ذمته لأنه اعتمد على اكثر من مصدر واحد.

ونصح «انغلبيرغ» رؤساء تحرير الصحف بالتأكد من حقيقة كل «مصدر خاص» يرد في خبر هام كتبه مراسل او محرر. وقال ان واجب المراسل او المحرر ابلاغ رئيس التحرير باسم الشخص.

عمل انعلبيرغ مديرا للتحقيقات في جريدة «نيويورك تايمز» عندما نشرت الصحافية ميلر تحقيقات عن اسلحة الدمار الشامل في العراق، لكنه قال انه لم يشرف على كل تحقيقاتها.

لكن ميلر اخطأت مرات كثيرة لأنها لم تقارن معلومات «مصدر خاص» مع «مصدر خاص» ثان، او مع «مصدر خاص» مضاد.

اخطأت «ميلر» عندما نشرت خبرا، قبل غزو العراق، اعتمادا على «مصدر خاص» بأن العراق يملك كميات كبيرة من اسلحة الدمار الشامل. واتضح، فيما بعد، ان هذا المصدر كان احمد الجلبي، نائب رئيس الوزراء الحالي في العراق، والذي تعاون مع البنتاغون لغزو العراق. لم تقارن ميلر المعلومات مع «مصدر خاص» مضاد في الامم المتحدة مثلا، او في لجنة الطاقة الدولية مثلا.

واخطأت «ميلر» عندما نشرت، في ذلك الوقت ايضا، خبرا اعتمادا على «مصدر عراقي خاص» عن معامل كيماوية عراقية. واتضح، فيما بعد، ان هذا المصدر كان صديقا لاحمد الجلبي، وادعى انه عمل في معامل كيماوية في العراق. لكن تأكد فيما بعد انه كاذب.

لكن خطأ «ميلر» الاكبر كان بعد غزو العراق، عندما حصلت على معلومات من «لبي»، مستشار نائب الرئيس «تشيني»، عن اسم الجاسوسة «فاليري بليم». كان يجب عليها ان تقارن هذه المعلومات من «مصدر خاص» مع معلومات من «مصدر خاص» مضاد، في وكالة الاستخبارات المركزية مثلا. اذا فعلت «ميلر» هذا، ربما كانت الوكالة ستنفي وجود جاسوسة بهذا الاسم، او ستؤكد وجودها، لكن تحذرها بان نشر اسمها جريمة يعاقب عليها القانون الاميركي. اذا فعلت «ميلر» هذا، كانت ستريح نفسها، وستريح مصدرها، وستريح ادارة بوش من اكبر فضيحة خلال الست سنوات الماضية. واخطأت «ميلر»، مرة اخرى، عندما اشتكت وكالة الاستخبارات المركزية لوزارة العدل، وقالت ان كشف اسم جاسوسة اميركية جريمة يعاقب عليها القانون، وطلبت من وزارة العدل التحقيق في الموضوع. رفضت ميلر ان تقول لمحققي وزارة العدل ان لبي هو الذي كشف لها اسم الجاسوسة. وكذبت عندما قالت للمحققين ان «المصدر الخاص» رفض طلبها بكشف اسمه. وفضلت ان تدخل السجن لثلاثة شهور.

ولم تغير «ميلر» رأيها الا بعد ان قدم لها المحققون ادلة تؤكد ان «لبي» هو مصدر الخبر. وان «لبي» لا يرفض نشر اسمه. خرجت «ميلر» من السجن، وذهبت الى المحكمة، وشهدت ضد «لبي».

السؤال الآن هو: هل ستقنع «ميلر» الناس بانها دخلت السجن دفاعا عن مبدأ صحافي مقدس هو حماية اسم المصدر؟ او انها دخلت السجن حتى لا تكشف اسم صديقها، وهي تعرف انه ارتكب جريمة؟

هل ستصبح «جون آرك» الصحافة الاميركية؟ او «طائشة» الصحافة الاميركية؟ استعملت «ميلر»، في السنة الماضية، كلمة «طائشة» (رن اموك) في وصف نفسها.