الإعلام السعودي.. وتعامله مع القضية الدنماركية

هل كانت مناسبة لكشف إرتجال المعلومة الصحافية..أم اختباراً لإيمان الكتاب؟

TT

في احد المقاهي، يجلس رجلان يتجاذبان أطراف الحديث حول قضية الصحيفة الدنماركية التي أساءت للرسول الكريم، عليه الصلاة والسلام. ويتحدث الاول بجدية عن جدوى المقاطعة اقتصادياً وتأثيرها على الدنمارك، ويورد معلومة تفيد بأن 50 في المائة من صادرات الدنمارك موجهة للسوق السعودي. فيستشهد الثاني بأن كاتباً سعودياً كتب أخيراً بأن حجم خسائر الدنمارك ستقدر بحوالي 30 مليار دولار.

ما تقدم حوار تقليدي في أي تجمع سعودي في الأسابيع الاخيرة. معلومات مصادرها مجهولة وتحليلات لا تمت للواقع الاقتصادي بصلة. هذا التخبط الرقمي ساهمت فيه الصحف بشكل مباشر. فعلى سبيل المثال، نشرت صحيفة محلية في ذات العدد في صفحات مختلفة ثلاثة أرقام مختلفة عن حجم واردات الدنمارك وحجم خسائرها. ولم تنسب في اي منها المعلومة لمصدر واضح، واكتفت بعبارة «توقع اقتصاديون»، حتى أنها لم تذكر من هم هؤلاء الاقتصاديون.

يقول عبدالعزيز قاسم مدير تحرير ملحق «الرسالة» السعودي الصادر عن جريدة «المدينة» المحلية «المقاطعة رد فعل شعبي لنصرة النبي، هو ما أوصلنا الى نتيجة تجاوب المسؤولين الدنماركيين ورضوخهم في الاستماع الينا. وجعلها قضية تناقش في البرلمان الدنماركي».

ويضيف قاسم، الذي سخر ملحقه الأسبوعي لثلاثة أعداد متتالية للحديث عن القضية «تأييدنا للمقاطعة جاء بناء على الاخبار التي نقرأها والتي أوضحت أنها تكلف الدنمارك يومياً ما يقرب من مليون دولار.

في ذات السياق، يقول الدكتور ابراهيم البعيّز، استاذ الاعلام في جامعة الملك سعود في الرياض «نحن مجتمعات لا تجيد التعامل مع لغة الأرقام لسبب بسيط، كون ثقافة الرقم عادة ما تكون نتاج مجتمعات الشفافية، ومجتمعاتنا لا توجد فيها شفافية».

ويضيف «ما زلنا نعاني من غياب مفهوم الصحافة كعمل احترافي. صحافتنا يغلب عليها طابع (الفزعة)، لانها دائما ما تكتب ما يرضي قناعتنا ويدغدغ عواطفنا، اكثر من انها تسعى لتقديم صورة هي أقرب للحقيقة. لذلك تجدها منساقة وراء أرقام تؤجج العواطف وترضي غرورنا».

ولكن السؤال هل من قادوا المقاطعة لديهم رؤية واهداف واضحة؟ يقول قاسم «لا نستطيع أن نقول أن هناك قائمة مطالب واضحة، كون ردة الفعل كانت هبة شعبية. ولكن أعتقد أن أهم ردود الفعل المنتظرة من الدنماركيين كالتالي: اعتذار رئيس تحرير الصحيفة ورئيس الوزراء، محاكمة رئيس التحرير والصحف التي قامت بنشر الرسومات، أن تقوم كوبنهاغن بدعوة مجموعة من العلماء والدعاة للحديث عن الرسول الكريم، وأن تنشر ذات الصحيفة على مدار ثلاثين يوماً موضوعات ايجابية عن النبي محمد».

الدكتور البعيز رأى أن «المعالجة للقضية تتم كما لو أنها في احدى الدول العربية والاسلامية، حيث بامكان الحكومات (السلطة التنفيذية) ان تملي على وسائل الاعلام، وبشكل مباشر وصريح، اتخاذ اجراء معين خارج القانون والانظمة المكتوبة، وهذا غير وارد في ثقافة الدول الغربية بما فيها الدنمارك. المشكلة اننا توجهنا للرجل الخطأ نطالبه بحل قضيتنا، وجعلنا قضيتنا بدلاً من أن تكون مع الصحيفة، لتغدو مع المجتمع الدنماركي».

والحال أن حملة الصحافة المحلية جاءت متزامنة مع حملات على مواقع الانترنت ليست الاصولية منها، بل وحتى الغنائية. فتجد في اعلى الصفحة ايقونة تحثك على مقاطعة المنتجات الدنماركية.

يقول الكاتب السعودي خالد السليمان، وهو من اكثر الذين كتبوا عن القضية وطالب باتخاذ موقف «المقاطعة خرجت عن السيطرة منذ بادرت المراكز التجارية الى أخذ دور المستهلك في المقاطعة، لانها بذلك زايدت على المستهلك وصادرت حق جميع المستهلكين بالاختيار بين المنتجات».

ويزيد «لم أكن من دعاة المقاطعة، وان لم اعترض عليها، ما دامت نابعة من توجه عفوي ولكني طالبت مثقفينا باتخاذ مواقف واضحة تعبر عن غضب المسلمين. وانا اعتقد أن الحكومة الدنماركية فوتت على نفسها فرصة القضاء على المشكلة في مهدها لو أنها بادرت بادانة نشر الرسوم».

الكاتب السعودي محمد علي المحمود كتب بدوره في جريدة «الرياض» «أحد الأعزاء، ممن يقف مني موقف الأعراف بين إحسان الظن بي وإساءته، قال لي بعد مقال الخميس الماضي: لقد كنت متوقفاً؛ أنتظر، وبقلق كبير عليك، هل ستشارك في هذا الموضوع أم لا؟، أما وقد كتبت؛ فقد أبعدت سوء الظن عنك، ونفيت عنك الشُّبهة».

يقول المحمود لـ«الشرق الاوسط»: «أزمة الكاتب الليبرالي أو من يصنف كذلك أنه متهم في صلب اعتقاده، لمجرد تعبيره عن رأي يخالف شعارات الأصولية المتطرفة، فمثلاً الكاتب الذي يدعو الى تحرير المرأة، وان كانت رؤيته لا تخرج عن حدود المتفق عليه شرعياً، سيصنف من قبل الأصوليات المتطرفة المؤثرة في الشارع التقليدي، بانه كاتب ضد مبادئ الاسلام. وبالتالي هذا الحدث فرصة ذهبية مواتية للتأكيد على عقيدته».

ويضيف «الكتاب الذين تراجعوا عن مواقفهم الاولى المحتجة بقوة، والمتفاعلة مع الحراك الغوغائي للشارع، أمر طبيعي، لأنهم انساقوا وراء الشارع دون أن تكون لهم لغتهم الخاصة. من جهة اخرى هناك جهل من قبل البعض من الكتاب بالطريقة التي يتنامى بها الحدث الجماهيري والفكرة الجماهيرية. انهم يتصورون أن الموقف الفكري منضبط وبشروطه الفكرية، بينما موقف الشارع عاطفي خالص، تطور بواسطة النفخ فيه من قبل أطياف متنوعة الاهداف الى همجية وعنف».

يبدو أن القضية الدنماركية هزت قناعات وبنت أخرى، وكشفت عن واقع صحافي لا يراه كثيرون بأنه محترف وملتزم. ولكن الاكيد أن الحادثة أعادت القراء للصحف ورفعت معدلات توزيعها، وفي ظل هذه الحمأة يظل مجهولاً أي الصحف نجحت في تبوء الصدارة في جودة معلوماتها أو حتى سوئها.