اغتيال رفيق الحريري بعيون أصحاب العدسات «الأقرب»

3 مصورين يتذكرون مشاهداتهم بعد عام من الجريمة التي استهدفت قلب لبنان

TT

«لم يأخذني أحد الى البكاء سوى رفيق الحريري. فأنا لا أزال ابكيه وأحلم به يومياً». هكذا يبادر المصور حسين الصانع من يسأله عن اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وحسين هو المصور التلفزيوني الخاص للرئيس منذ عام 1992.. فلا عمل لكاميرته خارج هذا الاطار. وقال لـ«الشرق الأوسط»: «لا أعرف ماذا دفعني للنزول الى ساحة الانفجار قبالة فندق السان جورج. ربما دفعني قدري الى النزول حتى اراه وقد طار من السيارة. احد مرافقيه همس: «ولا كلمة.. الرئيس على الأرض. سحبوه. لم يكن مشوها ولم يكن محترقا من الخلف. عرفته من اصابع قدميه. كانت بحالة جيدة. بقيت أصور حتى رفعوه الى داخل سيارة الاسعاف وبقيت آمل ان أكون مخطئاً. بعد ذلك لم استطع ان اسيطر على نفسي. لا أعرف ما الذي دفعني الى النزول ربما لأصاب بعقدة لن تفارقني بقية حياتي». غسان حاج هو مصور برامج في تلفزيون «المستقبل»، الذي أسسه الرئيس الشهيد، عادة لا يتحرك ميدانياً لملاحقة الاحداث، لكن مدير العمليات في التلفزيون عمر مشرفية طلب اليه النزول استثنائياً، بالطبع من دون أدنى معرفة بهوية المستهدف. وصل وبدأ يصور وهو يحسب ان التفجير اطاح موكب السفير الفرنسي او البريطاني. لم يكن يشعر بما يدور حوله. كان يلتقط الصور رافضاً ان يراها، حتى شاهد حسين الصانع غارقاً في دموعه. أطفأ آلة التصوير وعاد الى التلفزيون ليصاب برعب ويشعر بانهيار. لذا غادر من جديد وتوجه الى مستشفى الجامعة الاميركية واحتمى بالعدسة من رعبه.

وسام فران كان قبالة فندق البريستول في منطقة الحمرا، غرب بيروت، في انتظار وصول النائبة بهية الحريري لتغطية نشاط للبرلمانيين العرب. سمع الانفجار. حمل آلة التصوير وأوقف سائق دراجة نارية لينقله الى حيث تصاعد الدخان. قال: «كنت أول الواصلين الى السان جورج. ورغم ان الساعة لم تتجاوز الواحدة بعد الظهر كان الظلام يلف المكان. وجدت الرئيس مرمياً على الارض في وضعية من يقود السيارة، كأن قدمه اليمنى على الدواسة واليسرى ممدودة. يداه معلقتان على مقود وهمي. اخذت صورة قريبة لخاتم الزواج في يده اليسرى، سحبوا جثته بيده اليمنى فبقيت اليسرى مرتفعة وكأنه يلقي التحية مودعا. صرخت: قولوا للشباب ان يبعدوا حسين الصانع عن المكان اذا اطل. لكن حسين أطل وأنا اصبت بانهيار وأوقفت التصوير. لم أكن ارغب ان تعرض الصور الفظيعة لهذا الرجل العظيم وهو جثة محترقة. كنت اريد ان تبقى فقط صورة يده وخاتم الزواج. لا أعرف من سربها لتنتشر وتوزع على مواقع الانترنت وعبر الهواتف المحمولة». ثلاثة مصورين من تلفزيون «المستقبل» جمعتهم المصيبة في 14 فبراير (شباط) 2005، وان كان من يعمل في الحقل الاعلامي يجب ان يتمتع بالحياد فإن ذلك كان مستحيلا في ذلك اليوم بالنسبة للمصورين الثلاثة، كما كان الحال مع الكثيرين غيرهم. غسان يقول انه يدين للرئيس الشهيد بمستقبله المهني، هو واحد من عشرات الآلاف من الطلاب الذين نالوا منحة دراسية من مؤسسة الحريري ليتابع تعليمه في فرنسا. وسام يذكر كيف كان الرئيس يتصل بهم كل صباح، في تمام السادسة ليطمئن اليهم عندما كان مع فريق «المستقبل» في افغانستان ويتحدث الى كل واحد منهم بفرده. وسام بقي مرابطاً قرب ضريح الرئيس اربعة اشهر بعد الوفاة، يساعد العمال في تنظيفه وتزيينه بالورود ويصور الوافدين للصلاة عن روحه ويبكي عندما كانت تطل السيدة نازك بعد منتصف الليل لقراءة الفاتحة. ويقسم انه يتمنى لو مات فداء له. «على الأقل كنت سأشعر بالامان لان هناك من يعتني بأولادي وبوطني. اليوم لا ضمانة لنا من بعده. يكفي ان ننظر حولنا ونرى كيف يتصارعون على السلطة ويخربون البلاد من اجلها». حسين وجع آخر. زهد بالدنيا بعد رفيق الحريري. «كان أكبر من الجميع. وكل هؤلاء الباحثين عن ادوار لم يكن لهم اي قيمة بوجوده. كان جالساً على بركان يمتص كل المؤامرات بصدر رحب. خونوه واغتالوه قبل ارتكابهم جريمتهم. ثم تدافعوا للبكاء عليه، وها هم يحاولون اليوم سرقة انجازاته لينسبوها الى انفسهم المريضة».

المصورون الثلاثة خضعوا لعلاج نفسي بعد الجريمة. طبيبة غسان نصحته بمواجهة اضطرابه عبر الحديث عن المأساة، لانه فقد القدرة على الكلام غداة الجريمة، فهو ما زال يستعيد الشريط الذي صوره بكل تفاصيله ويرتجف ويبكي عندما يشاهد اياً من الفواصل الاعلامية التي يبثها التلفزيون عن الراحل. يعترف انه ليس محايدا او موضوعياً في محبته للرئيس. كما يعترف انه مسكون بالخوف من عبوة او انفجار حتى انه يصطاد بعدسته الوجوه المشبوهة وسط الحشود، التي يبدي اصحابها توتراً لا مبرر له. ويؤكد غسان ان 70% من الصور التي التقطها للجريمة لم تعرض، مضيفاً ان ثلاثاً منها لا تفارق ذاكرته، الاولى لحظة دخوله موقع الانفجار من جهة فندق فينيسيا ليفاجأ بسيدة خليجية تسعى الى الهرب باحثة عن حجابها. ردة فعلها الاولى كانت الطلب اليه عدم تصويرها. اما الصورة الثانية فهي مشهد سيارة رفيق درب الحريري الشهيد يحيي العرب. والثالثة هي لامرأة محترقة. ألسنة النار تتصاعد من قدميها. اما وسام فيقول انه اصبح عصبياً وانفعالياً ولم يعد يشعر بالامان، أصيب بانهيار عصبي وفقد القدرة على النوم. يستفز اذا تعرض احد للرئيس الشهيد بكلمة. مشى في تظاهرة للمرة الأولى بعد الجريمة. وهو لا يقوى على زيارة دارة الرئيس في قريطم. فقد تعود ان يشكو اليه همومه. يذكر وسام ان ادارة التلفزيون قررت ذات مرة ان تخفض قيمة التأمين الطبي للمصورين، فطلب هؤلاء مقابلة الرئيس الذي لبى الطلب وعندما استقبلهم كان مع مستشاريه ومنهم مسؤولين في ادارة التلفزيون. اخرج المستشارين قائلا لهم: «تفضلوا وغادروا حتى يستطيع الشباب الكلام على راحتهم». وفور استماعه اليهم اصدر اوامره بحل المشكلة. وسام لا يبتعد عن 14 فبراير. سيبقى هذا التاريخ في ضميره كما يقول، مضيفا انه لا يستوعب ان الرئيس اغتيل ولا يستطيع ان يعترف بهذا الواقع. يؤلمه انه عمل مصوراً وتعرف اليه عن كثب. هو يشعر باليتم والفراغ. حسين خضع ايضاً لعلاج نفسي. كما أصبح يعاني من ارتفاع في ضغط الدم. عشية حديثه الى «الشرق الأوسط» يقول انه أبصر في حلمه انه يضرب احدهم ضرباً مبرحاً لأنه مسؤول عن اغتيال الرئيس. وحسين يملك ارشيفاً ضخماً لكل تحركات الراحل وزياراته الرسمية ومناسباته الخاصة. ويملك تحديداً ارشيفاً نادراً لرحلات الصيد التي رافقه فيها الى غابات افريقية، حيث أكتشفه كإنسان محترم ومرح ومحب وقريب من الذين يعملون معه. يطيب لحسين ان يتذكر كيف يخرج الحريري من مركز الرئاسة عندما تطل ابنته هند ليصبح فقط والدها ويغمرها ويسألها عن احوالها ويطلب رضاها. كذلك يطيب له ان يذكر كيف كان يتحاشى صور البروفيل لأنها تظهر ذقنه المزدوجة، وكيف كان يعطي كل كاميرا حصتها في النظرة الخاصة اليها وكيف كان يطلب النصيحة ويقبل الملاحظات بصدر رحب. حسين يزين آلة التصوير بصورة الرئيس ويقول: «الكاميرا التي كانت مخصصة لهذا الوجه ما زالت مخصصة لعائلته. وأنا اليوم المصور الخاص للسيدة نازك».