لا تبتسم.. أنت في كركوك

حديث مستمر عن السيارات المفخخة ودفاتر الفدية والمسيحيات اللاتي ارتدين الحجاب

TT

عاد محمد الشافعي، الصحافي في «الشرق الأوسط»، للتو من جولة إعلامية ميدانية في العراق. وهذه هي زيارته الثانية بعد أن سافر في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ضمن وفد من المراقبين الدوليين لتغطية الانتخابات العراقية، وتجول في كردستان والسليمانية وبغداد وكركوك. وفي ما يلي يسرد الشافعي مشاهداته وتجربته خلال جولته الأخيرة، ضمن وفد إعلامي عربي، لاستطلاع نتائج انتخابات العام الماضي، ويروي تفاصيل زيارة له إلى كركوك: سؤال كنت أداريه مثل جرح غائر: كيف تبدو لي كركوك منذ فارقتها في اكتوبر (تشرين الأول) الماضي؟ في الطريق من اربيل الى كركوك داخل سيارات الدفع الرباعي التي يتقدمها سيارة محصنة بمدفع آلي محشور بداخلها جنود اشداء من البشمركة لوحت الشمس وجوههم، كان الحديث لا ينقطع مع الشاويش طاهر وهو من مقاتلي البشمركة الاشداء عن عمليات الاختطاف والسيارات المفخخة على جانبي الطريق، كنت اشعر انها مغامرة غير محسوبة، رغم ان المسؤولين اكدوا لنا اننا سنزور الاحياء الكردية فقط، ولن نذهب الى الاحياء العربية التي باتت معرضة لأعمال القتل والخطف. وبجانبي في السيارة كان زميل صحافي عربي يذهب لأول مرة الى مناطق الخطر يخرج على استحياء «حجاب»، اعطته له زوجته، محشو بالايات القرانية والمعوذات يقرأ منه ويتمتم بسرعة، بمجرد ان صرخ الشاويش طاهر انتبهوا لقد عبرتم المفرزة الأمنية الاخيرة، انتم الآن في كركوك. خلع على عجل البريطاني موريس رئيس منظمة القرن المقبل الخيرية، القبعة العريضة التي كانت فوق رأسه، وانزوى صامتا خلف ستائر السيارة التويوتا، بينما تجهمت ملامح السفير الاميركي السابق مارك هامبلي، الذي يتحدث العربية بطلاقة. كنت اتساءل بصوت عال بين نفسي، ويدي تقبض على كتاب صغير اسمه «الورد المصفى المختار من كلام سيد الابرار» اعطاه لي زميلي في «الشرق الأوسط» موفق النويصر، لعل نجاتي تكون بين ثناياه من الادعية والاحاديث المنجية من المهالك والشرور والسيارات المفخخة على جانبي الطريق. وبينما كنت اتمتم بآية الكرسي كان الشاويش طاهر او «كاكا طاهر» يداعبني ويلعب على مشاعري وهو يقول: «انه ودع زوجته واطفاله في الصباح الباكر، «وداع مفارق» لأنه ذاهب الى كركوك ضمن فريق أمني لحماية عدد من ممثلي الصحافة العربية. كنت اتساءل ما الفرق بين اربيل الهادئة ودهوك الساحرة بجمال طبيعتها، وكركوك، المليئة بالحفر والمياه الاسنة، والتي تعوم في الوقت ذاته على بحيرة من النفط. على مد البصر كنت ارى احياء عشوائية لا تفرق كثيرا عن احياء الزاوية الحمراء ودار السلام وأبو قتادة في مصر. كان الحديث لا يتوقف عن خطف البشر، ودفاتر الفدية، والدفتر الواحد يقدر بـ 10 الاف دولار. جرت دماء كثيرة، وعصفت رياح واحداث اكثر؟ كما يقول «كاكا طاهر»، كان يوجه بلا حرج سهام النقد الى رجال الشرطة العرب الذين يديرون عصابات اجرامية ليلا، وقال انها عملية مربحة للغاية ان اقل فدية تبلغ نحو 50 الف دولار، أي خمسة دفاتر. بعد دقائق من وصولي الى قلب كركوك ظهر يوم من ايام مايو المشتعلة بالحرارة داهمتني فكرة مثيرة هي ان شكل المدينة ذات التنوع العرقي من شكل وجوه ابنائها.. وجوه مدوّرة.. متجهمة.. خائفة.. غاضبة.. صبورة.. مجروحة.. مكابرة. كنا نبحث عن مخيم مدرسي يستضيف الطلبة النازحين العائدين مع عوائلهم الى كركوك بعد سنين من الاغتراب.

كانت اول محطة توقفنا فيها في كركوك كان مركز الانشطة النسوية، التقت «الشرق الاوسط » بعدد من البنات في عمر الزهور يعملن بجد ونشاط لاضفاء لمسة انسانية على هموم المحتاجين، ويؤكدن على دور المرأة في صنع السلام. التقت «الشرق الاوسط» ببنات كرديات سرود ومي وصبرية. وتحدثت المهندسة سدور خريجة جامعة الموصل عام 1993 عن تجمع جديد يحمل اسم «تحالف النساء من اجل ديمقراطية العراق». وتشير البنات الثلاث الى ان الارهابيين باتوا اكثر تنظيما، وأضفن ان غير المحجبات مستهدفات من قبل الارهابيين، لدرجة ان البنات المسيحيات من الكلدان والاشوريات ارتدين الحجاب لإبعاد الشبهة عنهن من قبل المشبوهين اعضاء المنظمات الجهادية. وتقول سدور: إن كركوك تضم كافة أطياف المجتمع العراقي من العرب والآشوريين والتركمان والكلدانيين والأكراد، وغيرهم. وتحدثت الناشطات النسويات في مجال حقوق الانسان عن لغة «الواسطة» التي ظهرت في سوق التشغيل العراقي من اجل الحصول على وظيفة وسط تضخم في اعداد العاطلين عن العمل. وتقول تانيا خان وهي متزوجة من عراقي شيعي ان الامور المعيشية باتت صعبة للغاية مع استمرار في نقص للخدمات. وتقول صبرية وهي من ام عربية ووالد كردي ان غير المحجبات مستهدفات. والحديث لا ينقطع في كركوك عن المهجرين العائدين، وزارت «الشرق الاوسط» مدرسة زاجروس الابتدائية المختلطة، وبها دوامان، وهي مدرسة مكونة من عدد من الخيام المغبرة، التي لا تقي حرارة الصيف او برد الشتاء. وتحدث الطلبة عن نقص في الكتب الدراسية، وبعد المدرسة عن منازل بعضهم المقامة بصورة عشوائية. وتحدث رمضان رشيد مسؤول الاتحاد الوطني الكردستاني في المدينة، وهو جواهرجي قديم في المدينة عن وضع كركوك التي يحكمها رجال شرطة من مختلف القوميات من اكراد وعرب وتركمان. ويتحسر المسؤول الحزبي رمضان بحسه الفني عما آل اليه الحال في مدينته التي باتت مرتعا للارهاب والمفارز الأمنية عند ناصية اغلب الشوارع. وقال رمضان هناك جهات معادية ساهمت في خلق المشاكل في كركوك. وأوضح بعد ايام سيصل كركوك الف شرطي نجدة، وسيكون 50 نقطة ثابتة لاقرار الأمن في كركوك. وقال ان الشرطة والحرس الوطني مخترقان. وتضاربت الارقام بين العرب والاكراد، ولا توجد احصاءات مستقلة تعبر عن اعداد كل قومية. واشار رمضان الى انه تم القبض خلال الشهور الماضية على ارهابيين من عناصر الحرس الوطني. وتحدثت عضوة البرلمان العراقي تانيا طلعت كلي عن الاتحاد الوطني الكردستاني عن وجود ميزانيات مالية لتخفيف الاعباء الحياتية عن المواطنين، الا ان تلك الميزانيات يحتاج لصرفها وجود خطط ومشاريع جادة. والتقت «الشرق الاوسط» كذلك عرفان كركوكي نائب المحافظ وهو في الوقت ذاته نائب رئيس حزب الشعب التركماني. وقالت النائبة تانيا ان اهالي كركوك بين ناري حكومة بغداد وحكومة اقليم كردستان. واشارت تانيا وهي خريجة جامعات كندا بالحقوق السياسية للمرأة في كردستان. وتطرقت الى حرب الانفال ما بين 1987 و1988 التي شنها صدام حسين ضد الاكراد والتي ادت الى تدمير نحو 4500 قرية في عموم كردستان. وقتل نحو 188 الف كردي.