لبنان.. مأساة «دسمة» مجددا

الحرب الجديدة تعيد المراسلين الأجانب إلى لبنان.. وتدفع آخرين لمغادرته

TT

كثيرا ما دخل المراسلون والمصورون طوعا دوامة الحرب وشاركوا فيها بقرار ذاتي، استفادوا منها واستفادت منهم. روّجوا لها، استقطبوا جماهير واسعة إلى تفاصيلها، كتبوا تاريخها وكتبت تاريخهم. رفعتهم إلى الشهرة ربما، أو طبعت حياتهم ببصمات لن تمحى أو أنهت هذه الحياة برصاصة طائشة أو متعمدة أو شظية أو لغم. صاروا أبطالها وشهداءها مع أن ناقتهم وجملهم منها هي مهنية صرفة، لكن مهنتهم تورطهم بها كطرف يتحمل مسؤولية ما. وبما أن الحرب اللبنانية الجديدة في سلسلة حروب مستمرة وبنجاح كبير على ما يبدو، استقطبت هذه المرة أيضا الإعلاميين في الداخل والخارج. ولكن يبقى السؤال: ما هو المختلف الذي تسجله كل حرب في أرشيف الإعلامي؟ ما يستخلص منها؟ وزير الإعلام اللبناني غازي العريضي قال لـ«الشرق الأوسط» «إن الإعلام اللبناني مستفز مع زيادة متاعبه ومصاعبه، فالخسائر كبيرة في قطاع الإعلام ولا إمكانية للتعويض السريع. كما أن الظروف الحياتية تنعكس على العاملين في هذا القطاع، لكن نبضه ما زال كما هو».

ويستعيد العريضي المشاعر ذاتها التي تحكمت فيه خلال الاجتياح الاسرائيلي عندما كان مسؤولا إعلاميا وبعدها مديرا لإذاعة «صوت الجبل» التابعة للحزب التقدمي الاشتراكي. يقول: «استعيد في هذه اللحظات احتضان الناس للوسيلة الاعلامية لأنهم يرون فيها بوصلة أمنهم السياسي والحياتي وصوت كرامتهم وعنفوانهم. وهذا ما نراه اليوم، مع فارق أننا نتمتع حاليا بتنوع اعلامي أكبر وظروف عمل أسهل وتغطية أشمل تتجاوز الاعلام المحلي الى الاعلام العربي والعالمي».

الصحافية النمساوية ليفيا آكلنغل من يومية «لو كورييه» في فيينا عاشت حروب أفغانستان والعراق ويوغوسلافيا وها هي اليوم في لبنان. تقول: «الدمار مشابه لما رأيته في الحروب الأخرى، وان كنت أشعر بأن الحرب هناك مركزة أكثر. في يوغوسلافيا كان لدينا كإعلاميين ردة فعل عنيفة. أنا أكره الحروب ولكني أستفيد منها مهنيا. وما وجدته في 15 سنة سفر في دول متعددة هو أنه في الحرب الجميع خاسر. ربما ليس في الوقت ذاته وانما بعد حين».

باتريك باز من وكالة الصحافة الفرنسية يعمل مصورا منذ 25 عاما ويقول: «مللت الحروب، لكنها أصبحت في دمي. كان عمري 12 عاما لدى اندلاع حرب لبنان، وعندما بلغت 18 عاما شعرت اني وصلت الى مرحلة تفرض علي ان احدد موقفي من الحرب، اما المشاركة واما الرحيل. الكاميرا اعطتني الحل، دخلت الحرب من باب آخر فضلت الكاميرا على البندقية. هذه المهنة انقذتني من الانخراط في الحرب». وعن الوظيفة المهنية للصورة يبدي باز ملاحظة عن عجز هذه الوسيلة عن نقل صورة صحيحة وكاملة. «الدمار في مكان معين، المربع الامني في ضاحية بيروت الجنوبية مثلا، اما الخراب فهو اقتصادي. الصورة تنقل الدمار، لكنها لا تنقل الخراب بحجمه الحقيقي الفظيع. هي تعبر عن جزء من الحدث وليس عن الحدث كله. هي لحظة وليست تأريخا كاملا. من ينظر الى صورنا يحسب اننا نعيش تحت الرماد. والأمر غير دقيق». ستيفانو بوشا مدير مكتب وكالة الأخبار الإيطالية «Ansa Med» في بيروت، أخذته رحلة الاعلام الى أصقاع الدنيا، حيث عمل على تغطية ميدانية لأزمات عديدة في الجزائر والسودان والصومال وغينيا وموريتانيا وغزة والعراق. عرف حروب بيروت للمرة الأولى عام 1978، خلال الاجتياح الاسرائيلي، ليعود قبل سنوات ويستقر مديراً لمكتب وكالته. لكنه حافظ على «لوثة العمل الميداني». كان من أوائل المراسلين الذين استطلعوا وضع مطار بيروت ميدانياً بعد قصفه فجر الخميس 13 يوليو (تموز) الجاري. يقول: «نحن أول من وزع الخبر». هنا يثمّن بوشا التطور الذي حصل في قطاع الاتصالات والاعلام مقارنة بعمله عام 1978. «آنذاك كنا نعمل بمعطيات القرون الوسطى في أجواء رومانسية بمعنى أو بآخر. اليوم تحسنت هذه المعطيات، لكننا أصبحنا مطالبين بمتابعة التفاصيل دقيقة بدقيقة ولدينا الوسائل لذلك. حظوظنا أكبر من السابق لكننا معرضون الى ضغط إعلامي فظيع. كما أن السرعة تؤدي إلى أخطاء لا تحصى. ليس لدينا الوقت لنفكر». والحرب تخلط الأدوار مهنيا وانسانيا: «الجميع يفعلون كل شيء. والمكاتب تتحول الى أماكن للإقامة». الهاجس الوحيد هو التمكن من إرسال الأخبار، لذا يراقب بوشا اللاقط الهوائي ويبقي الوسائل الاحتياطية في جهوزية تامة.

الاسباني توماس الوفيرا من وكالة الصحافة الفرنسية، وهو أعرق مراسل اجنبي في لبنان، حيث يقيم منذ العام 1970، يؤلمه انه أرغم على معايشة حرب جديدة. كان يظن ان الحرب انتهت. وكان قد حجز بطاقات لحضور حفلة فيروز في مهرجانات بعلبك الدولية. يقول انه يشعر بالغضب لما يتعرض له هذا المكان الذي اختاره طوعا وطنا للحياة والعمل ولم يغادره. ولا ينسى الوفيرا مشهد الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وهو يغادر بيروت عام 1982. «خرج عرفات وطوى التاريخ صفحة بتسديد إهانة». لا يتمنى أن يكون مصير «حزب الله» مشابها. يقول إن الفرق كبير ولا يمكن اقتلاع هؤلاء من أرضهم، فهم متداخلون في نسيج البلد. لكن المؤلم أن المعاناة عادت، وعاد الظلم والقهر للمدنيين الذين يواجهون مصيرهم من دون حماية أو أمن أو حتى صفارة إنذار».

العراقي أحمد مصطفى من وكالة «Ansa Med» عمل في العراق لمدة ثلاث سنوات وجاء الى لبنان بحثا عن الأمان بعد تدهور الاوضاع الأمنية، فاستقبلته الحرب. عن اختلاف وسائل العمل يقول: «الجيد في لبنان اننا نحضر الى المكتب كل صباح، ما يشعرنا بالمسافة الفاصلة بين الخاص والعام. في بغداد بيوتنا تحولت الى غرف عمليات وتحرير، مجهزة بكل الوسائل اللازمة. هناك لا مكاتب ولا حماية ولا حراسة».

المصور رمزي حيدر في وكالة الصحافة الفرنسية يوافق على أن الحرب تمنح الإعلامي مادة دسمة. يقول: «لكننا تعبنا، لم نعد نملك الطاقة ذاتها، كما في الحروب السابقة. والمؤلم أننا بعد الحرب نصبح مهمشين. الآن نحن سلعة رائجة ومطلوبة من السياسيين الذين يستخدمون صورنا ليدعموا مواقفهم. بعد انتهاء الحرب لا أحد يسأل عنا أو يهتم لما يصيبنا ومن تأذى منا أو من مات. الحروب التي عشناها أكبر بكثير من قدرتنا على التحمل. صرنا نتعامل مع الحدث من دون انفعال. لم نعد نبحث عن الصورة. قد نصادفها ونسجلها. الناس لا يريدون لنا ان نموت من أجل صورة. وربما من اجل هذا السبب تحديدا اختار عدد من الصحافيين الذين كانوا يقيمون في لبنان مغادرته. الصحافي لي سميث، وهو كاتب متعاون مع عدد من كبريات المطبوعات الأميركية غادر لبنان بعد ان كان اختار الاقامة فيه العام الماضي لاجراء تحقيق مطول. يقول سميث الذي يتنقل حاليا بين سوريا والاردن «لا شك ان كوني صحافي متعاون كان ليصعب مهمتي في التغطية مقارنة بما الذي تستطيع فعله المؤسسات الإعلامية الكبرى، كتعيين مرافقين امنيين وما الى ذلك».

ويضيف سميث «إلا أن السبب الأهم هو أنني لم انتقل إلى بيروت قبل عام ونصف لأغطي حربا.. هذا ليس العمل الذي أحبه. أنا أكتب عن السياسة والمجتمع والثقافة.. وليس دمارهاْ».