غوانتانامو.. «منجم ذهب» صحافي وسط حقل من الأشواك

إجراءات أمنية مشددة تبدأ حتى من قبل وصولك اليه

TT

الداخل الى معسكر غوانتانامو من الاعلاميين العرب هو أشبه بـ «القابض على الجمر»، وذلك بسبب كثرة المحاذير الامنية التي تتوجب عليه قراءة الأدعية والتحلي بالصبر الشديد لاعانته على الصبر والصمود في مواجهة نفوذ وسطوة قوة «المهام المشتركة» التابعة للبنتاغون التي تشرف على ادارة معسكر اسرى القاعدة وطالبان، وكذلك حراس غوانتانامو الاشداء من ضباط وجنود. والواقع أنني كنت استشعر اهمية الالتزام بالتعليمات الامنية حتى قبل وصولي الى المعسكر، وذلك من خلال الرسائل الإلكترونية التي تصلني من القيادة الجنوبية للجيش الاميركي بميامي، التي تشرف على المعسكر ضمن اجراءات الترتيب للزيارة، التي استغرقت عدة شهور. وقبل ان اركب الطائرة الصغيرة من مطار فورت لاندر ديل بفلوريدا، كان لا بد من الحصول على اذن أمني خاص، وكذلك تأشيرة دخول بالنسبة للصحافيين غير الاميركيين، وهما شرطان رئيسيان للدخول الى الطائرة التي تقل ايضا مجموعة من محققي «السي آي ايه» ذوي ياقات بيضاء متجهمي الوجوه، واثنين من المحامين، ومترجما لبناني الاصل، يعيش في غوانتانامو اكثر مما يعيش مع عائلته في ميامي. وخلال الزيارة التي تمت أخيرا، كنت اردد بين نفسي: «اللهم إني عبدك القابض على الجمر... فأعنِّي على الثبات والصمود»، كلما تذكرت مصور وكالة عالمية للانباء رافقني في الزيارة الاولى الى غوانتانامو عام 2002، قبل ان يغلق معسكر «اكس» ابوابه، بعد اربعة اشهر من افتتاحه، بسبب حدة الانتقادات الدولية الموجهة الى احتجاز مواطنين اجانب «كمقاتلين اعداء» خارج الاراضي الاميركية، وذلك عندما ضرب المصور الاميركي عرض الحائط بكافة التعليمات الامنية والتقط صورة نادرة لوجه سجين سعودي يخرج من غرف التحقيقات السرية على اطراف المعسكر، كان في انتظاره بعدسته المقربة على بعد نحو 100متر، وبث الصورة عبر جهاز الكومبيوتر المحمول الى وكالته في واشنطن التي سارعت هي الاخرى ببث الصورة الى المشتركين في جميع انحاء العالم، وبعدها بساعات وقبل ان يحل الليل جاء الى ثكنة الصحافيين، التي كانت يقطنها في السابق حراس غوانتانامو، خمسة من افراد الشرطة العسكرية لاصطحاب المصور الى اول طائرة تغادر المعسكر. وكان الصحافيون آنذاك يقفون على بعد عشرات الامتار من بوابة المعسكر المذكور في انتظار اصطحاب الحراس للمعتقلين الى غرف التحقيقات السرية الموجودة على ربوة عالية على اطراف المعسكر، وكان الحراس في الغالب يجرون المعتقلين فوق عربات يدفعونها باليد الى داخل المعسكر بعد انتهاء وصلة التحقيق. المثير هنا، هو أنك تجد «قصة» تكتب عنها أينما ذهبت، فمثلا بالرغم من وجود ضابطات في البحرية الاميركية يشاركن في اعمال الحراسة والشؤون الادارية في معسكر غوانتانامو، الا انني لم ار وجوها سمحة، باستثناء الكوماندر كاتي همفس، التي تنفتح على رجال الاعلام وتتكلم بكل صراحة، وتنفي وجود أي انتهاكات او تعذيب في معسكر دلتا الذي تشرف عليه منذ وصولها الى القاعدة، قبل 11 شهرا، بل على العكس، انها تؤكد ان الحراس هم الذين يتعرضون للاهانات من السجناء الذين يرمون عليهم القاذورات والمياه الوسخة. بل إن الحراس يتخوفون من سجناء القاعدة، وجميعهم يرتدي صديريات واقية تحت الملابس خوفا من الطعن بآلات حادة من السجناء، واحيانا يضعون ربطات واقية على الرقبة تقيهم من عض او طعن السجناء. وتقبل الكوماندر همفس أي اسئلة حتى عن حياتها الخاصة برحابة صدر فهي سيدة غير متزوجة، او بالاحرى تزوجت من «الجندية» وتتمتع بروح مرحة، وبحب وهيبة شديدة من جميع الحراس العاملين تحت امرتها، وعلى النقيض منها التقت «الشرق الاوسط» بضابطة مسؤولة عن الاعلاميين وهي شابة في الثلاثينات، صارمة الملامح لا تعرف المزاح، وهي خريجة اعلام، قبل ان تلتحق بالبحرية الاميركية، ولكن خطوط السعادة لا تعرف طريقا الى وجهها، وكل شيء عندها ممنوع، وهي ترفع لافتة المحظورات قبل ان تجيب عن أي استفسار، وترفض ان تلتقط لها أي صورة فوتوغرافية، خوفا من انتقام سجناء «القاعدة» منها بعد ان تخرج من الخدمة، رغم ان مهمتها هي مصاحبة الاعلاميين فقط لا غير. واغرب ما سمعته منها بعد ان استقبلتني على مدرج المطار ان ضربت لي موعدا في السادسة والنصف صباح اليوم التالي لتصطحبني الى صالة الطعام التي يتناول فيها ضباط القاعدة فطورهم، وبعدها كان من المقرر الذهاب الى معسكر دلتا، وعندما اعترضت ان الموعد مبكر تماما ـ قالت لي بنظرات حادة: «السادسة والنصف يعني ان تكون خارج مقر المبيت في السادسة والربع او قبل ذلك». وعام 2002، كان الصحافيون يوقعون عند دخولهم غوانتانامو، على وثيقة تشمل اهم المحظورات داخل قاعدة الاسر الاميركي، ومن ابرزها محاولة الحديث مع سجناء «القاعدة»، او الاقتراب منهم او التقاط صور توضح معالم وجوههم من قريب باستخدام العدسات اللاقطة المكبرة، لانها تعتبر من «الكبائر» التي «لا تغتفر»، وتؤدي على الفور الى الطرد من القاعدة البحرية.

اما اليوم فمكتب الأمن الموجود في غوانتانامو تحت اشراف «هيئة المهام المشتركة» التي يترأسها الادميرال هاريس، تزور الصحافيين مساء كل يوم، لمشاهدة اللقطات الفوتوغرافية او التلفزيونية، وكثيرا ما يطالبون بحذف لقطات معينة، لانها تنتهك الاجراءات الأمنية في المعسكر مثل ابراج الحراسة، او لقطات توضح وجه المعتقلين او لقطات اخذت للحراس من دون موافقتهم، وتظهر اسم الحارس او الحارسة، من خلال البطاقة الموجودة على صدره او صدرها، ويستجيب الصحافيون في اغلب الاحوال من باب «مكره اخاك لا بطل» ويوقعون على الاستمارات ملتزمين بالتعليمات. وهناك، في معسكر دلتا، او الخامس الذي يحتجز فيه قادة «القاعدة» او الرابع متوسط الاجراءات الامنية، لا يجد الانسان، الذي يواجه مصيره وحيدا، من ملاذ سوى ان يسلم امره الى الله.

وبين سجناء غوانتانامو رجال «لهم صلة بمعظم هجمات القاعدة الرئيسية» بما في ذلك تفجير سفارتي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا عام 1998 والهجوم على المدمرة الأميركية كول في اليمن عام 2000. وأحد المعتقلين كان حارسا شخصيا لاسامة بن لادن ورافقه الى تورا بورا خلال الحرب التي قادتها الولايات المتحدة لاسقاط طالبان وسحق القاعدة. وفي السجن الخامس مدرب على صنع المتفجرات اعطى معلومات عن عملية اغتيال قائد التحالف الشمالي في افغانستان احمد شاه مسعود، وهو خبير في استخدام الالغام، وعضو في خلية ارهابية في افغانستان كان يستهدف المدنيين، خصوصا الصحافيين واعضاء بعثات الاغاثة الدولية، ونفذ عملية القاء قنبلة يدوية على سيارة صحافي اجنبي، وعضو في «القاعدة» صمم نموذجا لحذاء متفجر للاستخدام في اسقاط طائرات ونموذجا اخر للغم مغناطيسي لمهاجمة السفن، وخبير استخدام المتفجرات كان يعمل على استخدام الهواتف النقالة لتفجير القنابل.ويقول مسؤولو المعسكر: «ان التعامل مع محتجزين من القاعدة» يعتبر تحدياً صعباً. فهم ليسوا جنودا ولا يلتزمون بقواعد الحرب، ولا يمثلون اي حكومة او دولة. فمنظمة القاعدة ليست طرفا في اي معاهدة او اتفاقية دولية».

ولا حديث بين الحراس سوى عن اليوم الذي سيغادرون فيه معسكر الاحتجاز، الى مكان اكثر أمنا بعيدا عن سجناء القاعدة، الذين يتحاشون النظر في عيونهم، رغم ان اغلب هؤلاء السجناء يتحدث الانجليزية بطلاقة، و10 في المائة منهم على الاقل من خريجي الجامعات الغربية. وتقول الكوماندر «همفس لا توجد صداقة بين الحراس والسجناء، انه امر مستحيل، ولن يحدث ابدا». وتعترف بمغازلة السجناء لها، واحيانا بعبارات رومانسية. ويؤكد مسؤولو قوة «المهام المشتركة» التي تتبع البنتاغون مباشرة على أمن وسلامة المعتقلين، استمرار عملية جمع المعلومات من الاسرى، وتقول الكوماندر همفس: «ان معلومة صغيرة قد تساعد كثيرا في الحرب على الارهاب». ويتحدث الحراس عن فيلم «الطريق إلى غوانتانامو» وهو فيلم وثائقي بريطاني عرض أخيرا يتضمن اعادة احياء لطرق التعذيب والاستجواب المفترضة، وتقول ضابطة من البحرية الاميركية ان السجناء الذين افرج عنهم بفضل ماكينة الاعلام تحولوا الى نجوم. ونفت ان تكون شاهدت عمليات تعذيب او انتهاكات داخل معسكر الاحتجاز الاميركي. ويؤكد الفيلم أن هناك من تضرر من غير المسلمين والعرب لوجود مثل هذا السجن، ألا وهي القيم الغربية التي كانت دوما محط الأنظار والإعجاب. ويبين الفيلم كيف أنه من الغريب أن تختار الولايات المتحدة الأميركية كوبا بالذات لإقامة المعسكر، حيث يمكنها التصرف مع الناس بالشكل الذي لا تستطيعه في أميركا نفسها. وترفض امينة المكتبة في غوانتانامو ان تشاهد الفيلم في اجازتها المرتقبة خارج اسوار غوانتانامو، وتقول انه مليء بقصص غير واقعية. ويسلط الفيلم قصة حقيقية لثلاثة مسلمين بريطانيين، تم اعتقالهم لعامين في سجن غوانتانامو عبر نزوع المخرج إلى مزج الأحداث الخيالية بالوقائع الموثقة والتحقيقات الصحافية. ويظهر الفيلم مشاهد نادرة لعدد من الأقفاص الحديدية المخرمة. وداخل زنزانات معسكر دلتا التي زارتها «الشرق الأوسط» يوجد لباس برتقالي اللون للسجناء الخطرين، واخر كاكي للسجناء العاديين، وهناك ايضا المعسكر الرابع الذي يحتجز فيه مايزيد عن 20 سجينا من القاعدة تصفهم ادارة المعتقل بـ «المتعاونين»، وداخل المعسكر الرابع توجد ملاعب لكرة القدم والسلة والكرة الطائرة، ويحلم السجناء، كما قالت الكوماندر كاتي همفس بلعب ـ يوما ما ـ مباراة على ارضية عشبية مع الحراس، الا ان هذا الامر قد يكون من رابع المستحيلات. وترى السجناء بالنظر ذوي أعمار متقاربة فوق الثلاثين من العمر. رجالا بلحى طويلة يجلسون تحت مظلات خشبية تقيهم من شر الشمس المحرقة يسرحون في الفضاء الواسع امامهم المطل على مياه بحر الكاريبي اللازوردية، الذي تهب منه نسمات منعشة ليلا. يتذكرون الماضي، يسرحون في عوائلهم واطفالهم، وفي ايامهم في كابل حيث حي وزير اكبر خان الذي كانوا يسكنون فيه، وهو اليوم حي السفارات الغربية في العاصمة الافغانية، ويسرحون ايضا في الاسباب التي ادت الى اعتقالهم في باكستان وافغانستان عقب سقوط حركة طالبان الاصولية التي كانت تحميهم بعد هجمات سبتمبر «ايلول» 2001.

* صحافي من اسرة «الشرق الاوسط»