هل تغرق «ليبراسيون»؟

طوق نجاة «يميني» .. المنقذ الوحيد للصحيفة الفرنسية اليسارية الشهيرة

TT

تعيش صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية أزمة حادة، تتمثل بالنزاع المفتوح القائم بين المساهم الرئيسي فيها من جهة والجسم التحريري وفئات الموظفين الأخرى من جهة ثانية. وفيما تعاني الصحيفة من تراجع مبيعاتها وعجز سيبلغ للعام الجاري 13 مليون يورو، فإن مشاريع التسريح الكثيفة التي تريد الإدارة تطبيقها لخفض العجز وتحقيق التوازن المالي تلقى معارضة قوية وسط مخاوف من ضياع «هوية» الصحيفة، وربما اندثارها على المدى الطويل. ويعكس ما يجري داخل «ليبراسيون» الأزمة شبه العامة، التي تعاني منها الصحافة المكتوبة في فرنسا، بسبب التحولات العديدة ومنافسة الصحافة الإلكترونية وتراجع المبيعات والإعلانات وتنامي ظاهرة الصحافة الورقية المجانية على حد سواء. ويثير ما تعاني منه «ليبراسيون» الأسى والحسرة لدى الكثيرين، ليس لأن الصحيفة المذكورة هي الأقدم أو الأشهر أو الأكثر مبيعا أو لأي سبب آخر من هذا النوع، بل بسبب ما تمثله في فرنسا وفي المنطقة الفرنكوفونية. والمضحك المبكي أن الرجل الذي قد يأتي على يده خلاص الجريدة هو، بمعنى ما، رمز لكل ما حاربته «ليبراسيون» والتيار الايديولوجي والسياسي والفكري، الذي ترفع رايته.

البداية كانت في عام 1981، عندما عرفت «ليبراسيون» أحد أكبر أزماتها، بسبب عجزها المالي المزمن. وفي شهر فبراير (شباط)، توقفت عن الصدور فغابت عن الأكشاك طيلة ثلاثة أشهر، وبالإضافة الى الجانب المالي، عانت الصحيفة من «التحولات» الايديولويجية، التي عرفتها بدفع من مديرها سيرج جولي، الذي انتقل بها من اليسار المتطرف الى اليسار الديمقراطي الاجتماعي، الذي تصادف مع وصول الاشتراكيين الى السلطة في فرنسا للمرة ألأولى منذ قيام الجمهورية الخامسة مع نهاية الخمسينات. وقامت حملة على جولي الذي اتهم بـ«خيانة المبادئ والأسس»، التي نهضت عليها الصحيفة. وعلى الصعيد المادي، ظهر أول إعلان تجاري في الصحيفة في عام 1982 (كان من قواعد الصحيفة عدم نشر الاعلانات التجارية)، وهو ما يبرز التحول العميق الذي عرفته. لكن التسعينات شهدت تراجع انتشار الصحيفة، التي سعت الى تدارك ذلك بتجديد نفسها وإطلاق طبعة محلية، ثم مجلة أسبوعية، وتجديد أسلوبها التحريري والإخراجي والإكثار من الملاحق التي تعالج المسائل السياسية والفكرية والاجتماعية.

لكن هذه المبادرات لم تخرج الصحيفة من ورطتها، إنما ساهمت في تأخير تراجعها، الذي تعرفه حاليا. وفي عام 1994، سعت إدارة الصحيفة الى استرجاع المبادرة والتكيف مع تغير «العادات» الصحافية والتجاوب مع «صورة» القارئ الجديد، فعمدت الى إطلاق «ليبراسيون 3»، التي أريد لها أن تعني الولادة الثالثة للصحيفة. غير أن المحاولة لم تنجح، مما حمل ادارتها على التراجع عنها بعد أقل من عام والعودة الى الصيغة القديمة. أما التوزيع فقد بقي على تراجعه. وما بين 2001 و2005، تراجع بنسبة 20 بالمائة. ليس تاريخ «ليبراسيون» سلسلة غير منقطعة من الأزمات والمشاكل والتراجع. فالجريدة التي يقول عنها فريدريك بوكيه، استاذ علوم الإعلام في جامعة ستراسبورغ (شرق فرنسا)، إنها «كانت بمثابة حاجة ورئة للتنفس لجيل كامل من الفرنسيين، قبل تكاثر القنوات التلفزيونية والإذاعية وانتشار الإنترنت»، عرفت بعض «الساعات المضيئة». ويقول بوكيه لـ«الشرق الأوسط»، إن «ليبراسيون» «وفرت مساحة من الحرية، لم تكن موجودة في مكان آخر بحيث أن قراءة هذه الصحيفة كانت تعكس الانتماءات الفكرية والثقافية والسياسية لصاحبها»، الذي هو غالبا ما يكون «شابا مثقفا ينتمي الى اليسار ولكن غير الشيوعي، وباحثا عن التغيير وعن النقاش والمقارعة الفكرية». وبمناسبة الانتخابات الرئاسية الماضية 2002، التي نجح جلن ماري لوبن، مرشح اليمين المتطرف في الوصول الى الدورة الانتخابية الثانية، وذلك للمرة الأولى في تاريخ الانتخابات الرئاسية، عرف أحد أعداد «ليبراسيون» رواجا استثنائيا، إذ بيع منه 700 ألف نسخة. وخلال السنوات الماضية، كان هم سيرج جولي إدخال ممولين راسخين الى رأسمال الصحيفة لضمان استمراريتها. ففي عام 1993، أدخل الى الصحيفة ثلاثة ممولين، هم انطوان ريبو وجيلبير ترغانو وجيروم سيدو. وفي بداية العام الماضي نجح في إقناع أدوار دو روتشيلد بشراء حصة أساسية في «ليبراسيون»، وقبل الأخير العرض، إذ مقابل حصوله على 38.87 بالمائة من أسهم الصحيفة، قبل بضخ 20 مليون يورو فيها. وكان يفترض أن يكون هذا المبلغ كافيا لتعويم «ليبراسيون» وإطلاقها مجددا.

في اللهجة اللبنانية، ثمة مثل عامي يقول «أدخل الدب الى كرمه». وينطبق هذا المثل تماما على «ليبراسيون» وعلى مديرها سيرج جولي، الذي يجسد تاريخها وتحولاتها. ذلك أن روتشيلد هو في الأساس رجل مال ومصارف. والمفارقة أن يكون هذا الرأسمالي ابن البارون غي دو روتشيلد وسليل العائلة المصرفية المعروفة في باريس ولندن ونيويورك، هو من يهب لنجدة ليبراسيون التي هي صحيفة يسارية، أي مناهضة بطبيعتها لما يمثله أدوار دو روتشيلد صديق مرشح اليمين المحتمل نيكولا سركوزي.

وسريعا ما تدهور مناخ العلاقات بين الداخل من جهة والتحرير والإدارة من جهة أخرى، واشتكى دو روتشيلد من «تهميشه» واستبعاده من القرار في مجلس الإدارة. وساْءت الأمور الى درجة أن الصحافيين أعلنوا الإضراب في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، بحيث غابت «ليبراسيون» عن الأكشاك طيلة أربعة أيام. ولم ينفع الإضراب في تفادي تنفيذ خطة لخفض كلفة صناعة الصحيفة والتكاليف الثابتة، خصوصا كتلة الرواتب والمعاشات. وتماشيا مع هذه الخطة تم تسريح 58 موظفا، ثم جاء سريعا دور سيرج جولي شخصيا. فمع استمرار تراجع التوزيع والمبيعات ورغبة منه في الحصول على الصلاحيات المطلقة، ربط أدوار دو روتشيلد استعداده لضخ اموال جديدة، بتخلي سيرج جولي ولويس درايفوس، المدير العام عن منصبيهما وتسريح دفعة جديدة من الصحافيين والموظفين. ويتراوح هذا العدد ما بين 70 و100 شخص. وإذا كان جولي ودرايفوس قبلا الرحيل من أجل إنقاذ «ليبراسيون» في شهر يونيو (حزيران) الماضي، فإن الصحافيين والعاملين في الجريدة والنقابات التي ينتمون اليها ما زالوا يرفعون شعار المقاومة والدفاع عن حريتهم ودعوة المساهم المالي الأول الى تحمل مسؤولياته وتوفير ما يلزم من الأموال للمحافظة على استمرار «ليبراسيون». وهكذا تجد «ليبراسيون» نفسها في أزمة حادة، فهي من جهة لا تزال تبحث عن مدير تحرير يخلف جولي والاتصالات القائمة حاليا تنصب على صحافيين اثنين: لوران جوفران، مدير تحرير مجلة «لو نوفل أوبسرفاتور» اليسارية وأدي بلينيل المدير السابق لصحيفة «لوموند». غير أن الأول أعلن عزمه على البقاء حيث هو، فيما الثاني ما زال «يدرس» الوضع ويكتفي بتأكيد وجود «مناقشات» مع ليبراسيون.

ومن جهة ثانية لم يسفر اجتماع مجلس إدارة الصحيفة الأربعاء الماضي عن نتائج حاسمة، إن لجهة الخطة التي يراد العمل بها للحد من خسائر الصحيفة ووقف تراجع انتشارها، أو لجهة الانفصال عن عدة عشرات من موظفيها. ووفق أوساط الصحيفة، فإن خطة روتشيلد تقوم على الوصول الى وفر قيمته 13 مليون يورو، هو قيمة العجز الذي سيصيب الصحيفة هذا العام من خلال التسريح وخفض نفقات الطبع «عبر إلغاء عدة صفحات» والتوزيع «خفض نقاط التوزيع والاستثمار في الجريدة الالكترونية، بحيث يصار لاحقا الى تحويلها الى شركة تابعة. ويريد روتشيلد أن يتخلى الصحافيون والموظفون عن حق النقض (الفيتو)، الذي يتمتعون به إزاء كل القرارات التي تتناول مستقبل الصحيفة. وبما أن هؤلاء يرفضون التخلي عن حقوقهم المكتسبة، فإن مصير الصحيفة على كف عفريت وكل الاحتمالات واردة في الأسابيع والأشهر القادمة.

* الـ«ليبي».. في سطور

* ظهر العدد الأول من صحيفة «ليبراسيون» او «ليبي» كما يسميها عشاقها في الأكشاك في 22 مايو (أيار) عام 1973 بفضل التقاء مجموعة من المفكرين والسياسيين اليساريين، لا بل من أقصى اليسار. وأشهر هؤلاء بالطبع الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر والصحافي الماركسي الماوي سيرج جولي وزميله في الحركة جان كلود فيرنيه وآخرون. وفي بيان سياسي ظهر في 3 فبراير (شباط) من العام نفسه وأريد له أن يشكل القاعدة السياسية التي تنهض على أساسها الصحيفة، دعا الثلاثة «الشعب» الى أن «يصادر الكلام» وأن «يحتفظ به». وشدد الموقعون على البيان على «استبعاد» الإعلان عن الصحيفة، ورفض قبول أية مساهمة مالية وأعلنوا عن إطلاق «استكتاب شعبي» من أجل إطلاق «ليبراسيون»، التي يعني اسمها بالعربية «التحرير». وتولى الفيلسوف جان بول سارتر منصب مدير التحرير الذي يعد الأهم وفق التقليد الفرنسي وبقي فيه حتى 24 مايو عام 1974، عندما تخلى عنه لأسباب صحية. وبعده تولى الصحافي سيرج جولي مسؤولية إدارة الصحيفة. أعقبت انطلاقة «ليبراسيون» ثورة الطلاب في فرنسا في ربيع عام 1968 التي كانت منطلقاتها تغيير المجتمع وطبيعة العلاقات القائمة بين مكوناته. وأفضت ثورة الطلاب الى التسريع في رحيل الجنرال ديغول عن السلطة بعد خسارته استفتاء شعبيا. ومنذ البداية، أرادت «ليبراسيون» أن تكون صوتا مختلفا وحرا بعيدا عن الارتباط بالسلطة أو المؤسسات على اختلاف أنواعها. وكان للصحيفة موقع خاص في إطار الصحافة الفرنسية المكتوبة والإعلام العام لأن الإذاعة والتلفزيون كانا حكرا على الدولة، فيما الصحف اليسارية كانت مرتبطة بالأحزاب إذ تعبر صحيفة «لومانيتيه» عن الحزب الشيوعي وصحيفة «لو ماتان»، التي غابت الآن عن توجهات الحزب الاشتراكي فيما صحافة اليسار المتطرف كانت أقرب الى المناشير الحزبية منها الى صحافة الخبر.